ما زلت حياً، ما زلت أفكر: عليّ أن أعيش أكثر، لأنه ما يزال عليّ أن أفكر. أنا أحيا، إذا أنا أفكر: أنا أفكر إذا أنا أحيا.1
الحياة حلوة للي يركبها2
الحرية! يا لها من كلمة رنانة وذات وقعٍ جميلٍ على الأذن. الجميع يتكلم عن الحرية في عصرنا هذا: حرية التعبير، حرية المعتقد، حرية المرأة، حرية التوجه والهوية الجنسية، الحرية المفرطة والحرية المقيدة، الحرية الجيدة والحرية السيئة، الحرية التي تؤدي إلى الضياع، مدعي الحرية، التحرر وغيرها الكثير من المفاهيم الداعمة والمضادة والحيادية حول الحرية. في الغالب تُطرح الحرية كشيء ذي دلالة ذاتية أي أنه لا يحتاج إلى تبرير. فعندما يقول شخص أنه يريد الحرية، فمن غير المنطقي سؤاله عمّا ينوي أن يفعل بها أو عمّا بعدها. فالحرية لا تحتاج إلى غاية ما تقع بعدها أو لأجلها، فهي شيء يُطلب لذاته، وهي مزروعة ومتأصلة في الطبيعة البشرية.
حسناً هذه هي الفكرة العامة من الناحية النظرية. أما من الناحية العملية، فحاولْ وتجرأ أن تكونَ حراً أو أن تسعى لتحرير نفسك أو الآخرين ولو بقيد أنملة، فعندها ستواجه سيلاً هائلًا من الأسئلة -هذا في حال كنت من المحظوظين الذين لم يُقتلوا، يُعتقلوا، يُعذبوا، أو يٌجبروا على الفرار من البلاد- عمّا تنوي أن تفعل بحريتك هذه وما هي خططك؟ ولماذا تريد الحرية؟ ومن دفعك وحرّضك وزرع في رأسك فكرة السعي خلف الحرية؟ وليس ذلك فقط، لا لا ففي بلدانا العربية نقدم عروضًا فلسفيةً خاصةً وتخفيضات على الأسئلة، فليس هناك حاجة لأن تجيب على أيٍّ من هذه الأسئلة وحتى لو أجبت عليها فرأيك غير مهم. لأن هؤلاء الأشخاص الذين يمطروك بالأسئلة سيوّفرون إجابتك نيابةً عنك، وسيخبرونك عمّا تنوي فعله بحريتك –هذا إن حصلت عليها-، وسيذكرون جميع الأشياء القذرة وغير الأَخلاقية والمقززة التي تنوي فعلها بحريتك، وحتى محاولاتك المنحرفة بإغراء مراهقينا ومراهقاتنا الأعزاء وجرّهم إلى دركك الأسفل من الانحطاط والرذائل. وهكذا علينا أن نشكر الآلهة على وجودهم هم، حراس الفضيلة والعفة والقيم والثراث الاجتماعي الرائع الذي نعيش في نعيمه. وعلينا أن نُبَجّلهم لأنهم أغلقوا الأبواب أمامنا ليس لسبب إلا لكي يحموننا نحن الحمقى والمغفلين والسذج من الوقوع في شرك ألاعيبك القذرة والدنيئة وسعيك المتهور والطائش من أجل اتخاذ قراراتك بنفسك والعياذ بالله.
(كن رجلًا ولا تتبعني، بل لا تتبع سوى نفسك! سوى نفسك!) …وأنا أفكّر في ذلك الرجل، ما يزال يتردد إلى اليوم وقع هذه الجمل: (كون الانفعال أفضل من الصبر القدري والنفاق، وكون الصدق، بما في ذلك في الشر، أفضل من الضياع في أخلاق التقاليد، وكون الإنسان الحر بإمكانه أن يكون خيّراً كما يكون شريرًا، بينما الإنسان المستعبد عارٌ على الطبيعة ولا نصيب له في أي عزاء دنيوي أو سماوي؛ وأخيراً، كون كل من يريد أن يكون حراً، سيكون عليه أن يصير كذلك بجهده الخاص ومن خلال نفسه، وأنَّ الحرية لا تنزل على أحد مثل الهدية من السماء.)
