يرى كيركغارد أن الأشخاص الذين يصنفون أنفسهم كمسيحيين “كأمر مفروغ منه” يخدعون أنفسهم
عاينا في الأسبوع السابق كيف أن مفهوم كيركغارد للشغف, معتمداً على تحليلات سقراط للإيروس (الحب أو الرغبة)، عبّر عن فكرة أن الوجود البشري شُكل عن طريق الرغبة بشيء نفتقده. تأكيد كيركغارد على “السعي لكي تكون مسيحياً” يتتبع هذا المفهوم للوجود، وهنا مجدداً نلاحظ تأثير سقراط بشكل جلي.
مثل سعي الحبيب خلف حبيبه، يرى سقراط أن الفلسفة هي السعي خلف الحكمة. على أي حال، إن رغبة الفرد للحكمة تثار فقط عندما يدرك أنه لا يملك الحقيقة بعد. هذا يعني أن الافتراض الخاطئ بأن الشخص يملك المعرفة -مثل، أن الفرد يدرك من هو حقاً، أو ما معنى أن تعيش حياة سعيدة- هو أول وربما أعظم عائق في طريق نيل الحكمة.
ولهذا السبب، فإنّ طريقة سقراط الفريدة في الفلسفة تضمنت طرح أسئلة تبيّن للناس مدى جهلهم وتشوّشِهم، ومهيئاً لهم بذلك الطريق لكي يسعوا خلف المعرفة الحقيقية. وبهذه الطريقة، عارض هذا الأثيني الفريد في طريقته للتفلسف رفاقه من المواطنين، وبالخصوص السفسطائيين، الذين كانوا ينشرون أفكارهم على شكل عقيدة. فبينما تصرف هؤلاء المدعوون “بالفلاسفة” كما لو أنهم يملكون المعرفة، وعرضوا هذه “الحكمة” الجاهزة للآخرين (مقابل سعر معين)، أعلن سقراط أنه لا يعرف شيئاً، وبيّن كيف أن افتراضات معاصريه وادعاءاتهم هي شكل أكثر تطرفاً من الجهل.
وصف كيركغارد نفسه ك”سقراط العالم المسيحي”. تعتبر فكرة العالم المسيحي عتيقة بالنسبة للمجتمعات الغربية ذات الثقافات المتعددة، ولكنها كانت تستخدم في القرن التاسع عشر للإشارة “لمملكة” التي تجمع الدول المسيحية. على أي حال, فكيركغارد يستخدم المصطلح بصورة سلبية لانتقاد فكرة أن كون الأفراد مسيحيين هي ببساطة مسألة أن يولدوا ويشبّوا في مجتمع معين ويتأقلموا مع عاداته، مثل التعميد أو الذهاب إلى الكنيسة في الآحاد. فكما تحدى سقراط أدعاء السفسطائيين بأنهم يملكون المعرفة، كذلك يرى كيركغارد أن الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم مسيحيين “كأمر مفروغ منه” يخدعون أنفسهم. في الواقع، فقد جادل كيركغارد بأنه من الأصدق الكلام عن “السعي لكي تكون مسيحياً” أكثر من “كونك مسيحياً”. وبكلمات أخرى، فأن المسيحية عبارة عن هدف لا يمكن الوصول إليه- ليس في هذه الحياة على أقل. فوفقاً لكيركغارد، فإن الحياة المسيحية تتضمن سعياً دائما. ومن وجهة نظر فردية، فهذا يعني تجديد العلاقة مع الله بشكل متكرر، في كل لحظة.
لا تنتهي التشابهات مع مشاريع سقراط الفلسفية عند هذه النقطة فقط. مستلهماً ادعاء المفكر الإغريقي بأنه لا يعرف شيئاً، كتب كيركغارد بعض كتبه من وجهة نظر شخصيات خيالية تدعي أنها ليست بمسيحية أو أنها فاقدة الإيمان. يوحنا الصامت هو أحد هذه الشخصيات وهو الاسم المستعار الذي استخدمه كيركغارد لكتابة خوف ورعشة. معلقاً على القصة الإنجيلية لإبراهيم وإسحاق، يصرّ يوحنا على أنه لا يملك نفس الإيمان بالله كالذي يملكه إبراهيم، ويعترف بأنه لا يستطيع استيعاب إيمان إبراهيم. عن طريق هذا الأسلوب من “التواصل الغير مباشر”، يسعى كيركغارد لهز افتراضات قرّائه عن ما يكونه المسيحي المؤمن. فلو وجدت القارئة نفسها بعد التفكر بمسألة استعداد إبراهيم لقتل ابنه الوحيد متفقة مع وجهة نظر يوحنا الصامت بأنه لا يمكنه القيام بعمل مماثل، فعندها ستضطر هي للتساؤل حول ما إذا كانت هي نفسها تملك إيماناً أم لا.
أن ادعاء كيركغارد أن الحياة المسيحية يجب أن تفهم في نطاق عملية السعي لكي يكون الفرد مسيحياً يستدعي مفهومان مختلفان للهوية المسيحية. فوفقاً للمفهوم الأول, فالمسيحي هو الفرد الذي يؤمن بمجموعة من الأشياء، والذي يلتزم بقيم أخلاقية معينة، ويستعمل مفردات معينة، ويشارك في فعاليات معينة. ويمكن اعتبار هذا الشيء هو الهوية المحددة، والمتفق عليها، والمتعارف عليها اجتماعياً. أما وفقاً للمفهوم الثاني على أي حال، فمعنى كون المرء مسيحياً ليس محدداً أبداً، ولكنه مفتوح دوماً للنقاش. يمكن لملاحظة قدّمها أحد أصدقائي مؤخراً –وهو قسّ قد قضى عدة سنوات في قراءة كيركغارد- أن تساعد في توضيح هذه النقطة. مستفهماً حول طبيعة الصلاة، سألت صديقي إن كان يصلي بشكل دائم. وقد بدا مهزوزاً بهذا السؤال، ولكنه أجابني: “نعم, أنا أصلي يومياً. ولكن سواء أكنت أصلي أم لا فتلك مسألة أخرى.”
يلتقط هذا التفريق المحيّر ما بين “الصلاة” و “الصلاة” شيئاً مهماً في فكر كيركغارد المسيحي. يقترح هذا التفريق أن “الصلاة”(أو “أن يكون الفرد مسيحياً”) في معناها الثاني أكثر صدقاً وأهمية، ولكنها كمفهوم أكثر مراوغة، من أشكال الدين التي يسهل تمييزها. ولهذا السبب، فإن عملية الإيمان تبدوا محاطة بالشك على الدوام في أعمال كيركغارد. فهل يعني هذا التحليل أن المسيحية الكيركغاردية متفردة، وربما حتى معادية للمجتمع؟ هل تتطلب هذه الطريقة من “المسيحي الحق” أن يدير ظهره للطرق التقليدية في ممارسة عقيدته؟ أو هل هناك احتمال أن يستطيع الفرد التعايش مع هوية مسيحية محددة اجتماعياً بطريقة تفسح المجال للشك والتساؤل حول كون الفرد مسيحياً حقيقياً أو لا- وحتى حول إذا ما كان الفرد قادرا على معرفة ما معنى أن يصبح واحداً؟
المصدر: https://www.theguardian.com/commentisfree/belief/2010/apr/12/kierkegaard-philosophy-christianity
تدقيق لغوي: سليم قابة.