التجارب الفكرية: الأفلام التي تحولنا إلى فلاسفة

إنّ مجال الأعمال الترفيهيّة مبني على التسلية، صحيح؟ يجب أن تكون متابعة الأفلام أمراً ممتعاً. نريد أن نضحك ونبكي ونتعجب مع ارتفاع حدّة المشاعر فينا عندما تعلو الموسيقى وتقترب العدسة من أجل الحصول على لقطة شديدة القرب… ولكن هل نريد أن نفكر أيضاً؟

قد يتمنى المسوقون أن يكون الشيء الوحيد الذي يفكر به المشاهدون بعد خروجهم من السينما هو أين يمكنهم إيجاد ذلك المنتج الذي تم تقديمه على الشاشة الكبيرة. ولكن أغلبنا-الفلاسفة المعاصرون مشمولون كذلك-نملك أمالاً أعلى من ذلك.

تدفعنا بعض الأفلام للتّفكير، وهناك فصيلة جديدة من الفلاسفة المتحمسين حول إمكانية إيصال الأفكار الفلسفيّة عن طريق الأفلام.  يدّعي كل من مايكل نيفين وداميان كوكس أنّ فلم المصفوفة(The Matrix 1999) يدعو المشاهد للتّساؤل حول أفكار فلسفيّة من قبيل “ما هو الواقع؟”

حبة زرقاء، حبة حمراء، ماذا ستختار؟

على نيو (كيانو ريفنز) أن يختار بين حبتين زرقاء وحمراء. إحداهما تسمح له بالاستمرار بعيش حياته التي كان يعيشها، والتي هي عبارة عن وهم، والأخرى توقظه لحقيقة أنّ حاسوباً يدعى بالمصفوفة كان يسيطر على جميع تجاربه حتّى هذه اللحظة. أي حبة ستختار أنت؟

يمكننا أن نرى عن طريق قص حكاية نيو أنّ الفلم يمكنه أن يكون الوسيط المثالي من أجل تصوير “التجارب الذهنيّة”، الأمثلة التقليديّة والخياليّة المستخدمة من قبل الفلاسفة  لاستكشاف الأفكار.

في اليونان القديمة، ناقش الفلاسفة أمثال أفلاطون (429-47 ق م)  التّجرِبة الفكريّة التقليديّة والمعروفة باستعارة الكهف للتّفكر بقدرتنا على الثقة بمعرفتنا للعالم التي نكتسبها عن طريق حواسنا. إّن السؤال الفلسفي “هل العالم هو كما يبدو عليه حقاً؟” يناقش بشكل مفصل في أفلام مثل “المصفوفة The Matrix”  وفلم “إستهلال، Inception “.

تُصور هذه الأفلام أفكاراً فلسفيّة تُدرس في نظرية المعرفة، والتي تسأل ما هو الشيء الذي يمكننا معرفته وسواءً أكنا نملك أسباباً منطقيّة للثقة بأنّ العالم هو حقاً كما يبدو لنا.

إنّ التجارِب الفكريّة التقليديّة تُبعث حيّة وتصبح أكثر إقناعاً حتّى عندما تصور على شاشة السينما؛ يدعي فلاسفة من أمثال توماس وارتنبرغ أنّه “يمكن للأفلام أن تمنح المفاهيم والأفكار الفلسفيّة شكلاً بشرياً ممّا يسمح للوعي البشري بإدراكها بصورةٍ مباشرة”.

شرح عالم الأحلام، فلم إستهلال Inception

بالنّسبة للفلاسفة الذين يثنون على الأفلام، فهنالك الكثير للثناء عليه. يمكن للأفلام أن تقدم أفكاراً فلسفيّة لجمهور واسع ويمكنها أن تجعل هذه المفاهيم أكثر وضوحاً وإثارة من مقالة تقنيّة منشورة في مجلة أكاديمية.(لا تسيئوا فهمي، بالتّأكيد هناك مجال لهذه المقالات أيضاً.)

يعطي وارتنبرغ فلم “إشراقة أبديّة لعقل نظيف، Eternal Sunshine of the Spotless Mind 2004” كمثال، والذي يعرض ماذا يمكن أن يحدث لو سُمح للنّاس بأن يمسحوا ذكرياتهم عن علاقة فاشلة سببت لهم الأسى. ورغم ذلك، فما إن فكّر المشاهدون أو تأملوا هذه الأفكار، فهل هم “يمارسون” الفلسفة حقاً؟

إنّ الادعاء بأنّه يمكن للأفلام أن تكون فلسفيّة لا يعني أنّ غالبيّة الأفلام كذلك، أو أنّ غالبية المشاهدين يخوضون في الفلم الذي يشاهدونه بشكل نقدي. ربّما هذا هو السبب الذي لم يجعل جميع الفلاسفة متحمسين دوماً حول فكرة دفع الأفلام للمشاهدين للخوض في تأملاتٍ حول الحياة، والحقيقة، والأخلاق.

