في خمسينيات القرن الماضي لاحظ عالم الفيزياء والروائي البريطاني “تشارلز بيرسي سنو”charles percy snow (1905 ـــــ 1980)، الفجوة القائمة في التواصل بين أولئك الذين يتخصصون في العلوم الإنسانية والاجتماعية وأولئك الذين يتخصصون في العلوم الطبيعية والتطبيقية، فانتقاله الدائم بين هاذين المجالين جعله يدق ناقوس الخطر بخصوص المعضلة التي أسماها “معضلة الثقافتين”، يقول سنو: «كنت أشعر باستمرار بأنني أنتقل بين مجموعتين متماثلتين في الذكاء ومتطابقتين في الأصل، وغير مختلفتين اختلافا كبيرا في المنبت الاجتماعي… إلا أنهما توقفا تماما عن التحاور، ولا يجمع بينهما في المحيط الفكري والأخلاقي النفسي إلا النزر اليسير».
من هنا كتب “سنو” تقريرا بعنوان: “الثقافتان: the two cultures”، وأشار إلى أن هذا الواقع من شأنه أن يؤدي إلى انقسام حاد داخل المجتمع، ولذلك دعا إلى ضرورة التكامل بين الثقافتين، وقد أثار تقريره الذي تقدم به إلى جامعة كمبرج سنة 1959 نقاشات واسعة تجاوزت أصداؤها تخوم المملكة المتحدة، وفي الحقيقة فإن الملاحظة التي تقدم به سنو هي اليوم أكثر حضورا وتمظهرا، ولا شك في أن السياسيات التربوية التي تعتمدها الدول، وثقافة المجتمعات القائمة على التقليد هي التي ساعدت على تعميق هذه الفجوة الحاصلة بين الثقافة الطبيعية والثقافة الانسانية، من هنا تبدو الحاجة اليوم إلى ما يسمى “التكامل المعرفي” ضرورة ملّحة لتجاوز كثيرا من المشاكل التي تواجه العلم والانسان والمجتمع.
1ـــ مفهوم التكامل المعرفي:
التكامل المعرفي من المفاهيم المنهجية والآليات الوصفية والتحليلية للظاهرة المعرفية عموما، وهو مفهوم حديث النشأة، يُستخدم في المعنى الشائع للإشارة إلى شخص موسوعي في معرفته ولديه ثقافة متنوعة بين مجالات معرفية مختلفة، وإذا شئنا أن نعطي أمثلة عن هؤلاء الذين كانت لديهم هذه الخاصية من علماء الإنسانية يكفي أن نشير إلى أرسطو، وابن سينا، والبيروني، وابن رشد، وديكارت، وكانط، وفولتير، ورسل، وباشلار وغيرهم، فهؤلاء جميعا تميزوا بالموسوعية الثقافية والمعرفية، بحيث أن اشتغالهم المعرفي لم يكن يختص بعلم واحد فقط، بل بمجموعة علوم وتخصصات.
أما على المستوى المعجمي فهذا المصطلح ما يزال النقاش بشأنه جاريا، بحيث أنه يستخدم من خلال تعابير مختلفة وأحيانا قد يبدو بعضها متعارضا مع بعض، ومن بين هذه التعابير يمكن أن نجد: “التداخل المعرفي”، أو “تداخل التخصصات”، أو “المنهجية المتعددة التخصصات”، وأيضا “التعالق” و”التشابك”، وغيرها ذلك، وعلى العموم فهي كلها تشير إلى ذات المعنى الذي يطلق على تواصل واتصال العلوم فيما بينها، وهذا الأمر يحيل في النهاية إلى وحدة المعرفة الإنسانية وتكاملها، فالإنسان رغم كونه مخلوقا “ثنّوياً” يتألف من “روح” و”مادة” إلا أنه يشكل وحدة واحدة، وهذا الأمر ينطبق على المعرفة أيضا فهي وإن كانت تتوزع بين مجالات متنوعة ومتعددة إلا أنها وحدة واحدة.