(ريتشارد فاغنر في بايرويت)3
فلماذا نسعى من أجل الحرية إذا؟ حسناً، لأننا ببساطة لا نملك أيَّ خيار ثانٍ. وهذا ما يحاول نيتشه قوله والتوكيد عليه حين قال أن الرب قد مات، فالمسألة ليست فقط أنه قد مات، ولكن هي أننا أصبحنا وحيدين وعلينا تقبل هذا الشيء والتعامل معه وليس إنكاره. فجميع التقاليد والقيم والأخلاق والعادات والقوانين والنظم قد رُبطت بالرب، فهي جميعها تستمد شرعيتها من الرب، فبموت الرب وسقوطه من عرشه المطلق وانكشاف زيف وجوده، تزلزلت الأرض تحت هذه المفاهيم جميعاً وجميعها هوت معه. فبتعبير البحّارة فقد احترقت جميع الموانئ التي كان يمكننا أن نرسو عليها في الماضي، وكُتب علينا أن نبقى هائمين في البحر “أحراراً” رغم أنفنا. فهكذا حسب تعبير نيتشه الحرية ليست هدفاُ نسعى لكي نحصل عليها، بل هي الحالة الطبيعية لفرادتنا وحالة وحدتنا في هذا العالم. فعندما تزول جميع الطبقات الوهمية التي وضعناها لأنفسنا لكي نرتبط بالآخرين- الدين، القيم، القانون وغيرها- لا يبقى شيء سوى الفرد وحيداً وحراً في ذاته. ومن هذه الحرية تبدأ ذاتنا التي نبني عليها شخصيتنا وقيمنا الخاصة التي نسير عليها ونتبعها. ومن المثير للسخرية أن الحرية في العالم الحديث والوطن العربي بالأخص هي أقصى مبتغى الفرد والتي على الأرجح أنه سيموت قبل أن يحصل على لفحة واحدة من نسيمها. هكذا تُنهي رحلة الكثير من الأشخاص قبل أن يصلوا خط البداية.
من قاع الوحدة العميقة.- ذات يوم أطبق المسافر الجوال الباب من ورائه، وظل واقفا يبكي. ثم قال مخاطبا نفسه:(كم أمقت هذا الانجذاب والاندفاع نحو الحقيقي، والواقعي، واللامرئي، واليقين! كم أمقته! لِمَ يلاحقني هذا المطارد القاتم العنيد؟ أريد أن أستريح لكنه لا يدع لي مجالاً لذلك. وكم من الأشياء تغريني بالتوقف والبقاء! في كل مكان هناك حدائق أرميدا4 تومئ لي: من هنا كل هذه الانفصالات المتكررة دوما، ومرارات القلب المتجددة! علي أن أظل أتقدم، غالبا ما تكون لي عينُ سوء ونظرةٌ كلها سخط على أجمل الأشياء التي لا تستطيع أن تمسكني وتوقفني- لأنها لم تستطع أن توقفني!)5
يؤكد نيتشه في «كتابه العلم المرح» على فكرة الحرية وكونها مسألة حتمية مرتبطة بالفرد البشري ولا يمكن الفكاك منها ولا يجب الفكاك منها. فالفرد يولد وحيداً من دون عائلة أو دولة أو آله أو غيرها. فجميع هذه الأنظمة ليست إلا تأويلات يضيفها الفرد على الواقع، ويعطيها قيمة مطلقة ثابتة ومقدسة في محاولة منه للهرب من حريته المخيفة واستقلاله، متجهاً نحو الحضن الدافئ للأوامر المطلقة والعادات والتقاليد وغيرها من الأنظمة الفكرية التي تدّعي المعرفة المطلقة، والتي تقص أجنحته وتخبره ما يأكل وما يشرب وماذا يلبس وماذا يقول ولمن ومتى يقول وغيرها الكثير من الأمور التي يجب على الفرد القيام بها لأنها صادرة من سلطة عليا مطلقة موجودة خارج حدود عالمنا، سلطة تعرف الخير والشر وكل شيء، وتخبرنا ما علينا فعله وتزيل عنا عبئ الحرية ورعب اختيار طريقنا الخاص في الحياة عن طريق تقييد خياراتنا وإعطائنا هدف مطلق للسعي خلفه.
