مُسلسل أناس عاديون – Normal People: المرحلة الجامعية بعيون العاطفة.

الجميع يعلم بأن الأعمال التلفزيونية تَعج بقصص الحب المُبتذلة، حتى أصبح من الصعب جدا التوجه لمشاهدة هذا الطابع دون اللف والدوران على الإنترنت في مواقع التقييمات مثل imdb و Rotten Tomatoes أو حتى الاستعانة بذوق أكثر من صديق. ولا أعتقد أن هذا الأمر يقتصر على القليل من المشاهدين فقط.

مُشاهدة مُسلسل أو فيلم ما -مهما كان الطابع- تُعد استثمارًا متعدد الصفات، فهي من ناحية استثمار في عقل المُشاهد على شكل سيناريو (أو أكثر) يتكامل في لوحة مُوحدة مُتجانسة. ومن ناحية أخرى، استثمار بصري على شكل تصوير سينمائي يستغلّ كل ما يتعلق بالكاميرا من زوايا تصويرٍ وألوان وضوء لتلوين لوحة السيناريو بشكل يخدم مسار القصة ويُضفي عليها طابع العُمق الذي تحتاجه لِتُروى.

مُسلسل Normal People (أُناس عاديون) الإيرلندي، من إنتاج BBC Three و Hulu -بالاشتراك مع التلفزة الإيرلندية- هو عمل تلفزيوني يقبع تحت مظلة الاستثمار السينمائي الرزين، خاصة لأولئك الذين يبحثون عن الفرجة الرومانسية التي تكون خارج مُعترك ما هو مُبتذل. هذا المسلسل المحدود* مأخوذ عن رواية بنفس العنوان للكاتبة الإيرلندية سالي روني (Sally Rooney)، أين نُتابع، على مدار ثلاث سنوات، قصة ماريان وكونال، التي لم تتوقف عند كونها قصة حب فقط، بل ذهبت أيضًا إلى أبعاد أُخرى كالصّداقة والمرض النفسي والبحث عن الذات ورحلة استكشاف الجسد.

المشهد الأول

يقف كونال أمام مكتبةٍ في منزل ماريان مُنتظرا أمّه وحاملا لكتاب ما.

ماريان: “يمكنك استعارته”

كونال: “آه، سبق وقرأته”

ماريان: “فعلا؟ هل هو جيد؟”

كونال: “نعم، هو جيد، يتمحور كثيرا حول النسوية، سيعجبك”.

تُلقي الحلقات الأولى من المسلسل الضّوء على السنة الأخيرة في الثانوية لماريان وكونال -اللذان يدرسان بنفس الصف- وعلى العلاقة العاطفية التي تكونت بينهما. وبالرغم من أن ماريان فتاة منعزلة اجتماعيًا لا يكاد يخرج من فمها إلا التعليقات الحادة لمن حولها في المدرسة، إلا أن كونال، وبحكم أن أمه تعمل منظفة في بيتها، تمكن من رؤية جانب آخر من شخصيتها بعيدًا عن التنمر الذي يطالها في الصف.

تبدأ العلاقة بينهما بكل عفوية، إلا أنها تظل طيّ الكتمان، فكونال لم يُرد أن يعلم أصدقاءه أنه يواعد “القبيحة، ذات الصدر المُسطح” كما نعتها أحدهم يومًا ما. ومن هنا يأخذ المسلسل في سبر أغوار ما يعانيه المراهقون أحيانًا من ضغط الأقران (peer pressure) وصعوبة في التّعبير عن أنفسهم أو معرفة ما الذي يريدونه تمامًا وكذا تعرضهم إلى التنمر الذي ينتشر بكثرة في المدارس.

المشهد الثاني

مقاطع من حياة ماريان في سنتها الجامعية الأولى، مع أغنية Drop ل Hope Sandoval في الخلفية.

تنتهي مرحلة الثانوية بانفصال ماريان عن كونال (لرفض الأخيرة خجل كونال من الاعتراف بها كحبيبة له أمام أصدقائه)، لتبدأ مرحلة الجامعة بماريان أُخرى، إذ بدأت تهتم بشكلها أكثر وكوَّنت دائرة معارف كبيرة جدا كنوع من أنواع الانسلاخ عن كل ما يذكرها بتجاربها -التي تكاد تُعد على اليد الواحدة- في الثانوية. يلقي هنا المسلسل الضوء على المرحلة الجديدة التي تفرضها الحياة الجامعية على معظمنا والتذبذب الذي يطال رحلة البحث عمّا نريده ومن نكون. تُناقَش قضية الدوائر الاجتماعية والتعرف على الذات من خلال “الأصدقاء” ضمن هذا النطاق أيضا.

