جذام الروح؟ تاريخ مختصر للملل

يستجيب كل منّا للملل بطرق مختلفة. فالبعض يجد هوايةً أو اهتمامًا جديدًا، بينما يقوم البعض الآخر بفتح كيس بطاطس والاستغراق في مشاهدة أحدث مسلسلات نتفلكس. يبدو الملل كما لو أنّه تجربة طبيعيّة في الحياة اليوميّة-بل وحتّى مبتذلة-. ولكن الشيء المثير في الموضوع والذي قد يكون مفاجئا قليلاً، هو أن الملل قد مرّ بتحولات جذريّة خلال القرون الأخيرة.

فإحدى أقدم الإشارات للملل وجدت قبل أن توجد كلمة “الملل- boredom” في اللغة الإنكليزية بكثير، وذلك في قصيدة لاتينية كتبها لوكريتوس (99-55 ق.م)، حيث كتب عن الملل الذي يواجه شخصيّة رومانيّة ثريّة والذي يهرب نحو منزله الريفي… فقط لكي يواجه الملل نفسه من جديد.

أوّل ذكر مسجل لكلمة “ملل” في اللّغة الإنكليزية قد سُجل في صحيفة البيون* البريطانية في عام 1892، في هذه الجملة (المبهمة بصراحة): “ولن أتّبع أسلوبًا مملاً عتيقًا، وأنغمس في مدح وتبجيل ربّات الأقدار التي تشرف على تشكيلي.”

ولكن المصطلح انتشر عن طريق تشارلز ديكنز، والذي اشتهر باستخدام المصطلح  في رواية البيت الموحش(Bleak House-1853) حيث تقول سيدة ارستقراطيّة فيها بأنّها قد شعرت “بملل قاتل” بسبب أشياءٍ مختلفة مثل المناخ المزعج، والعروض المسرحيّة والموسيقيّة غير الملفتة للنّظر، ومن رؤية المشاهد المكررة ذاتها.

في الواقع، لقد أصبح الملل موضوعاً مشهوراً في الكتابات الفيكتورية الإنكليزية، وبالأخص في وصف حياة الطبقات المترفة، والتي  قد يعكس الملل  امتيازاتهم  الطبقيّة. فعلى سبيل المثال، يبدو جيمس هارتهاوس وهو أحد شخصيات ديكنز في رواية أوقات صعبة (Hard Times-1854) كما لو أنّه يعتز بالملل المتواصل كدلالة  على نبل أصله، معلناً أنّه لا يوجد شيء سوى الملل في حياته كفارس في الجيش وفي سفراته العديدة.

الملل الوجودي

اكتسب الملل شهرة واسعة بين الكُتاب الوجوديين في النّصف الثاني من القرن التاسع عشر وفي بدايات القرن العشرين. ولم تكن آرائهم حول الملل إيجابيّة في الغالب، واعتبروه شيئًا يواجه البشرية جمعاء، وليس فقط الطبقة المترفة عديمة الكيان أو الشغف.

فعلى سبيل المثال، كتب  أحد أوائل الفلاسفة الوجوديين  الدنماركي سورن كيركغارد: ” لقد شعرت الآلهة بالملل، ومن أجل ذلك خلقوا البشر.” وقد كان هذا الشيء وفقاً لكيركغارد، مجرد بداية لبلاء الملل. وفي النّهاية سيدفع آدم وحواء لأن يرتكبوا خطيئتهم الأصلية(**).

وهكذا أعلن كيركغارد وبشكل غير مفاجئ، أنّ الملل هو أساس كل الشرور. وقد شاركه بعض الوجوديين وجهة النّظر غير المحببة هذه. لقد سمّى جان بول سارتر الملل بـ”جذام الرّوح”، ومتوافقاً مع كيركغارد، علّق فريدريك نيتشه قائلاً: “سيكون ملل الرّب في اليوم السابع من الخلق مادة خام عظيمة لأحد الشعراء العظام.”