فهكذا من وجهة نظر نيتشه فالرعب هو الراعي الرسمي للرب:
المؤمنون وحاجتهم إلى الإيمان.- إن الكم الذي يحتاجه امرؤ من الإيمان كي يستطيع أن يتفتق، وعدد الأشياء (الثابتة) التي لا يود البتة أن يراها تتزعزع، لأنها ستكون سنداً له، هي مقياس لدرجة قوته (أو ضعفه بعبارة أدق)…. فهكذا هو الإنسان: بإمكانكم أن تفندوا له مقولة دينية ألف مرة، لكنه، طالما يظل في حاجة إليها، سيظل يعتبرها (حقيقة)- …. وباختصار ليس شيء آخر غير غريزة الضعف نفسها التي وإن كانت لا تؤسس ديانات وميتافيزيقيات وقناعات من كل نوع، فهي التي تحفظها.6
فالبشر يؤمنون لأنهم يبحثون عن الطمأنينة والأمان والدفء في المعنى والنظام والأديان وحتى الحركات القومية والثورية وحركات حقوق الإنسان وأي تجمع من الناس الذين يعملون من أجل خدمة مصلحة عليا تفوقهم وتتعداهم، ويتركون هذه المصلحة أو العقيدة تحركهم وتأمرهم وتنهاهم كيفما تشاء من أجل الوصول إلى الهدف الأسمى-الجنة، الديمقراطية، الحياة الطيبة …إلخ-. فالحرية التي يتكلم عنها نيتشه ليست تحرراً من القيود العائلية أو الدينية من أجل الانخراط في المجتمع الواسع للبشرية، بل هي تهديم جميع الروابط والعوامل المشتركة التي تربطنا ببعضنا البعض والتي نعتبرها كهويات جمعية مثل الدين أو القومية أو غيرها وبناء هويات جمعية غير احتكارية –أي لا تتطلب منك أن تلتزم بها وحدها فقط وتداوم عليها مدى الحياة- جديدة. هذا التهديم يعني مواجهة الفرد للعالم وحده وقيامه بنفسه ببناء عالمه الخاص وهو الرعب الذي يهرب منه الكثير بل وحتى تستخدمه بعض الأنظمة كنوع من العقاب- ذلك أن تكون حراً وحيداً.