والحقيقة أن التكامل المعرفي لا يجب أن يعني تطفل العلوم بعضها على بعض، أو تدخل بعضها في شؤون بعض، لأن هذا من شأنه أن يشوش على كل تخصص، ولأنه ليس ثمة علم داخل علم، فلكل علم موضوع محدد ومنهج معين، وليس من المناسب أن تتداخل المواضيع والمناهج مع بعضها، إنما القصد من التكامل المعرفي هو احداث قيمة مضافة وايجابية بتضافر جهود علمين أو أكثر، ويمكن أن نتلمح هذا النوع من التضافر في تجارب ومحطات مختلفة، ومن ذلك أنه في مطلع القرن العشرين برزت حاجة الفيزيائيين إلى الرياضيات، وحاجة البيولوجيين إلى الكيمياء، فظهرت العلوم البينيّة (المقارنة) التي تؤكد أن التطور والتقدم في علم من العلوم يعتمد على علم آخر أو علوم أخرى.
2ـــ التكامل المعرفي والتوجه العلمي الجديد:
يمثل التكامل المعرفي توجها علميا جديدا، أو بالأحرى هو ظاهرة إحيائية مع اسقاطات منهجية ومعرفية جديدة، فالمعرفة الكلاسيكية التي كانت قائمة منذ عهد اليونان إلى نهاية العصور الوسطى هي معرفة تتميز بالتشابك والتداخل المعرفي بين مختلف العلوم، والناظم الأساسي لهذه العلوم كان علم الفلسفة، التي يطلق عليها وصف أم العلوم وفن الفنون، وصناعة الصنائع، فالفيلسوف الكلاسيكي هو بالأساس فيلسوف متعدد المعارف بحيث نجده يشتغل على عدة مجالات معرفية وفنية، بما فيها إجمالا الفيزيقا والميتافيزيقا.
لكن التراكم المعرفي سيؤدي مع بداية العصر الحديث إلى انفصال العلوم بعضها عن بعض، وظهور العلوم التخصصية، وقد كان ذلك حاجة منهجية وطبيعية، لأن الفيلسوف أو العالِم لم يعد بإمكانه الإلمام بالتراكم المعرفي الحاصل في كل التخصصات، لكن يبدو أنه ثمة عودة لمحاولة رأب الصدع بين العلوم، بحيث أصبح تظافر جهود عدة تخصصات لحل اشكالية معينة أمرا ضروريا، لكن هذا التوجه العلمي الجديد يختلف في كثير من جوانبه عن المعرفية الشاملة التي كان يختص بها علم الفلسفة.
إن التوجه العلمي الجديد القائم على ضرورة التكامل المعرفي يأتي من أجل تجاوز الأخطاء التي وقع فيها العلم الحديث، وتقويم مساره، ففي السياق المعرفي الغربي كان العلم ينمو ويتطور في اتجاه أحادي قائم على الرؤية المادية، مهملا بذلك الأبعاد الروحية للإنسان وللعلم نفسه، وهو ما خلق نموذجا لإنسان مادي ذو بعد واحد مثلما وصفه “هاربرت ماركيوز”، فمنذ مطلع القرن العشرين بدا واضحا أن المجتمع الغربي الذي أقام مدنيته على أساس العلم الحديث بات يواجه تحديات صعبة توشك على افنائه، وأن الوعود التي كان يقيمها بشأن سعادة الإنسان ورفاهيته أصبحت محض ادعاء كاذب.
لقد خلق العلم الحديث مفاهيما جديدة عن الإنسان والطبيعة والكون، وهي مفاهيم قائمة على أساس مادي محض، برزت من خلاله الفلسفات العبثية والعدمية وخلقت ما أسماه “إدغار موران” «الأنموذج المفقود»، أو «الكوكب التائه»، وبتعبير “مارتن هيدغر” «أصبح العلم أعمى ولا يرى طبيعة مصيره ولا مساره ولم يعد يفكر»، من هنا بدأ البحث عن حلول للخروج من الأزمة الناشئة عن أحادية العلم الغربي، وبدأت تظهر أصوات تنادي بما يسمى “التكامل المعرفي” كأحد الحلول الأساسية لتصويب مسيرة العلم ومسيرة الحضارة الانسانية.