وقد قطف آرثر شوبنهاور ثمرة الملل بأوج نضوجها. فوفقاً له، لم تكن قابلية البشر على الشعور بالملل إلا دليلاً قاطعاً على خلو الحياة من هدف مطلق. فقد كتب في مقالته ذات العنوان المثالي، دراسات حول التشاؤم- Studies on Pessimism:

ستكون الحقيقة واضحة بما فيه الكفاية لو تذكرنا فقط أنّ الإنسان عبارة عن مركب من حاجات وضرورات صعبة الإرضاء، وأنّها حتّى عندما تُرضّى، فكل ما يحصل عليه جراء ذلك هو حالة من غياب الألم، حيث لا يبقى شيء ويُلقى في أحضان الملل.

يبدو أنّ الوجوديين يحذرون ممّا في معناه “أنّ عالماً من الملل، يعني عالماً خالياً من المعنى”.

علم الملل

شهد القرن العشرين بزوغ شمس علم النّفس كتخصص علمي. بينما يزداد فهمنا للكثير من العواطف ببطء، إلاّ أنّ الملل قد تُرك وبشكل يثير الدّهشة من دون دراسة. كما أنّ الدّراسات النّفسية الضئيلة التي أُجريت حول الملل كانت في الغالب تخمينيّة، وأكثر من ذلك أنّها تجاهلت الأدلة التجريبيّة.

ولم ترسم هذه الأحداث صورة إيجابيّة عن الملل أكثر من الصورة التي رسمها الوجوديون. ومؤخراً في سنة 1972، شجب العالم النفسي إيريش فروم وبشكل صارخ الملل معتبراً إياه “ربما، أهم مصدر للعدائيّة والتدميريّة اليوم”.

وقد تغيرت صورة الملل خلال العقود الأخيرة مرّة أخرى، ورافق هذا التغيير تقدير لهذا الشعور ذو السمعة السيئة حتّى يومنا هذا. ولقد مكّن تطور أداوت القياس أفضل علماء النّفس من اختبار الملل بدقّة أعلى، وساعدت الطرق التجريبيّة الباحثين على إحداث شعور بالملل وفحص نتائجه السلوكيّة الفعليّة، بدلاً عن نتائجه المفترضة.

كشف هذا العمل أنّ الملل قد يكون مشكلة كما قال الوجوديون. فالأشخاص الذين يملون بسرعة أكثر عُرضة لأن يكونوا مكتئبين وقلقين، وميالين للعدائيّة، ويرون معنًى أقل في الحياة.

ولكن رغم ذلك، كشف علم النفس جانباً إيجابياً للملل. إذ وَجد الباحثون بأنّ الملل يشجع على البحث عن معنًى في الحياة، ويحث على الاستكشاف، ويلهم عملية السعي نحو الأصالة. يبين هذا أنّ الملل ليس مجرد شيء شائع فقط، ولكنّه شعور فعّال يدفع النّاس للتّفكر في الأمر الذي يفعلونه حالياً مقابل بدائل أكثر فائدة، مثل زيادة الإبداعيّة والميول الاجتماعيّة المحبّبة.

وبذلك، يبدو بأنّ الملل يساعدنا على تنظيم سلوكنا، ويمنعنا من أن نبقى في مواجهة طرق مسدودة لمدّة طويلة. فبدلاً من أن يكون مرضاً يصيب الطبقة المترفة أو خطراً وجودياً، فهو على ما يبدو جزءاً مهماً من الترسانة النفسيّة لدى الأشخاص في عملية السعي وراء حياة مرضيّة.

تدقيق لغوي: ميّادة بوسيف

المصدر : هنا

هوامش:

(*)The Albion : وهو اسم قديم لبريطانيا ولم يعد يستخدم في اللّغة الإنكليزية.

(**) خطيئة معصية الرب والأكل من الشجرة المقدسة.

كاتب

الصورة الافتراضية
Sajjad Thaier
المقالات: 0

اترك ردّاً