لكن خلال أطول عصور تاريخ البشرية لم يكن هناك من شيء أكثر فظاعة من أن يشعر المرء بنفسه فرداً. أن يكون المرء وحيداً، ويحس كفرد، وأن يكون لا سيداً ولا مطيعاً، يعني فرداً؛ فذلك ما لم يكن متعة في ما مضى، بل عقاباً؛ كان يحكم على الإنسان (بأن يكون فردا)… أن يكون المرء هو، وكما يريد أن يكون، وأن يقيم نفسه بمعاييره وموازينه الخاصة- ذلك ما كان منافياً للذوق في ما مضى. وكان الميل إلى ذلك يعتبر جنوناً: إذ كانت الوحدة المقترنة في الأذهان بالأسى وبكل مخيف.7
هكذا يرتبط البشر بالأديان خوفاً من الضياع لأنه يمثل منارة -منارة وهمية ولكنها تبقى منارة- توجهنا نحو هدف معين وسط المحيط الشاسع للفراغ الذي يحيط بنا. بالتأكيد يعتقد بعض الفلاسفة أن الدين هو خيار وجوديٌّ، فالفرد يدرك فراغ العالم ويختار الدين كطريقته في الحياة ومغزى حياته ويسير عليه، وهذا الخيار نابع من الحرية التي تكلم عنها نيتشه وهكذا لا يتعبر الدين تقييدًا للحرية الفردية بل هو ناتج من هذه الحرية، فهو مجرد اختيار معيّنٍ لطريقة حياة يختاره الشخص الحر بملء إرادته. ولكنَّ نيتشه يعارض هذا الشيء، فهو يعتبر الدين مجرد تهرّبٍ من الواقع المرعب والعودة للاختباء تحت الفراش. فالتصرف الصحيح هو أن ندرك لامحدودية ولانهائية المحيط الذي نعيش فيه، ونستمر بالسير فيه، ولذلك فإن أيَّ محاولة للتشبث بقيمة عليا ومطلقة وغير متغيرة مثل الدين، يعتبر إنكارًا لتلك الحقيقة.
… يمكننا بناء على هذا أن نستنتج أن الديانتين الكونيتين، البوذية والمسيحية، قد تكونا مدينتين بنشأتهما وانتشارهما السريع لحالة قصوى من علة في الإرادة. وقد كان الأمر كذلك في الحقيقة: لقد وجدت الديانتان على أرضية الإرادة المريضة، رغبة محمومة حد الجنون وتوقا يائسا إلى الأمر الملزم بـ(ينبغي عليك)، وكانتا كلاهما معلمتين للتعصب في لحظة وهن الإرادة، ومنحتا بذلك سنداً لعدد لا يحصى من الناس، وإمكانية جديدة للإرادة، ومتعة في الإرادة. فالتعصب هو في الحقيقة الشكل الوحيد (لقوة الإرادة) التي يمكن أن تكون في متناول حتى الضعفاء وغير الواثقين، كنوع من التنويم الذي يُخضع إليه مجمل النظام الحسي والعقلي لصالح تغذية مفرطة (hypertrophie) لإحساس ووجهة نظر واحدة تصبح هي المهيمنة- ويسميها المسيحي إيمانه. ففي اللحظة التي يكون فيها امرؤ ما قد بلغ القناعة العميقة بأنه لابد أن يكون خاضعا لآمر، يصبح (مؤمنا). وبالمقابل، يمكن أن نتصور لذة وقوة في الاستقلالية، وحرية إرادة يتخلى المرء معها عن كل إيمان وكل رغبة في الأشياء الواثقة، قادرا بدربته العالية على المشي فوق حبال دقيقة والحفاظ على توازنه داخل شتى الإمكانيات، وعلى الرقص حتى على حافة الهاوية. مثل هذا العقل سيكون هو العقل الحرّ بامتياز.8
هكذا تصبح المعركة من وجهة نظر نيتشه هي ما بين الحرية والخوف. وفي النهاية ستنتصر الحرية لأنها تتضمن الحقيقة المطلقة لموت الرب والتي سيدركها الجميع عاجلاً أو أجلاً لأن الأديان الإبراهيمية والعلوم الحديثة تدفع إتباعها –من دون علمها في الغالب- نحو كشف هذه الحقيقة المتمقلة بموت الرب وخلو العالم من المعنى واختلاف التأويلات والتفسيرات التي نضفيها على الواقع مما ينفي وجود قصة أو تأويل مفرد ومطلق يفسر كل شيء.
