تحت غطاء الصداقة الأدبية، كان يتردد كوكبة من أكبر الأدباء والمفكرين العرب، في القرن العشرين، على صالون “مي زيادة” الأدبي؛ لإرضاء أشواقهم وإشباع رغباتهم ولو بالنظر إليها، لقد كانت مثقفة من طراز رفيع، متحررة ومتفتحة على الثقافات، أتقنت تسع لغات كاملة وكانت على قدر عظيم من الجمال، ورقة الإحساس، ورهافة المشاعر، والاتزان والصفاء الروحي، لقد كانت تحمل كل صفات الأنثى النموذجية، الحالمة والرقيقة.
كان صالونها الذي دام قرابة العشرين عامًا من أشهر الندوات الثقافية التي يتردد عليها أدباء ومفكرون، وحتى سياسيون وبعضٌ من رجال الدين الذين سلبت مي لُبَّ قلوبهم قبل عقولهم من أول يوم ألقت فيه كلمتها في الجامعة المصرية نيابة عن الأديب “جبران خليل جبران” في مناسبة تكريم الشاعر “خليل مطران” سنة 1913م، وهناك اشرأبت إلى رؤيتها الأعناق وتهامس حولها الحاضرون، إذ كانت مي عظيمة الحضور حينها ولما لمست تعلق القلوب بها وإعجابهم بصوتها والطريقة التي ألقت بها كلمتها، أعلنت في تلك الليلة دعوتها لجميع الحضور عن فتح صالونها.
لقد شكّل الأمر آنذاك دهشةً وانبهاراً لدى الأوساط الأدبية والفكرية في مصر؛ باعتبار أن مي وجدت في محيط ذكوري وزمن كانت فيه الكتابة النسائية نادرة جدًا، فجاءت مي بجرأة واسعة لتكسر كل الحواجز وتكتب اسمها بقلم من ذهب، وكتب عميد الأدب العربي “طه حسين” في سيرته الذاتية “الأيام” معبرًا عن إعجابه الشديد حين سمع صوتها للمرة الأولى في الحفل وكان كفيفًا: «لم يرض الفتى (يقصد نفسه) عن شيء مما سمع إلا صوتًا واحدًا سمعه فاضطرب له اضطرابا شديدا أرّق له ليلته تلك، كان الصوت نحيلاً، وكان عذباً رائقاً، وكان لا يبلغ السمع حتى ينفذ منه في خفة إلى القلب، فيفعل فيه الأفاعيل، وكان صوت الآنسة مي التي كانت تتحدث إلى الجمهور للمرة الأولى”(1)، وكتب الشاعر إسماعيل صبري معبراً عن تعلقه بمي وبالصالون الذي كان يقام كل يوم ثلاثاء قائلاً:
“رُوحِي على بَعضِ دُورِ الحَيِّ حَائِمَةٌ |
كَظَامِئِ الطَيرِ تَوَاقًا إلى المَاء |
إن لم أمتع بمي ناظري غدًا |
لا كان صبحك يا يوم الثلاثاء“(2). |
لقد كانت مي، الأديبة الرقيقة، قريبة جداً من القلوب قبل العقول؛ فأحبها عباس محمود العقاد، وطه حسين، وأحمد لطفي السيد، وشيخ الشعراء إسماعيل صبري، وشيخ الأزهر مصطفى عبد الرازق، والمفكر شبلي شميل، وأمير الشعراء أحمد شوقي، وشاعر النيل حافظ إبراهيم، وشاعر القطرين خليل مطران، والشاعر الثائر ولي الدين يكن، والأديب مصطفى صادق الرافعي، والكاتب أنطوان الجميل، والدكتور منصور فهمي، وهؤلاء كلهم أحب مي، كل على طريقته وأغلبهم عبر عن ذلك مرارًا، وشكلت بالنسبة إليهم رمزًا أنثوياً ملهماً.
لكن المعروف أن مي لم يخفق قلبها بشدة كما خفق لرجل واحد ظلت تراسه مدة عشرين سنة ولم تلتقِ به يومًا، وكانت هذه أعجوبة من عجائب “مي” مع معشوقها “جبران خليل جبران” اللّذين تركا لنا زخما كبيراً من نصوص “أدب المراسلات”.
في إحدى رسائلها لجبران كتبت مي تقول: “جبران، ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به، ولكني أعرف أنك محبوبي وأني أخاف الحب، كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا وكيف أفرط فيه؟ الحمد لله أنني أكتبه على الورق ولا أتلفظ به؛ لأنك لو كنت الآن حاضراً بالجسد لهربت خجلًا من هذا الكلام، ولاختفيت زمناً طويلًا فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى”(3).
ورد جبران عليها بقوله: “الكلمة الحلوة التي جاءتني منك، كانت أحب لدي وأثمن عندي من كل ما يستطيع الناس جميعهم أن يفعلوا أمامي، الله يعلم ذلك وقلبك يعلم”.
وكتب إليها أيضًا، ذات مرة يقول: “أعلم أن القليل من الحبّ في الحب لا يرضيك، كما أعلم أن القليل في الحب لا يرضيني، أنت وأنا لا ولن نرضى بالقليل، نحن نريد الكثير، نحن نريد كل شيء، نحن نريد الكمال، أقول يا ماري: إنّ في الإرادة الحصول، فإذا كانت إرادتنا ظلاً من أظلال الله فسوف نحصل بدون شك على نور من أنوار الله، لا تخافي الحب يا ماري، لا تخافي الحب يا رفيقة قلبي، علينا أن نستسلم إليه رغم ما فيه من الألم والحنين والوحشة ورغم ما فيه من الالتباس والحيرة”.(4)
لكن علاقة الحب الفريدة التي كانت تجمع مي بجبران انتهت بوفاة جبران عام 1931.
