بطاقة فنية عن الكتاب:
العنوان: مَيْ لَيَالِي إيزِيسْ كُوبِيَا.
الكاتب: واسيني الأعرج.
دار النشر: دار الآداب.
الطبعة الأولى: عام 2018.
عدد الصفحات: 351
عن الكاتب:
واسيني الأعرج أكاديمي وروائي جزائري. يشغل اليوم منصب أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس. يعتبر أحد أهمّ الأصوات الروائية في الوطن العربي، إذ ألف العديد من الروايات المشهورة مثل طوق الياسمين، ورواية رماد الشرق، ومملكة الفراشة.
عن الكتاب:
في 350 صفحة وعن دار الآداب يكتب الروائي واسيني الأعرج بلغة شاعرية جدا وعاطفية بإمتياز عن ماري إلياس زيادة الناصرية، فراشة الأدب ولؤلؤته المتألقة، عن محنتها في جحيم العصفورية وما بعده حتى وفاتها، مستشفى العصفورية الذي زجت فيه مي ظلماً ودون رغبتها لتخرج منه بعد أكثر من عشرة أشهر محطمة كلياً ومنهارة نفسياً، وحيدة ومنعزلة، الأديبة التي كرست كل حياتها للأدب خانها هذا الأدب في الأخير وعلى يد مثقفيه وأدبائه.
هي رواية في شكل مخطوطة تبدأ بفصلها الأول القوي في بنيته جدا والطويل بعنوان “في ملابسات مخطوطة ليالي العصفورية” يروي فيها قصة البحث عن يوميات مي التي كتبتها بنفسها وبلغتها الأدبية الراقية، هذه اليوميات التي اعتُقد أنَّها ضاعت منذ سبعين سنة أو حتى أنَّ مي نفسها حرقتها، لكنَّ واسيني كشف عن هذه اليوميات بطريقة تتركك تسمع صوت مي وكأنها أمامك تحكي لك قصتها المؤلمة، تسمع نحيبها ونشيجها، تحس بألمها عن قرب وتدخلك في عالمها الوحيد، وكانت هذه براعة روائية فائقة من واسيني.
ثم ينتقل بنا الى المخطوطة نفسها بفصولها الأربعة، قصة الظلم الذي تعرضت له في مستشفى المجانين العصفورية، والذي دخلته ضد رغبتها، فقد أدخلها أبناء عمومتها طمعا في ثروتها وممتلكاتها القيمة، وهي التي استنجدت بهم كي يساعدوها في محنها الثلاث التي توالت الواحدة بعد الأخرى، كانت الأولى عند موت أبيها الصحفي في جريدة المحروسة التي كانت تساهم فيها بمقالاتها الجميلة، والثانية عند موت أمها التي كانت قريبة منها جدا، والثالثة عند موت جبران خليل جبران حب حياتها الأبدي، الوحيد الذي أحبته بكل جوارحها وهي التي لم تلتقِ به أبدا لكن قلبها كان ينشد جبران في كل لحظة.
رغم أنَّ حضور جبران خليل جبران في حياة مي كان قويا جدا إلا أنَّ واسيني لم يذكره كثيرا عدا عند ذكره لأيام حنين مي لأمها وأبيها، ربَّما لأن الرواية تتناول في مجملها زمن ليالي مي في العصفورية ووفاتها وفي هذه الفترة كان جبران قد فارق الحياة.
كتبت له في احدى رسائلها الكثيرة (من بين كل الذين عرفتهم، وحدك كنت هناك، في ذلك الأفق البعيد، علامة نور تختلف عن كل شيء، حتى نفسك، كما عرفتك في البداية، ليس المهم أن تحبني، الأهم أن تكتب لي، وتحسسني بأني امرأة مكنها أن تصبح حبيبتك الأبدية، عاشقة، معشوقة، مجنونة بسبب رجل أشعرها بوجودها ثم جننها. عندما صممت أن أركض نحوك فقط لأضمك، وأرى الشهوة في عينيك، تسربت من كفي ومن بين أصابعي، أو لنقل سبقتني لأني أنا أيضا كنت بين موتين، الموت الذي تبع وفاتك المبكرة، الأحباب يموتون دائماً مبكراً يا جبران، حتى ولو عشنا قروناً بصحبتهم، والموت بالتقسيط الذي انا فيه، يوقظني كل صباح، ويقتفي خطايَ قبل أن يجهز علي يوماً ما…) [1].