وهكذا فيجب أن تعاش الحياة بحريتها، بخوفها، برعبها، بمتعتها، بتعاستها، بضحكتها، ببكائها، وبكل انفعالاتها المختلفة ولا أن نهرب منها. أن تعيش معناه هو أن تدرك خواء الحياة من المعنى المطلق واتساع هوة الحرية، فأن نعيش معناه هو أن نحس بذلك الخوف المطلق لانعدام المعنى، أو الغاية التي تقف خلف كل شيء، وأن نستمتع بحياتنا رغم كل شيء ونعيش حياتنا ورؤوسنا مرفوعة بشجاعة وعيوننا على المستقبل وعلى كل ما هو جديد ومثير، الحياة لا تعني أن نكبت مخاوفنا أو أن نحاول أن نسيطر عليها أو نروّضها بل أن نتقبلها كما هي، فهي جزء من التجربة التي لربما لم نختر أن نخوضها إلا أننا نخوضها على أي حال. فالدافع للحياة يجب أن يكون المتعة، متعة العيش والاستكشاف والبحث والتفكير والمخاطرة.
رجال أكثر عرضة للمخاطر، رجال أكثر خصوبة، رجال أكثر سعادة! ذلك أن -ولتصدقوني في هذا- سر الخصوبة الكبرى والمتعة الكبرى التي يمكن أن تحصل لنا من الوجود تكمن في أن نحيا في خطر! لتبنوا مدنكم على جبل فيزوف9! ولترسلوا بواخركم عبر البحار المجهولة! لتصرفوا الحياة في الحرب مع بني جنسكم ومع أنفسكم! لتكونوا قطاع طرق وغزاة، طالما لم تستطيعوا بعد أن تكونوا أسياداً ومالكين، أيها السائرون على دروب المعرفة! عما قريب سينتهي الزمن الذي كانت لكم فيه كفاية في الحياة متخفين في الغابات على غرار الأيائل الجفولة!10
ولكن ماذا بعد؟ إذا كان الرب غير موجود ولا توجد هناك معرفة مطلقة فكيف نعرف ما هو الحقيقي وما هو المزيف؟ كيف نحكم على الأشخاص أو الأشياء؟ فمن دون مرجع نعود أليه كيف نحدد ما هو الجيد وما هو السيء؟
لا يزوّدنا العالم بأي معلومات أو أوامر مطلقة، وهكذا يرى نيتشه أن معرفتنا مجرد تأويلات للحوادث المختلفة التي نختبرها في حياتنا، مما يجعل كل تجربة شخصية فريدة ومميزة وغير قابلة للتكرار من قبل الآخرين وحتى غير قابلة لأن تفهم بشكل كامل من قبل أي شخص عدا ذلك الفرد نفسه. فالعالم عبارة عن وجهات نظر مختلفة وروايات مختلفة لحوادث متماثلة وربما نظرة سريعة على التاريخ أو حتى على الواقع الاجتماعي، من وجهتي نظر شخص من الطبقة السياسية وشخص من الطبقة الكادحة كفيلة بتبيين التفسيرات المختلفة التي يضفيها واقع الفرد الشخصي على الحوادث المجردة. فلكل شخص تجربته الخاصة في الحياة ولا يمكن التحقق بشكل مطلق من صحة هذه التجربة أو التأويلات التي يضفيها الفرد على هذه التجربة. فالفرد حسب تعبير نيتشه لا يمكنه ببساطة أن ينزع وجهه ويقف على مسافة من نفسه وينظر لنفسه تأويل الأحداث ويقيم هذا التأويل وهذا الفعل. هكذا نحن محصورون داخل جدران عقولنا، وطريقتنا الوحيدة للتحقق من صحة تأويلنا هي عن طريق توافق تأويلنا مع التأويلات المختلفة للآخرين ولا يمكن القيام بذلك إلا عن طريق التواصل معهم باستخدام لغة معينة. وهذا يفسر الانجذاب القويّ للأديان والحركات الجمعية لأن امتلاك مجموعة من الأفراد الذين يملكون نفس التأويل تزيل عبء الشك ومحاولة التحقق من صحة هذا التأويل للفرد، وتدفعه للطمأنينة والأمان من أن تأويله قد وصل إلى درجة التفسير المطلق للحوادث وأنه قد أدرك الحقيقة.
