المانوية وجدلية الهوية العراقية

لطالما أثارت المانوية (Manichaeism) جدلاً واسعاً بسبب التشابه الملفت بين طقوسها الدينية والطقوس الإسلامية، مثل الصلاة خمسة مرات في اليوم بركوع وسجود، مسبوقة بالوضوء أو التيمم وتنتهي بالسلام على ماني آخر الرسل، صوم شهر في السنة، الزكاة وغيرها، بالإضافة إلى التشابه في التفاصيل العقائدية مثل القول بتحريف الإنجيل، والاعتراف بنبوة الأنبياء السابقين والادعاء بأنه آخر الأنبياء. مما دفع بعض الباحثين إلى القول بأن النبي محمد قد أخذ رسالته من المانوية إما بسبب رحلاته التجارية أو بسبب انتشار المانوية في شبه الجزيرة العربية.

يعتبر إثارة مثل هذا الجدل، بالنسبة للباحثين المسلمين، مجرد محاولة إخراج الرسالة المحمدية من إطارها السماوي كما حاول قساوسة إسبانيا. فالاختلاف بين المانوية والإسلام واضح؛ المانوية ثنوية والإسلام توحيدي، إضافة إلى اعتدال الإسلام وتصوف المانوية.

ويبقى السؤال الأهم هل هذه الديانة الغنوصية عراقية\بابلية الأصل أم فارسية؟

اختلف الباحثون في أصل المانوية، فالبعض يرى أنها فارسية؛ لأن “ماني” وُلد ونشر ديانته حينما كان العراق القديم تحت سيطرة الامبراطورية الفارسية، بينما يجادل آخرون مثل “سليم مطر” في كتابه الذات الجريحة بـأن محاولات تفريس ماني وديانته ما هي إلا جزء من المحاولات التي تسعى إلى تفريس كل ما هو غير عربي في العراق متجاهلة تاريخ العراق القديم وهويته قبل دخول العرب. كما أن “أمين معلوف” في حدائق النور – وهي رواية أهداها “أمين معلوف” إلى “ماني” إذ تتناول قصة حياته وديانته – يؤكد عراقية “ماني”، كما أنه يستخدم (ابن بابل) بدلا من ماني للإشارة إليه.

المانوية عراقية الاصل 

ولد ماني في عائلة اشكانية الأصل في قرية تقع على نهر دجلة تدعى مردينوس أو ماردين بالقرب من بابل، ويقول البعض بأنه ولد في همذان الإيرانية، ومهما يكن فإن ماني لم يُمضي الكثير من عمره في هذه القرية، إذ انتقل مع والده “فاتك” إلى ميسان جنوب العراق حينما غير “فاتك” ديانته من الوثنية الكواكبية إلى الصابئة المندائية أو المغتسلة، وهي الأخرى ديانة توحيدية عراقية الأصل لا تزال موجودة في العراق، وقد تأثر ماني بهذه الديانة جداً، فمنها أخذ الزهد في الدنيا، الصلاة، الصوم والزكاة .

لكن المانوية كانت أكثر تشدداً على الرغم من أن الممارسات الصارمة يؤديها الصفوة فقط، خصوصا فيما يتعلق بالولادة والجنس، إذ كان يعتبر محرما الإيمان بتعجيل الخلاص وانتصار الخير، لكن المدهش في الأمر هو أن إيمان ماني بالمعرفة كوسيلة للخلاص.

جوهر المانوية

المانوية ديانة وثنية تؤمن بأن الخير والشر متأصلين، بمعنى نشوء الخير والشر بالوقت ذاته كقوتين متوازيتين، واتحاد جزيئات الظلمة والنور أدى إلى المادة. إذن فالمادة تحتوي على كل منهما في صراع أبدي ينتهي بانتصار النور أو يمكن القول باضمحلال الشر من خلال تغذية النور بالمعرفة، إذن المعرفة هي الخلاص. ولا أجد أن هذا المعتقد غريبا فقد كان ماني البابلي مثقفا مطلعا، واتخذ من الكلمة المكتوبة معجزة بالإضافة إلى الرسم، فبحسب أمين معلوف، فإن ماني من أوائل مؤسسي مدرسة الرسم الشرقي. تعد المانوية الديانة الكونية الكبرى والوحيدة التي برزت من التراث الغنوصي للشرق الأدنى، ولم تنجح مدرسة غنوصية كما نجحت المانوية بفضل اطلاع ماني من ناحية وتنوع المناخ الديني في العراق القديم الذي يسمح بولادة ديانات جديدة.

أما الثنوية المانوية فهي بحد ذاتها دليللإ على الهوية العراقية لماني وديانته، فقد كان معروفا عن البابليين عبادتهم الكواكب، كما أن المندائية هي الأخرى تؤمن بشكل أو آخر بالكواكب، والديانة الكواكبية وديانات العراق القديم بشكل عام تؤمن بثنائية الخير والشر فـآلهة الخير مثل تموز وبعل وشمش وإيل ومردوخ وآشور تقابل آلهة الشر نرجال وأريشكيجال وايرا وموت.

يفصل ماني بين الروح والجسد كالديانات البابلية القديمة، إذ تقول بفناء الجسد بينما تذهب الروح إلى العالم السفلي، والشريرة منها تسبب الأمراض. فلا عجب أن يكون ماني طبيبا إذ يمارس مهنته الطبية بحسب الطريقة البابلية القديمة أي بالتعاويذ، وهذا ما دفع الملك الفارسي لطرده إذ لا ينفع في الحرب بسبب عرج رجله ولا طبيبا كونه روحانيا.

يرجح بعض الباحثين أن المانوية فارسية بسبب ثنويتها أي مأخوذة من الزرادشتية – الديانة الرسمية للامبراطورية الفارسية- لكن ثنوية الزرادشتية فلسفية بمعنى أن الخير هو الأصل، أما الشر فليس ازليا وبحسب “الشهرستاني” و”فان هوج” فإن الزرادشتية ديانة موحدة لاهوتيا وثنوية فلسفيا ويؤكد “مصطفى محمود” ذلك في كتابه الله، إذ يقول أن زرادشت قد أدخل التوحيد أول مرة بأن جعل إله الشر أو أهرمن ذو شأن ضعيف.

اذن، ولادة ماني بابلية، وديانات “فاتك”، والده، ولغته آرامية، وهي أيضًا لغة كتبه الستة، أما الكتاب السابع فكان بالفارسية لأنه كان مرسلاً إلى الملك الفارسي “شابور الأول”، فكيف يكون فارسيا ولسانه آرامي، وحتى في محاكمته كان هناك مترجمٌ له، صديقه “نوهزاداك”، فهل يحتاج الفارسي إلى مترجم؟

ويؤكد ماني عراقيته بقوله {ثم نزل هذا الوحي وجاءت هذه النبوة في هذا القرن الأخير على يديَّ أنا “ماني” رسول إله الحق إلى أرض بابل}

وقال أيضا: { إني جئت من بلاد بابل لأبلغ دعوتي للناس كافة} كما تؤكد المسيحية بابلية ماني بوصفه (حاملا كتابا بابليا )

ومن الجدير بالذكر أن المسيحيين قد تقبلوا المانوية، خصوصا أن ماني قد ادعى أن الإنجيل بَشر به كخاتم الأنبياء، ثم انقلبت فيما بعد عليه. وفي الوقت الذي اعترف فيه بالديانات قبله كالمسيحية، الزرادشتية والبوذية، فقد أنكر اليهودية واعتبر إله اليهود شريرا، ولن تكون مبالغة إذا قلنا أن كره ماني لليهود صادر من كره البابليين لهم وسبيهم إياهم.

ومنهم من يذهب أبعد من ذلك ليقول بأن سبب مقتل ماني وتحريم ديانته كانت بسبب انتشارها في العراق القديم وتقديس بابل من قبل أتباعه – ظلت بابل قبلة أتباعه حتى قرون متأخرة من الدولة العباسية – مما أثار مخاوف الفرس من استعادة أمجاد بابل، رغم غياب أي دليل تاريخي يثبت صحة هذا الادعاء. إذ أن المعروف من سبب مقتل ماني هو غيرة الملك الفارسي الذي كان يرى نفسه أحق بالنبوة من ماني وعجز ماني عن معالجة ابنته، فاتهم بالزندقة -وكلمة زنديق آرامية كانت تطلق على اتابع المانوية استخدمها الفرس بعد تكفير ماني على أنها خروج عن الملة ثم بعدهم العرب- فقتل ماني – أو مات في السجن – ثم صلب في بابل حتى أكل الطير من رأسه.

المصادر: 

أديان العالم، هوستن سميث

الذات الجريحة، سليم مطر

الزندقة والزنادقة، محمد عبد الحميد الحمد 

الملل والنحل، الشهرستاني

حدائق النور، أمين معلوف

 فجر الإسلام، أحمد أمين

فهرست ابن النديم

ماني والمانوية، جيووايد نغرين

موسوعة تاريخ الأديان-الكتاب الخامس، فراس السواح

Muslims on the Manichaeans, Lloyd Abercrombie

كاتب

الصورة الافتراضية
Zahraa Majid
المقالات: 0

اترك ردّاً