عبّر عدد من المنظرين أمثال تيودور أدورنو و ماكس هوركهايمر عن خوفهم في ثلاثينيات القرن الماضي من تحول استوديوهات هوليوود إلى شيء مشابه للدّعاية النازية. باعتباره أكاديمي يهودي يعمل في أمريكا في عهد أنظمة الاستوديو، فقد أنصب أدورنو قلقه على أنّ عملية التصنيع العملاقة وانتشار الأعمال الفنيّة بشكل واسع ستقوم برسم نظم اجتماعيّة بوصفها واقعاً غير قابل للتغيير.

فإذا لم تستطع مخيلة المشاهد أن تتوغل وتتفاعل مع الرّسالة المصورة من خلال الوسيط السينمائي، فعندها لا يمكن للمشاهدين أن ينقدوا الوضع الأخلاقي والاجتماعي الحالي الذي تم تصوريه؛ وبدلاً من ذلك، يتلقى المشاهد الصورة ببساطة، وتعزز الصور النمطيّة المصورة.

بينما يكون من المحتمل أنّ أدورنو قد بالغ في القلق حول الموضوع، فعلينا أن نعترف أنّ أفلام هوليوود وبوليوود ما زالت تعتمد وبشكل واسع على الصور النمطيّة. فكّر بصيغ الأفلام الرومانسيّة الكوميديّة أو سلاسل سباق السيارات التي لا تنتهي.

هل يجب علينا أن نقلق من كون المشاهدين يتشربون هذه القصص والأنماط الاجتماعيّة التي تحويها بشكل سلبي ومن دون تفكر؟ هذه الصور تحوي قيماً. فهل تؤثر سلباً على ارتباطنا بالآخرين وكيف نرى الرجال، أو النساء، أو الثقافات، أو شكل العلاقات الرومانسيّة؟

ليس من السهل الإجابة على هذا السؤال كما أنّ الناس يقلقون في الغالب من-يمكن القول- تأثيرات التصوير المثير للعنف. على الرغم من قيام عدد من الدّراسات التجريبيّة حول هذا الموضوع، إلاّ أنّ علماء النّفس لم يصلوا إلى رأي موحد. وفي الأثناء، حتّى المنظرون أمثال أدورنو يعترفون أنّ الأفلام تعكس المجتمع وستتغير فقط بتغير المجتمع.

وبالتالي، أظن أنّ التّفكير النقدي يجب أن ينخرط وبشكل مبكر. فبحلول الوقت الذي تختار فيه أي الأفلام تُشاهد، من المرجح أنّك إمّا  تتفكر بشكل نقدي حول ما تشاهد أو لا.

بالتّأكيد يمكن للأفلام  أن تعطي منظوراً جديداً ومتنوعاً، مانحة المشاهد الفرصة للانخراط بشكل خيالي في قصصٍ وشخصياتٍ لربما لم يكن ليقابلها في الحياة الواقعيّة. يعود الكثير من الفضل حول مسألة التوعيّة بمرض الـ HIV والأيدز في تسعينات القرن الماضي للممثل توم هانكس الذي مثل دور البطولة في فلم Philadelphia.

ورغم ذلك، وللأسف، فإنّ أغلب الأفلام الشهيرة التي تستهلكها الفئات العريضة تروج للأنماط الاجتماعيّة والقيم الأخلاقيّة الملتوية، مثل الأفلام الرومانسيّة الكوميديّة وبطلاتها المتلهفات للحب، والبطل الذي يتجنب الالتزام والنهاية المتوقعة المليئة بالورود والابتسامات والفستان الأبيض.

حتّى الممثلة كاثرين هيغل اعترفت أنّها قد لعبت دور البطولة في الكثير من الأفلام الرومانسيّة الكوميديّة حتّى أصبحت روتينية ولا تشكل أي تحدٍ في العمل.

تُصور أفلام هوليوود الرائدة بشكل يلامس الجميع، والكثير منها ببساطة لا يشجع على المشاركة الفعالة، والنقديّة، والتخيليّة للأنماط الاجتماعيّة التي تعرضها. فعلى الرّغم من أنّ هذا الشيء لا ينفي إمكانيّة “قيام” الأفلام بالفلسفة، إلاّ أنني أعتقد أنّه يسلط الضوء على الحاجة للتّركيز ليس على الأفلام لذاتها فقط، بل أيضاً على المشاهد الناقد (أو السلبي) الذي يشاهد الفلم.

المصدر: هنا

تدقيق لغوي: ميّادة بوسيف.

كاتب

الصورة الافتراضية
Sajjad Thaier
المقالات: 0

اترك ردّاً