هذه مسألة لا يمكن البت فيها، كما هو معلوم، حتى من خلال التحليل والتمحيص العقلي الأكثر تفانياً ودقة علمية؛ ذلك أن العقل البشري لا يستطيع وهو يقوم بهذا التحليل أن يرى إلى نفسه إلا من خلال أشكال منظورية12، وداخل تلك الأشكال المنظورية وحدها. نحن لا نستطيع أن نراوغ زاوية نظرنا ونرى من زاوية أخرى غيرها: وإنه لفضول يائس أن نطمع في معرفة كم من عقول وزوايا نظر أخرى يمكن أن تكون هناك: كأن نريد أن نعرف مثلا إن كان هناك كائن يستطيع أن يحس بالزمن بصفة تراجعية، أو ضمن مراوحة بين الأمام والخلف (وهو ما سيمنح اتجاهًا آخر للحياة ومفهوماً آخر لعلاقة السبب بالنتيجة).11
واللغة بحد ذاتها إشكالية مطوّلة يصعب حلها، فكيف نعرف ما نسمعه هو صحيح، وحتى لو سمعناه بشكل صحيح فما زلنا سنقوم بتأويله باستخدام عقلنا الخاص، وهكذا لن يعالج عقلنا أي معلومات لا يفقهها أو يستوعبها وسنضل على مستوى ما، محصورين ضمن نطاق تأويلاتنا الخاصة لأنه ليس هناك مصدر حياديٌّ مطلقٌ لكي يفصل الأحداث لنا.
هكذا نصبح –على مستوى معين- سجناء عالمنا الخاص الذي نخترعه بحريتنا، فنحن معزولون عن الآخرين عن طريق انعدام أرض مطلقة للسير عليها سوية. وهذا شيء يحتاج شجاعة كبيرة لتقبل تأويلنا الخاص غير المكتمل والشائب وغير القابل للاختبار أو التوكيد والعيش وفقاً لهذا التأويل وعدم الركون للتأويلات التي تدّعي معرفة المطلق، ووجود نوعٍ من الكيان المطلق الذي يوّفر حكمًا مطلقًا، كيان يوجد خارج حدود الزمان والمكان ومجردٌ من الخطأ، ويستطيع أن يكون ذلك الحكم المحايد الذي يحدد أي تأويلاتك صحيحة وأيها خاطئة.
لنبحر إذا!- إذا ما تأملنا التأثير الذي يحدثه على فرد من الأفراد تبرير فلسفي كلي لنمط حياته وسلوكه، أي على غرار ما تفعله شمس تنعشه وتباركه وتخصبه، شمس تشع عليه هو وحده، وكيف يجعله ذلك الأمر في غنى عن كل مديح وعتاب، مكتف بنفسه، ثرياً، سخياً سعادة إحساناً، وكيف يحوّل باستمرار كل شر إلى خير ويمضي بكل الطاقات نحو التفتق والنضج، ويبيد العشبة الطفيلية الصغيرة والكبيرة للغم والاستياء؛ لا يسعنا عندها سوى أن نهتف بكل اشتياق: آه لو يكون لنا مزيد من هذه الشموس، شموس مباركة جديدة كثيرة! فالإنسان الشرير أيضاً، والشقي، وكذلك الإنسان الاستثنائي له حق في فلسفته الخاصة، في قانونه، وفي ضياء شمسه! كلّا، ليست الشفقة هي ما يحتاجه هؤلاء! وعلينا أن نتخلص من هذه البدعة التي من صنع الغرور، مهما كان طول المدة التي قضتها الإنسانية في التعلم من هذه البدعة وفي ممارستها. -لا في اعترافات ولا مروض أرواح وغافر خطايا ينبغي أن نعد لهم! بل عدالة جديدة يحتاجون! وموعظة جديدة! وفلسفة جديدة! فالأرض الأخلاقية كروية الشكل هي أيضاً! والأرض الأخلاقية لها أضدادها هي أيضاً! والأضداد لها حقها في الوجود! ما يزال هناك عالم آخر للاكتشاف- وأكثر من عالم واحد! إلى المراكب إذا، أيها الفلاسفة!13
