لم يثق أفلاطون في الفن ولطالما اعتبره مضللاً خطيراً، لكنّ تخوفه من الصور ذاك ما هو إلاّ ناتج عن تقديره لقوّتها، فمثل غيره، عاش أفلاطون في عالم لا مفر فيه من الصور، بل وكان يستخدمها وبقوة كوسيلة لمناقشة أفكاره -يقول رادكليف إدموند.
تتجلى قوة الصور في قدرتها على إثارة حواسنا سواءً من خلال الرؤية أو السمع أو اللمس، وترسيخ إعجابنا بها في أذهاننا. يشتهرأفلاطون بامتعاضه بعدم ثقته في الصور والأشخاص الذين يصنعونها على حدٍ سواء. جمهوريته مليئة بالنقاشات حول إبعاد الشعراء من المدينة وتقييد ماذا ومتى وكيف يمكن تداول الصور. لكن شكوك أفلاطون تنبع من تقديره لقوّة الصور ومخاوفه حول كيفية إساءة استخدام تلك القوة.
نرى هذا التقدير نفسه في استخدام أفلاطون للصور، وليس فقط أساطيره المتقنة المليئة بالصور الحيّة عن عذاب الآخرة أو شكل الجنّة، ولكن حتّى في اختياره لصيغة الكتابة. فقد اختار أفلاطون تجسيد المحادثات كبديل للأطروحة التفسيريّة، يعني تمثيل للمحادثات يكون مليءاً بتفاصيل الأشخاص والأماكن والأشياء التي تمت حياكتها من خلال الكتابة. هذه الصور لسقراط يشرب الشوكران بينما أصدقاؤه ينتحبون حوله*1، لالكبياديس المخمور في المدخل وراء أكاليل اللبلاب والبنفسج*2 ،وعرّاب الرّوح وهو يسحب بعنف زمام الحصان عندما يلمح الحبيب*3، كلها تعلق في الذاكرة.
بالنسبة لأفلاطون، فإنّ المشكلة الأساسية للصور هي أنّها تشبه وتختلف بآن واحد عن الشيء الحقيقي … دائمًا ما تنطوي الصور على بعض التشويه للواقع.
كيف لنا تحدي قوة الصور إذاً، ونحن نعلم أنّ ما يظهرونه ليس واقعيّا أمام أعيننا. تعيد الصورة تقديم شيء آخر( أو ربّما معنًى آخر) لنفس الشيء المصور و تقدمه (هذا الشيء أو المعنى الآخر) للملاحظ، ولكن بطريقة وسيطة لم تكن لولا وجود هذه الصورة. بالنسبة لأفلاطون، فإن المشكلة الأساسيّة للصور هي أنّها تشبه وتختلف بآن واحد عن الشيء الحقيقي. ذلك يعني أنّه قد يتم فهمها بشكل مختلف عن الحقيقة، حتّى أنّها تعطي أحياناً المشاهد انطباعًا خاطئًا. مما يجعلنا نعيد تكرار القول حسب أفلاطون بأنّ الصور تتضمن دائمًا بعض التشويه للواقع.
إذا استخدمنا مثال سقراط للوهم في جمهورية أفلاطون، تأويلا لفهم صورة كيف تبدو العصا تحت الماء، إذا اعتقدنا أنّ العصا مثنية كما تبدو، فإننا نفشل في فهم شكلها المستقيم الفعلي. بطريقة مماثلة فإنّ القمر ليس “سفينة أشباح”*4 مقذوفة في بحر عاصف. لا توجد سفينة تبحر في السماء متوهجة بضوء غريب، ولا السماء حقًا محيط تعج به العواصف.
الحل في التّعامل مع الصور كعلاماتٍ أو تشبيهاتٍ يمكن أن تساعدنا على رؤية ما وراء الصورة إلى العالم الحقيقي. نرى أنّ القمر يبدو وكأنّه يدخل ويخرج من الغيوم مثل سفينة تقذفها الأمواج، ويمكننا استخلاص أنّ العصا -التي تبدو وكأنّها منحنية- ستنجلي استقامتها عند سحبها من الماء. إذا نظرنا إلى ما وراء الانطباع المباشر الذي تتركه الصورة، فيمكننا استخدام العقل للحكم عليه بشكلٍ أكثر دقة.
لا ينسينا هذا أنّه كلما زادت قوة الصورة، زاد الخطر الذي نركزه على الصورة نفسها دون التّفكير فيما تمثله. كما يشير سقراط في الفايدو*5، نحن ننجذب بسهولة بالصور التي تنتج رد فعل ممتعً أو مؤلمً فينا، خاصّة الظواهر البصريّة. بالنّسبة لأفلاطون فإنّ الجمال هو أكثر ما يؤثر علينا ويدفعنا إلى الافتتان. في كتاب فايدروس، يجادل سقراط بأنّ من بين جميع الحقائق مثل العدالة أو الحكمة، فإنّ الجمال هو أكثر ما يمكن إدراكه بسهولة من قبل حواسنا. وهكذا، عندما نلتقي صورة جميلة، فإننّا نشعر بالإعجاب، نٌتيم بهيئتها الساحرة.
إتخاذ الصورة بحد ذاتها كتجسيم لافتتاننا يشبه محاولة ممارسة الحب مع تمثال للحبيب بدلاً من التّفاعل مع الحبيب نفسه. يستخدم أفلاطون هذا التوق الإيروتيكي كصورة للفلسفة، الرّغبة في إدراك الحقيقة وراء المظاهر.
مثل أي تشكيلة من الصور، اللّغة، كلاهما يفشل في نقل ما يمثله ويخاطر بخداع المتلقي ليصدق أنّ هذا هو الواقع.