مي زيادة عاشت في عصر كانت النهضة فيه حلماً والحرية فيه وهما، زمن ذكوريُّ بحت لكن رغم هذا كله برزت فيه كأديبة نابغة ذكية، محبة للأدب وللحياة، ذواقة للموسيقى ولكل ما له صلة بالفن، تكتب الشعر والمقالة والخواطر والقصة، تتقن تسع لغات وتكتب بالعربية والفرنسية، أول ديوان تنشره كان بالفرنسية fleurs de rêves 1911 تحت اسم مستعار إيزيس كوبيا وهو اسم كانت توقع به كتاباتها في بداياتها ، ثم تخلت عنه لاحقا، في هذا الشأن جاء في الرواية «كان عليّ أن أخرج من دائرة البشر وأكتب باسم إلهة. استعرت من ماري البداية والنهاية. مي تصغير ماري عند الإنكليز. إيزيس كوبيا يكاد يكون الترجمة الحرفية لماري زيادة. إيزيس أخت الإله وعروسه. ماري أم الابن وعروس البحر. كوبيا اللاتينية مرادفة لزيادة، أي الشيء الفائض».[2]
لتصير مي في وقت قياسي الكاتبة الشرقية المتميزة ذات الشهرة الواسعة في الساحة الأدبية، لم يحبها فقط قراؤها بل حتى عمالقة الأدب آنذاك فقد (لقّبها ولي الدين يكن بملكة دولة الإلهام، وخليل مطران بفريدة العصر، ومصطفى صادق الرافعي بسيدة القلم، وشكيب إرسلان بنادرة الدهر، ويعقوب صروف بالدرّة اليتيمة، والأب أنسطاس الكرملي بحيلة الزمان، والشاعر شبلي الملاط بنابغة بلادي، ومصطفى عبد الرازق بأميرة النهضة الشرقية، وفارس الخوري بأميرة البيان، وعبد الوهاب العزام بالنابغة الأدبية) [3]، كل هؤلاء العشاق كانت مي هي المضيفة لهم في صالونها الأدبي 1913م الذي دام نحو عشرين سنة أو أكثر تناقشوا فيه الكتب وتدارسوا الأدب ونثروا الشعر وكتبوا القصائد، وصمتوا عمداً يوم احتاجت لهم حتى أن بعضهم كانوا من الأوائل الذين طعنوا فيها، هؤلاء الأدباء الذين تغنوا أيامها بالحداثة وعجت كتبهم بالحرية ومعنى الأدب رفضوا أن يدافعوا عما كتبوا، وتركوا مي في عزلة متهمة بالجنون ومرمية في العصفورية، ليعيد واسيني رسم قضية الصداقة المشوَّهة في مجتمع المثقفين والأدباء من عصر مي إلى يومنا.
لتنتهي الرواية بخروج مي من العصفورية شاحبة جدا، مكسورة منهارة نفسياً وجسدياً، لم يتكلم أحد عنها غير أمين الريحاني الذي اعطاها منزلا بعدما وجدت نفسها مفلسة تماماً. لتعود بعد كل ما حدث الى الجامعة الأمريكية في ويست هول وتقدم خطاباً كان الكل يترقبه، بعض الذين تسببوا في دخولها العصفورية كانوا بين الحضور، ربما احتى يتأكدوا من جنون هذه الكاتبة التي شغلت الواقع العربي، هل ستنفجر صارخة في وجوههم كالمجنونة؟ لكن مي زيادة فعلت عكس ذلك تماما ألقت خطابا مؤثرا جدا والغريب في الأمر أن المحاضرة كانت بعنوان “رسالة الأديب”، مظلومة عذبت ظالمها بنجاحها وتفوقها، وبعد كل الذي عانته بقيت وفية للأدب، لينفجر واسيني بكلمات أخيرة قوية مبكية “ إنَّ الحَجْر على هذه النابغة هو حجر على الأدب العربي وعلى الأمَّة العربية، وعلى العبقرية العربية، فلا تعدموها بسطرين من قلمكم.. وهي عاقلة فلا تجعلوها بحكمكم مجنونة. إنَّ في عمقها قيد، وهي السيدة الفريدة المبجلة، فاخلعوه عنها، ودعوها تتنشق الهواء الطلق، فوراءها الملايين من الخلق ينتظرونها.”[4]
أفظع عقوبة هي أن يُسْرق من الإنسان حقَّه في الوجود. وقد دفعت مي زيادة ثمن مجتمع زعم وتوهم أنَّه تحرَّر من قيوده النفسية اتجاه كل ما هو أنثوي، لكن الثمن كان باهظا جدا ولا يمكن احتماله، ربما كانت مي مجنونة لأنها صدقت أنَّ الأدب يمكنه أن يغير قلوباً لا تعرف إلا الخيانة طريقة لها للعيش.
تكتب مي زيادة في آخر أيامها “اتمنى ان يأتي بعدي من ينصفني” … حسناً كانت تتحدث عن واسيني الأعرج وروايته “مي ليالي إيزيس كوبيا”.
[1] صفحة 137
[2] صفحة 206
[3] صفحة 133
[4] صفحة 289
تدقيق لغوي: بشرى بوخالفي