3ـــ التكامل المعرفي والبناء الحضاري:
من المهم أن نعرف بأن البناء الحضاري للإنسان والمجتمعات لا يمكن أن يكون إلا من خلال التكامل المعرفي، فالحضارة تستلزم خدمة المعارف بعضها لبعض، وانصهارها في بوتقة واحدة وهدف واحد يرمي في النهاية إلى خدمة الإنسان، ثم إن التكامل المعرفي يستمد مشروعيته من الفطرة الإنسانية ذاتها، وهي فطرة قائمة على التنوع والتعدد، بحيث أن الارتقاء الحضاري بالإنسان لن يكون إلا من خلال المعرفة التي تستجيب لضرورة العمل على خلق جسور للتواصل، أخذا وعطاءً، ما بين جميع العلوم والتخصصات، بما فيها ميادين الفن والدين، لذلك فإن أي خلل أو إرباك ناتج عن إقصاء أو تجاهل علم من العلوم أو فن من الفنون يعني إرباكا وخللا في الإنسان وفي البناء الاجتماعي والحضاري ذاته.
إن اختزال المعارف وتبسيطها واقصاء بعض التخصصات العلمية أو الفنية من شأنه كبح كثير من الأسئلة الجادة والهامة، وبذلك فهو يؤدي إلى تعقيد مهمة فهم العالم والكون والإنسان، بل إنه يستحيل الوصول إلى هذا الهدف في غياب تكامل معرفي يأخذ بعين الاعتبار العلاقة الاتصالية بين المعارف والفنون، والحقيقة أن خلق التكامل المعرفي ليس مهمة فردية ولكنها مهمة مجتمع كامل، إنها ثقافة مجتمع، يؤمن بتداخل التخصصات ويؤمن بالحاجة إلى جميع العلوم والمعارف والفنون مادامت غايتها خدمة الإنسان والسعي لتحقيق سعادته، من خلال فهم أفضل للعالم والإنسان، أي من خلال رؤية كونية شاملة، بتعبير آخر يمكن القول إن تحقيق التكامل المعرفي هو مسعى حضاري، ويحتاج إلى وعي محدد وإلى زمن كاف حتى يتبلور هذا الوعي، ولذلك تبدو الدعوة إلى الخروج من ضيق التخصص العلمي إلى سعة وأفق التعدد العلمي والمعرفي أمر ضروريا للنهضة والبناء الحضاري.
خاتمة:
ختاما بقيَّ أن نقول، صحيح أن القول بالتكامل المعرفي لم يصل بعد إلى أن يكون لديه طابع النظرية المتسقة والشمولية، فهو ما يزال جدلا مفاهيميا، إن صح التعبير، إلا أنه يبقى بحثا هاما يستقطب إليه باحثين ومفكرين ومثقفين من مختلف التخصصات ومن مختلف الثقافات العالمية، وكل المؤشرات تؤكد على ضرورة هذا المسعى وأهميته، ولا شك أننا اليوم في العالم العربي في حاجة إلى توطين هذا المفهوم من أجل الإبداع وتحقيق التنمية والنهضة والخروج من التخلف وتحقيق التقدم ومحاربة الفكر الاقصائي.
مراجع:
1 ــــ الثقافتان الأدبية والعلمية ونظرة ثانية، ترجمة: صالح جواد الكاظم، منشورات دار الجاحظ، العراق، د ط، 1982.
2 ــــ فتحي حسن ملكاوي، منهجية التكامل المعرفي، المعهد العالمي للفكر الاسلامي، فرجينيا، ط1، 2011.
3 ــــ محمد همام وآخرون، التكامل المعرفي أثره في التعليم الجامعي وضرورته الحضارية، المعهد العالمي للفكر الاسلامي، فرجينيا، ط1، 2012.