تشمل نفس الجامعة -كلية الثالوث (Trinity College)- كلّ من ماريان وكونال، لتجمعهما مجددا، تارة ضمن علاقة عاطفية وتارة أخرى على شكل صداقة. تم التعامل مع قضية العلاقة العاطفية هنا بشكل واقعي. فالانفصال لا يعني أبدًا البكاء على الأطلال والتشبث بالوحدة. وبالرغم من المشاعر التي تربطهما إلا أن الشخص لا يكون دائما مناسبا لكل الفترات، خصوصا مع التغيرات التي ترميها الجامعة أمام سبيل الفرد. ضمن فترات الارتباط التي تجمع ماريان وكونال، يتم التعامل مع علاقتهما بجسديهما بطريقة متجلية وواعية وواقعية، أين يكون القبول واحترام حدود الآخر هما أهم ما يميز المشاهد البالغة.

المشهد الثالث

يتحدث كونال مع ماريان عبر سكايب بوجه شاحب:

“لا أشعر بأي شيء، ثم أبدأ بالبُكاء أو تعتريني موجة قلق كاسحة، لذا أعتقد بأنني أشعر فعلا إلا أن الأمر لا يبدو منطقيا…أنا تعب جدا”.

ماريان: “أفهمك جيدا”.

من أهم المحاور التي استطاع المسلسل طرحها بشكل يلامس المُشاهد -خاصّة الطالب الجامعي- قضية الاكتئاب وما ينتج عنها من نتائج كالانتحار والقلق الاجتماعي والانفصال عن الواقع. تبدأ معاناة كونال مع الاكتئاب عندما ينتحر أحد أصدقائه، الأمر الذي يدفعه لإلقاء اللوم على نفسه لعدم تمكنه من مساعدته. تُتابع المشاهد الكيفية اللازمة للتعامل مع الاكتئاب من خلال كونال، إذ أنه لم يُترك وحيدا ولم تُقزم معاناته من طرف المحيطين به، بل دفعه أحد أصدقائه لزيارة مختص ووقفت ماريان بجانبه، رُغم بعد المسافة بينهما (لأنها غادرت لسنة لأجل منحة دراسية)، من خلال وسائل التواصل المُختلفة. مرت ماريان بتجربة اكتئاب أيضًا عند ذهابها لبلد آخر، وهذا الذي جعل معاناة كونال مفهومة بالنسبة لها.

المشهد الرابع

يُحدق كونال في شاشة حاسوبه وعلامات القلق بادية على وجهه.

ماريان: “أنت بخير؟”

كونال: “نعم، إنه هذا البريد فقط، تم إرساله لي من جامعة ما في نيويورك. يعرضون عليّ مكان هناك في دورة للكتابة الإبداعية”.

يعود ليجتمع كل من ماريان وكونال معًا في سنتهما الجامعية الأخيرة في علاقة صحية. يُشفى كونال من الاكتئاب (أو على الأقل يُصبح قادرًا على التحكم به) ويبدأ كل منهما بالتفكير في الآتي ومفاد الخطوات القادمة. تعالج هذه الجزئية قضية الطموح الذي يتشكل غالبا في السنوات الأخيرة من الجامعة، كما أنها تطرح قضية أهمية الصداقات التي تكون عادة جزءًا مهما من “نجاتنا” وصقل شخصياتنا كطلبة جامعيين. ويُبين المسلسل في الأخير أن العلاقات الجيدة لا يمكن أبدا أن تقف في طريقنا نحو تحقيق أنفسنا. شجعت ماريان كونال على قبول العرض والسفر لدراسة ما يحب: الكتابة، ولم تجعله يعدها بأنه سيعود قائلة: “أنت لا تعلم أين سيكون كلانا أو ما الذي سيحدث”.

أناس عاديون لا يقف عند قصة حب فقط، بل يذهب لأن يكون بورتريه درامي تختلط فيه العديد من القضايا التي تواجهنا في أحد أهم مراحل حياتنا: الجامعة. ومن خلال شخصية لوريان وكونال، يعرض المسلسل أمامنا ما يمكن لحيوات جد طبيعية أن تحمله من تفاصيل عاطفية ومعرفية ونفسية لها أن تكون دليلا مُصغرا عن كيف يجب أن تبقى تصوراتنا عن العلاقات العاطفية جيدة، لكن واقعية.

*مسلسل محدود: برنامج تلفزيوني يحتوي على عدد محدد مسبقًا من الحلقات التي تحكي قصة كاملة، وعادة ما يكون أطول من المسلسل القصير.

كاتب

الصورة الافتراضية
BENZERGA Rokia
المقالات: 0

اترك ردّاً