سبحان من جعل هذا اللسان أداةً من أدوات البيان لينتشر كعطر البان ويسري عبر الأزمان يدوّنُه كل بنان وبنان ليشنف الآذان، ومما اخترناه ليكون لنا أنيسا ونمشي به هميسا، وقوفٌ على أهم الأحداث في مسرحية “رواية الثلاثة“، دبّجها بيراعه الأستاذ القدير الإبراهيمي محمد البشير وهي مسرحية شعرية نادرةٌ في فنّها حديثةٌ في عهدها في بلدها؛ إذ لا نعرف لها سابقة في الجزائر سوى مسرحية للشيخ الشاعر محمد العيد آل خليفة تحمل عنوان: “مسرحية بلال بن رباح“، أما في الوطن العربي فقد رأينا بعض النماذج من هذا الفن، مثل مسرحية “الحيوانات المرضى بالطاعون” لأحمد شوقي.
نرى الإبراهيمي يصر على نعتها بالرواية إذ أنّ أبياتَها تقارب التسعمائة، كتبها حين كان منفيّا في مدينة آفلو على الأرجح بين سنوات (1940-1943) وربما يكون قد عدّل فيها و أضاف على ما قاله الأستاذ عبد الملك مرتاض مما لوحظ في النسخة الأصلية من بياض وحذف هنا وهناك، وهي مسرحية كما يقول عنها صاحبها: “أكثر أبياتها لزوم ما لا يلزم“، والفكاهة عليها طاغية والحكمة منها دانية والثقافة فيها عالية.
كتبها عن ثلاثة نفر: مدير ومعلمَان كانوا له أصحابا ولما نُفي انتظر منهم كتابا وطال انتظاره فتصور أنهم اجتمعوا-لبخلهم- لأجل أن يقتسموا كلفة الفرنك الذي كان ثمنا لطابع البريد الذي سيوضع على الرسالة لكن يبدو أن الشّح متمكن من النفوس، لم تُلِنه محبة الشيخ فطال الاجتماع وتحول إلى جلسات، واستُعين بشخص رابع ليبت في الخلاف لكنه يستمر مقيما بينهم إقامة البخل في جيوب هؤلاء المربين ولعلّ الإبراهيمي كتبها لأحد سببين:
- أولهما أن حزنه تفاقم واشتياقه تعاظم وكانت كبده حرّى وعينه عبرى على أصدقائه حين كان في منفاه فكتبها ليسلّي عن نفسه ويسرّي عن قلبه بما يُنَكِّت به عليهم.
- وثانيهما هو أن الإبراهيمي عرف بروحه الهجّاءة فعاب عليهم هذا البخل الشديد إلى درجة ضنّهم بفرنك واحدٍ لشراء الطابع لمراسلة شيخهم الذي طالما غمرهم بإحسانه الأَدبي والمأدُبي.
أو لعل السببين اشتركا في كتابتها.
أسلوب المسرحية طريف مليح وألفاظها وجملها تتراوح بين الجزالة والبساطة والفصاحة والعامية والرصانة والرقة يخاطب بها العامي كما يخاطب بها المتخصص، في نسق محبوك متلاحم ذي نفس طويل وحوار كثير يصل إلى الإسفاف والإطالة مما يعده النّقاد عيبا ومجلبة للملالة، غير أن هذه الأمور كثيرة في الأدب وكثيرا ما رأينا ذلك في عدد من الروايات بل عيون الأدب كألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة مثلا.
فالإبراهيمي بأسلوبه الراقي ولغته المتمكنة من الفنية واقتداره على الصياغة المحكمة يجرى مجرى الأدباء العرب القدماء كالمعري والهمذاني وابن العميد وهو استمرارٌ لمدرستهم، بل إن شخصيات روايته هذه كأنها من بخلاء الجاحظ فهي آية من آيات البخل، وإن كان بخلا مردُّه إلى وجودهم بين نارين، نار الاستعمار الفرنسي الذي حارب اللغة العربية وضيّق الخناق عليها ونار صعوبة إيجاد الوظيفة في زمن انحسرت فيه العربية وتفرنست فيه الدواوين والإدارات ومناصب العمل فلم يعد مكان لمعلمي العربية فيها، لأن الشخصيات جميعها من سلك التربية والتعليم ممن أزرى بهم الفقر وشرد بهم العوز وأخذ بهم البؤس كل مأخذ.
ولو أن الرواية صادفت زمنا غير زمن الاستعمار الذي كانت بيئته الأدبية العربية قفرا يبابا لذاعت في الآفاق وانتشرت في الأصقاع وأصبح لها ذكر على كل لسان.
هذا عرض موجز تعريفي بأهم أحداث مسرحية “رواية الثلاثة” للبشير الإبراهيمي أحد رواد الإصلاح في الجزائر الذي كان أديبا قبل أن يكون رجل دين، فقد حبَّر بقلمه كثيرا من الأشعار والمقامات والقطع المسجوعة والمقالات الأدبية وغير ذلك من أنواع الآثار الأدبية، وهذه المسرحية عينة من هذه الآثار، كتبها بروح صادقة ومشتاقة إلى إخوانه المعلمين المصلحين، غير أنه كان عاتبا عليهم نسيانهم إياه وضنهم عليه برسالة يسألون فيها عن حاله ويخبرونه بأحوالهم، فقد بخل على الرواية حتى بالاسم ورغم أني عثرت على دراسة لإبراهيم بن عبد الرحمن براهمي تحاول تفسير الوحدة الدلالية لعنوان المسرحية إلا أنها لم تكشف خبايا هذه التسمية، بل أقرّ أنه يعكس عدم اكتمال الصّنعة الروائية عنده، وهذا مرده لكثير من الأسباب آنذاك، أهمها ندرة ما يمكن الاستئناس به من الروايات المعاصرة، التي من شأنها تنمية ملكة كتابة الرواية، إضافة إلى البخل والاقتصاد المعنوي، فهو قد بخل عليهم ليس بالعنوان الصريح فحسب، بل بقلة الوحدات الدلالية أيضا.
عكس هذا البخل الذي اتصفت به شخصيات المسرحية، فكان لابد من مجازاتهم مثلا بمثل، ورغم حنينه إليهم وهو في منفاه بآفلو، إلا أنه لم يتوان عن هجائهم هجاء مرًّا، مظهرا مثالبهم و مبرزا معاييبهم وفصّل في ذلك تفصيلا كثيرا طويلا مملّا، وأراد بهذا أيضا أن يهجو الأساتذة بوصفهم بالثرثرة وعدم الالتزام والتهرب من المواضيع التي تحثهم على الإنفاق، فقد اجتمع أربعة منهم ولم يستطيعوا التوصل إلى طريقة يجمعون بها ما قيمته فرنك واحد، ليشتروا به طابعا بريديا، يجعلونه على ظهر رسالة تعود الشيخ في منفاه، وتسري عنه بأخبار أصحابه.
رغم أن المسرحية لم تستوف كل شروط المسرحية الناجحة من حيث الحبكة الفنية المحكمة والفضاء الشعري، إلا أنها محاولة أولى قد تستقيم إذا عثر عليها مخرج مسرحي فذ يعدلها حتى تستقيم أركانها وتتفق أسسها، ويخرجها في نص قابل للتمثيل، وليس بعيدة عن أن توافق هذه الأسس، ويحقق بها رغبة الشيخ الإبراهيمي، في أن تبلغ الآفاق ويوضع لها القبول في الأرض، وترتفع في سماء الأدب.
تدقيق لغوي: كرنيف ربيحة.