وإلى غاية هذه السنة كان ما يزال حضور الأديبة الرقيقة قويًا في قلوب محبيها العظماء في الأوساط الثقافية العربية، فكان عباس محمود العقاد -الذي أحبّ مي بكبرياء، وأذعن رويدًا رويدًا لعاطفة الحب التي كانت تتملكه تجاهها- غيورًا من العلاقة بين جبران ومي، لكن يبدو أنّ مي كانت تروقها كل تلك العواطف التي كانت تأتيها من كل حدب وصوب؛ فكتبت في 30 أوت من عام 1925 إلى العقاد، تقول له: “لا تحسب أنني أتهمك بالغيرة من جبران، فإنه في نيويورك لم يرني، ولعله لن يراني، كما أني لم أره إلا في تلك الصور التي تنشرها الصحف، ولكن طبيعة الأنثى يلذ لها أن يتغاير فيها الرجال، وتشعر بالازدهاء حين تراهم يتنافسون عليها، أليس كذلك؟ معذرة، فقد أردت أن أحتفي بهذه الغيرة، لا لأضايقك، ولكن لأزداد شعورًا بأن لي مكانة في نفسك، أهنئ بها نفسي، وأمتع بها وجداني”(5).
في سنة 1931، انطفأت شعلة الحب المتوقدة التي دامت قرابة العشرين سنة، وذلك بوفاة جبران في العاشر من أفريل، وقبله ببضعة أشهر توفي والدها بعد مرض عضال موجع ومؤلم، وبعد سنة من ذلك 1932، توفت والدتها وكانت هذه المعطيات محطة حاسمة في تاريخ مي كله فتكالبت عليها صنوف الدهر، وغلبتها الأيام، وانفضّ من حولها الكثيرون، فشكلت هذه المحطة بالنسبة لها فاجعة رهيبة فعادت إلى لبنان، وهنا كانت المؤامرة والدسيسة المؤسفة التي خطط لها بعض من أفراد اسرتها؛ من أجل الانقضاض على تركة والدها، ونتيجة للحالة النفسية التي كانت فيها أُدخلت -عنوة وقهرًا- إلى مستشفى العصفورية للأمراض العقلية، ولاحقاً بعد خروجها ثبت أنها لم تكن تعاني إلا من حالة نفسية ضيقة وطبيعية، وكتبت عن الجحيم الذي لاقته في العصفورية قائلة:
“باسم الحياة ألقاني أولئك الأقارب في دار المجانين أحتضر على مهل وأموت شيئاً فشيئًا… موت لا أظن أنّ إنساناً يحتمل الإصغاء برباطة جأش إلى وصفه، ومع ذلك كان أقاربي في زيارتهم النادرة يستمعون إليّ بسرور، وأنا أصف نكالي وشقائي راجية منهم عبثاً أن يرحموني ويخرجوني من العصفورية“(6).
لقد تحطمت مي وانتهت بعد سنوات من النضال لأجل الحرية والإنسانية، حبيسة ومهجورة من أسرتها ومن الأوساط الأدبية والثقافية التي كانت علماً من أعلامها، وكان هذا الفعل شنيعاً وفظيعاً وغاية في القسوة، لقد كان عملا ًغير إنساني، وفي ذلك كتبت تعبر عن فاجعتها قائلة:
“أنا امرأة قضيت حياتي بين قلمي وأدواتي وكتبي ودراساتي، وقد انصرفت بكل تفكيري إلى المثل الأعلى، وهذه الحياة المثالية التي حييتها جعلتني أجهل ما في البشر من دسائس، أجل كنت أجهل الدسيسة وتلك النعومة التي يظهر بها بعض الناس ويخبؤون السم القتال“.
وانطفأت شعلة الأدب العربي -مي زيادة- في التاسع عشر من أكتوبر عام 1941، في مستشفى المَعَادي بالقاهرة ولم يمش في جنازتها -رغم شهرتها- إلا ثلاثة من الأوفياء، هم: لطفي السيد، وخليل مطران، وأنطوان الجميل.
وغاب عنها عظماء الأدب والفكر -هؤلاء الذين قرأنا أدبهم وفكرهم، وتهذبت به أرواحنا وأذواقنا إلى مزيد من الإنسانية الطيبة والرحيمة- بخسوا حق مي زيادة عليهم وفتحوا على أنفسهم الباب واسعًا أمام الإدانة باسم الأخلاق والإنسانية.
تدقيق لغوي: آية الشاعر
تعديل الصورة: عمر دريوش
هوامش:
(1) طه حسين، الأيام، مؤسسة هنداوي، مصر، ب ط، 2012، ص238.
(2) خليل البيطار، مي زيادة ياسمينة النهضة والحرية، الهيئة العامة السورية للكتاب، سوريا، ط1، 2012، ص48.
(3) محمد رفعت، أقاصيص العشق: أجمل قصص الحب بين المشاهير، الدار للنشر والتوزيع، مصر، 2017، ص95.
(4) الشعلة الزرقاء: رسائل جبران خليل جبران إلى مي زيادة، تحقيق وتقديم: سلمى الحفار الكزبري وسهيل بديع بشروئي، مؤسسة نوفل، لبنان، ط2، 1984، ص148.
(5) خالد محمد غازي، مي زيادة سيرة حياتها وأدبها وأوراق لم تنشر، ص117.
(6) المرجع السابق نفسه، ص161.