فماذا عنك عزيزي القارئ، فهل تفضل أن تعيش بشجاعة وتخوض لجج العبث وتبحر في بحار الظلام بابتسامة ساذجة تعلو وجهك، أم تفضل الركون لطمأنينة دينك أو قوميتك أو وطنك أو أي كيان مطلق يوّفر لك المعنى؟ أو ربما تظن أن نيتشه مخطئ بقيامه بهذا التقسيم الفج وهذان الشيئان ليسا متضادين كما يدعي؟ أو ربما كاتب المقالة هو من لم يفهم نيتشه وسمح لتأويلاته الخاصة ودوافعه الشخصية لكلام نيتشه لكي يسمع ما يريد أن يسمع-أو يقرأ ما يريد أن يقرأ بتعبير أصح-؟
المصادر:
- العلم المرح المقطع 276
- عادل أمام، مرجان أحمد مرجان
- العلم المرح المقطع 99
- حدائق أسطورية ينقل عنها أنها من شدة جمالها تسحر من يراها
- العلم المرح المقطع 309
- العلم المرح المقطع 347
- العلم المرح المقطع 117
- العلم المرح المقطع 347
- جبل بركاني في إيطاليا ويعد الجبل البركاني الثائر الوحيد في أوربا
- العلم المرح المقطع 387
- العلم المرح المقطع 374
- أشكال منظورية perspektivischen Formen: في الأصل الالماني وهو تعبير مراوغ يمكن ترجمته بشكل حرفي إلى أشكال منظورية وهي ترجمة غير مفيدة على الأرجح ولكن المشكلة أننا لا نملك غيرها في اللغة العربية ولكن أقرب شيء لهذه المفردة ومن السياق الذي يذكرها فيه نيتشه هو تعبير discourse في اللغة الانكليزية والذي أيضاً لا يملك ترجمة دقيقة تنقل معناه في اللغة العربية ولكن بصورة عامة فإنّ هذين التعبيرين –الألماني والإنكليزي- يشيران إلى ما نعرّفه اليوم بالإيديولوجية ولكن بالتركيز على جوانبها اللغوية. فالمقصود هو أن نستخدم اللغة لكي نفكر ولذلك من الصعب علينا أن نناقش أو نستكشف مفاهيمًا لا نملك لغة دقيقة لوصفها -هذا الهامش مثال على ذلك- وكذلك كيفية قيام اللغة بتشكيل وعينا بشكل واعٍ أو غير واعٍ. وأن هذه discourse التي يمكننا أن نترجمها مؤقتاً -حتى نتوصل إلى ترجمة أكثر دقة- بالأنماط الفكرية أو الأنساق الفكرية تهيمن على طريقة تفكيرنا على الأشياء، وهذا شيء لُفِتَ الانتباه إليه مؤخراً من قبل فلاسفة عدة أبرزهم فوكو فأبسط مثال هو رواية الأرض المسطحة، حيث يعيش البطل المربع في عالم ثنائي الأبعاد وعندما يلتقي بكرة ثلاثية الأبعاد وتحدثه عن وجود بعد ثالث يسمى بالأعلى والأسفل، فيظن أنه يهلوس أو أنها مجنونة لأن عقله لا يستطيع ببساطة أن يعالج هذه المعلومات إلا بعد أن يختبر هو نفسه هذا البعد الثالث، وحتى بعد ذلك لم يستطع أن ينقل تجربته إلى زملائه لأنه لم يكن يملك المفردات اللازمة ولا حتى القدرة على توصيل الفكرة إليهم، لأنهم مثله لم يفهموا عما كان يتكلم، فهم لم يجربوا أو يدركوا ما هو البعد الثالث.