في حين أنّه لا يمكننا حقًا الوصول إلى الواقع الذي يقبع وراء المظاهر، تماماً مثلما لا يمكننا النّظر مباشرة إلى الكسوف. يقول سقراط في الفايدو، أنّه علينا دراسة الواقع من خلال انعكاس صورته في الماء أو في وسيلة أخرى.
بدا لي، منذ أن أقسمت أن أنظر عن كثب إلى الأشياء الحقيقيّة، يجب أن أكون حريصًا على ألاّ أعاني ما يعاني منه أولئك الذين يحدّقون في الشمس أثناء الكسوف وينظرون إليها عن كثب. فبعضهم يفسدون أعينهم، إلّا إذا نظروا عن كثب إلى إنعكاسها في الماء أو شيء من هذا القبيل. (فاداو من99)
كوننا كائنات متجسدة، لا يمكننا الاستغناء عن الصور والتمثيلات، نحن نعتمد حتمًا على حواسنا لتزويدنا بعلاماتٍ لتفسير ما يحوم بنا. يرى أفلاطون أنّ حتّى اللّغة هي استخلاص لمجموعة من الإشارات والصور فحسب. مثل أي تشكيلة من الصور، اللّغة، كلاهما فشل في نقل ما يمثله ويخاطر بخداع المتلقي ليصدق أنّه هذا هو الواقع. يجب التعامل مع هذه العلامات على أنّها نوع من الألعاب، لا تؤخذ على محمل الجد في حدّ ذاتها، بل تستخدم كوسيلة لتتبع المسار الذي يسمح لنا للوصول لفهم ما وراءها.
الآن في عالمنا المعاصر هذا، لا يمكننا الهروب من مشكلة الصور المغرية والقويّة ببساطة عن خلال حظر الإعلانات أو فرض رقابة على TikTok وألعاب الفيديو العنيفة. قد تتضمن هذه الوسائط بالفعل صورًا ضارة لمن يستقبلونها. لكن المشكلة الأكثر جوهرية في الموضوع تكمن في كيفية تفكيرنا في الصور بجميع أنواعها. يمكننا أن نختار أن نخدع بالصور (وأن نقبل المتعة أو الألم الذي تجلبه) أو يمكننا استخدام عقلنا لتقييم ما وراءها. لنستحضر واحدة من أكثر صور أفلاطون التي لا تنسى، أسطورة الكهف*6، يجب ألاّ نبقى مفتونين فقط بالظلال على الحائط، علينا أن نتوجه بالبحث عن ما ينتج عن تلك الصور لأنّ الأشياء الحقيقيّة التي تشير إليها الصور بمثابة إشارات.
لن نتمكن أبدًا من تجنب خطر إساءة استخدام الصور التي نصنعها، أو إساءة فهمها.
مثل أفلاطون، يمكننا جميعًا الاستفادة من قوّة الصور في الواقع يجب علينا استخدام الصور إذا كنا نأمل في التواصل. كل الكلمات، المنطوقة أو المكتوبة، هي نوع من الصور. ومع ذلك، لن نتمكن أبدًا من تجنب خطر إساءة استخدام الصور التي نصنعها، أو إساءة فهمها. أنهار النار في العالم السفلي هي إحدى صور أفلاطون مثلاً. كيف كان سيشعر لو رأى استيلاء الدعاة الإنجيليين عليها متوعدين باللعنة؟
ابتكر أفلاطون صوراً لا تنسى لإيصال أفكاره الفلسفيّة لطلابه في أكاديميته. و حتّى بعد ألفي سنة ونصف، لا تزال صوره تمتلك القدرة على إثارة أرواحنا.
الهوامش:
1-لوحة موت سقراط لوحة فنيّة مرسومة بالزيت عام 1787 بواسطة الرسام الفرنسي جاك لوي دافيد تجسد موت سقراط و هو يشرب الشوكران و هو سم.
2-لوحة للرّسام الألماني أنسيلم فيورباخ من ج. 1869 و 1874 من لحظة من ندوة أفلاطون، عندما دخل السيبياديس المخمور والمحتفلين منزل الشاعر أغاثون.
3-عراب الروح: هو جزء مهم من التقاليد الروحيّة والفلسفيّة الغربيّة والعالميّة. إنّه يقدم استعارة غنيّة للرّوح ورحلتها. يجب على كل شخص لديه نفس أن يقرأه! يتم تصوير الروح كمركب من ثلاثة مكونات: العجلة (السبب)، وحصانان مجنحان: أحدهما أبيض (الروح ، العنصر القابل للغضب، الجرأة) والآخر أسود (عنصر الشهية، الشهوة، الرغبة). الهدف هو الصعود إلى المرتفعات الإلهية لكن الحصان الأسود يسبب مشاكل.
4-سفينة الأشباح : The Ghost Galleon
5-فايدو أو فيدو المعروف أيضا باسم “عن النفس” هو أحد حوارات أفلاطون الكبيرة من فترته الوسطى، إلى جانب الجمهورية والندوة، حيث يصور حوار فيدو وفاة سقراط، وهو أيضا الرابع والأخير بين حوارات أفلاطون والذي يفصل الأيام الأخيرة من حياة الفيلسوف، يناقش سقراط في الحوار طبيعة الحياة الاخرة في يومه الأخير قبل إعدامه عن طريق شرب الشوكران.
6-أسطورة الكهف: أسطورة الكهف هي قصة ذكرها أفلاطون على لسان سقراط في كتابه الجمهورية أراد بها تمثيل حقيقة الوجود الإنساني في هذا العالم.
المصدر: هنا
روابط الصور المدرجة: