ها أنا أنظر إلى بحر الرؤوس الحليقة والعباءات الكستنائية، يجلس الرهبان أمامي متصالبي الأرجل على حصائر سميكة في حجرة الدراسة المنبسطة، يعبق الهواء بحرارة الرياح الموسمية. يرفع راهب شاب يده سائلاً: هل الانفجار العظيم حقيقي؟ أتوقف قليلا قبل الإجابة.
حقيقة أن الكون قد تطور من مرحلة مبكرة شديدة الحرارة والكثافة مدعومة بشبكة كبيرة من الدلائل الناتجة عن الملاحظة والمراقبة، ومن الناحية الأخرى من المتوقع أن أصل الكون كان أصغر من جزيء دون ذري، أي حالة من الحرارة اللانهائية والكثافة التي لا يمكن استيعابها في أي نظرية فيزيائية. لا أعرف ما هو جوابي بصراحة.
لعقود كنت أجوب الهيمالايا لتعليم الرهبان ومؤخراً الراهبات أيضاً علوم الكونيات. بدأت “علوم الرهبان” بتوجيه من سعادة الدالاي لاما، والذي كان قلقاً لأن التقاليد الرهبوية البوذية لم تتضمن الرياضيات والعلوم الحديثة. ينحدر هؤلاء الرهبان من هضبة التبت حيث يسكنون في أطراف الهند، غادر معظمهم التبت في مرحلة الطفولة والكثير منهم لن يرى عائلته مجدداً، وهم طلاب نجيبون وحادوا الذكاء أيضا. فضولهم اللعوب والنشط يجعل الحصص الدرسية مكاناً للاستكشاف والتساؤل والتأمل.
إن مفهون علوم الكونيات يستثير الدماغ بدرجة كبيرة، من المادة المظلمة والطاقة المظلمة لنسيج الزمكان والانفجار العظيم. يميل علماء الغرب للتركيز على الحقائق والبيانات ويشيحون بوجوههم عن الأسئلة الفلسفية، في حين أن الرهبان البوذيين يحبون أن يغوصوا في جوهر الأشياء، إذ كثيرا ما نجد أنفسنا نتساءل: هل هذا حقيقي؟
في كتابه “الكون في ذرة واحدة” يقدم الدالاي لاما البوذية بوصفها تقليدا تطبيقياً وعملياً موازيا للعلوم. “ثقتي بالخوض في العلوم تنبع من إيماني بأنه في العلم والبوذية على حد سواء فهم طبيعة الواقع يتم عن طريق التفكير والاستقصاء النقدي، وإذا كان التحليل العلمي سيثبت بشكل قطعي أن اعتقادات معينة في البوذية خاطئة، فعلينا قبول ادعاءات العلم والتخلي عن هذه الاعتقادات”.
إن هذه المقولة مذهلة ومهمة جداً، فمن غير المحتمل أن يخرج تصريح كهذا من أي زعيم ديني آخر في العالم. مفهوم الواقع مفهوم شائك للعلم والبوذية على حد سواء، فالعلم المعاصر الذي بدأ من عصر غاليليو يعتمد على التجربة وملاحظة العالم الطبيعي، حيث تطورت الأنماط والنظريات في ظل البيانات، وفي بعض الأحيان تنقلب هذه البيانات تماماً.
يعي العلماء أن فهمنا للطبيعة محدود بالأدوات المتاحة لنا، فالإدراك البشري خادع، وكمثال على ذلك، الصلابة الظاهرية للمادة العادية هي وهم تشكل بسبب القوى الكهربائية داخل الذرة، كذلك تمنحنا الحواس إمكانية إدراك جزء صغير جداً من الموجات والذبذبات التي تتخلل هذا الكون. وفي علم الكونيات، مناطق الزمكان التي من الممكن أن نخمن وجودها، قد لا تكون قابلة للرصد أبداً.
ففي فيزياء الكم، بعض جزيئات الذرة لا يمكن تحديد موقعها بدقة وأكثر من ذلك فالتشابك الكمومي والتأثير الشبحي يعني أن الواقع بصورته الثابتة مفهوم لا وجود له. إن الواقع في الفيزياء منوط بالملاحظة ولا ينفصل عنها، يمكن تمييزه عن ذاك الذي تحدثت عنه الفلسفة في ما يسمى بالأونطولوجي أو علم الوجود. خلق هذا التمايز جدلاً بين الفلاسفة والفيزيائيين حول من يتطلب معدات أكثر في إدراكه للواقع، إذ يقول الفيلسوف: أحتاج فقط لبعض الورق وقلم. أما الفيزيائي فيقول: أنت تفوز فأنا أحتاج إلى بعض الورق وقلم وسلة للنفايات الورقية.
يشارك البوذيون العلماء في تطبيق العقل والمنطق على الواقع، مع هذا فطرائقهم تختلف إلى حدٍ ما. إذ يلتزم العلم عموماً بالموقف المادي، حيث يتكون الواقع فقط من الزمكان وطاقة الكتلة وخصائصهما الناشئة، وهذه النظرة تحقق خبرة إنسانية موضوعية.
بينما تركز البوذية على اكتساب نظرة دقيقة لواقع المعاناة، والطريق المحتمل للتحرر من المعاناة، كما يقول الباحث الان والاس: “لا تهتم البوذية بطبيعة الواقع بشكل مستقل عن التجربة البشرية، بل بواقع التجربة الإنسانية نفسها”.
إن نظرة كل من العلم والبوذية للواقع مكملة للأخرى، قد يجادل المادي العلمي في أن ألغاز العقل ستخضع قريباً لرحمة الرياضيات في حين قد يكون المحاور البوذي مشككاً في ذلك. بينما المفاهيم الأخرى يعزز بعضها البعض. في محادثتي مع الرهبان والراهبات في صفي، رأيت أن تفكيرهم مرن ودقيق بما يكفي لاستيعاب تقاليد الشرق والغرب.
كلا التقليدين (العلمي والبوذي) يعطيان دوراً مركزياً لفكرة عدم الثبات. تصف الفيزياء الحديثة التفاعل المستمر بين الكتلة والطاقة إذ يمكن إنشاء الجسيمات من الطاقة النقية، وحتى من فراغ الفضاء، كما تتحدث البوذية عن عدم ثبات خفي حيث يكون هناك تغيير في كل لحظة متناهية الصغر، إذ تصف الكون بحيث لا توجد كيانات صلبة أو متميزة، فقط تدفق من التفاعلات المستمرة.
إحدى السمات الأُخرى المشتركة هي الاعتماد المتبادل، فالجاذبية هي قوة ذات مدى لانهائي، وفي مبدأ ماخ، لا يمكن تحديد القصور الذاتي لأي شيء إلا من حيث الكتلة الكلية في الكون. وفي علم الأحياء، تشترك جميع الكائنات الحية في نفس علم الأنساب الكوني. وبالمثل، ترى البوذية أن لا شيء يمكن أن يكون المسبب والعلة الخاصة به، وأن كل الأشياء موجودة فقط في ظل العلاقة مع الآخرين.
ومن المحتمل أن إحدى أهم نقاط التشابه وأكثرها غرابة هي فكرة الفراغ، فالكون في الفيزياء الحديثة ليس مكونا من أشياء بل من طاقات، و الفراغ هو نتاج تشكل واضمحلال لجزيئات وجزيئات مضادة. يرى البوذيون أن الطبيعة المطلقة للكون كانت خلاء، والخلاء لا يعني العدم، فالفراغ هو غياب المفاهيم المزيفة التي نسقطها على الكيانات المحسوسة نتيجة جهلنا.
خارج القاعة الدرسية كنا نتحدث حتى المساء، محتسين شاي الزبدة المملح والتسامبا وهو عبارة عن دقيق شعير مشوي يعجن في عجينة لزجة. تعلمت أن بوذا وصف الأكوان المتعددة التي انبثقت من رحم العدم وعادت إلى العدم عبر دورات كونية متعددة من الخلق، وتعلمت أن المسار الزمني لهذه الدورات هو مليارات أو ترليونات من السنوات وتعلمت أن عدداً لا يحصى من البشر ولد خلال هذه الأكوان المتعددة كل منهم يتحرك على سلم الارتقاء الروحي ليصل في نهاية المطاف إلى حالة الحكمة الخالصة.
في أواخر الدروس تحدثنا عن مكونين مركزيين من مكونات الكون: المادة المظلمة والطاقة المظلمة، وأرى السؤال ظاهراً وواضحاً: كيف تعرف أنهما حقيقيان؟ لدينا الكثير من الأدلة على أن المجرات متماسكة مع بعضها عن طريق شيء يقاوم قوة الجاذبية ولكن لا يتفاعل مع الإشعاعات، وبالرغم من أننا لا نراه، إلا أننا نرى الآلية التي يحرف فيها الضوء، وهي ظاهرة سميت بعدسة الجاذبية والتي تنبأت بها النسبية العامة. يفسر لنا العلم الكثير من الأشياء غير المرئية لذلك فإننا نعتقد حقاً بوجود المادة المظلمة مع أننا لا نعلم ما هي مكوناتها الفيزيائية الأساسية.
كذلك هو الحال بالنسبة للطاقة المظلمة، فإني أرفع يدي مستسلما، فحقاً هناك شيء يجعل تمدد الكون يتسارع معارضا قوة الجاذبية عديمة اللون والرائحة والتي لا يمكن أن تدرس في المختبر. شيء ما يسبب لاشيء وكل شيء في آن واحد، ليتسارع الكون بسرعة لانهائية إلى حد لا يمكننا معه حتى تخيل أنه حقيقي، الطاقة المظلمة هو مصطلح لوصف جهلنا.
مراجعة وتدقيق: سماح صلاح.