فلذلك يحصل سوء فهم في التواصل كثيراً لأن كلمات متماثلة قد تعني معانٍ مختلفة في أنظمة فكرية مختلفة، فكلمة حرية كما وصفها نيتشه هنا تعني الحرية من وجهة نظره وبناءً على أنظمته الفكرية هو وبالنسبة للعدمي فهي الضياع وللمؤمن فهي الكفر والزندقة وبالنسبة للحكومات والقانون فهي التمرد. فنحن محصورون داخل أنظمتنا الفكرية، وكل شخص يفسر العالم عن طريق الأنماط الفكرية التي يملكها وتربى عليها. وبالتأكيد يمكننا الفكاك من بعضها على مستوى معين ولكن تبقى هناك تحيزات وجوانب مستعصية في لاوعينا سواء بسبب أو عوامل طبيعية لا يمكننا الفكاك منها مثل عدم قدرتنا على فهم مفهوم “اللانهائية” بشكل كامل أو حصول ردة فعل قبل الفعل كما يحصل في عالم الكم، حيث لا تنطبق مفاهيمنا للزمن والنتيجة والسبب، فهذه عوائق متأصلة في العقل البشري ذاته ولن نستطيع فهمها مطلقاً على أكثر تقدير. وهناك تحيزات مرتبطة بواقعنا الاجتماعي وتتباين حسب تنشئتنا الاجتماعية والوسط الذي عشنا فيه مثلما قلت في الأعلى من اعتبار البعض للكلام عن الحرية كنوع من الفسق والفجور أو غيرها من الأمور. فمثلا يقول نيتشه في الاقتباس المنقول في الأعلى حول العيش في حالة خطر, “رجال أكثر عرضة للمخاطر” ويستمر في وصف الحياة الجيدة هي بأن نصبح “رجالاً” أشداء لأن الرجال هم مثال القوة والعنفوان والاندفاع أليس كذلك؟ فالبنى الفكرية لنيتشه مصممة بوعيه أو بدون وعيه على تصور صورة رجل أو محارب شجاع “ذكر” عندما يتكلم عن رجله الخارق ويتجاهل المرأة لأنها مرتبطة بعقله بالضعف والوهن، وهو شيء يمكن ملاحظته بسهولة في اللغة العربية، فحتى عندما تمدح شجاعة المرأة توصف بأنها بعشرة رجال، وكما لو أنها شاذة من بني جنسها. فجميعنا نفكر عن طريق نظم فكرية مبنية على لغة معينة سواء كانت لغة إسلامية، مسيحية، شرقية، ماركسية، نسوية، هندية، علمية، حداثية، روحانية، فلسفية، أدبية، أو تشكيلة من هذه النظم ونظم أخرى كثيرة أي كيانات ذات مفردات تسمح لنا بمعالجة العالم بطريقة معينة بشكل واعي أو غير واعي. وهكذا نحن نعالج العالم عن طريق الأنماط الفكرية المتأصلة في نوعنا البشري وعن طريق الأنماط الفكرية المزروعة فينا عن طريق المجتمع بنسب متفاوتة ولربما لا يمكننا الفكاك منها بشكل كامل ولكن يمكننا أن نراقب تحيزاتنا المعرفية ونتساءل عن سبب تفكيرنا بطريقة معينة وهل تفكيرنا هذا ناتج عن تفكيرنا المستقل -بقدر ما- أو عن طريق نمط فكري أو لغوي تم زرعه فينا -بشكل مباشر أو غير مباشر- وتربينا عليه في مجتمعاتنا وبيئاتنا؟
13. العلم المرح المقطع 289