مع تنامي الحركات الإصلاحيَّة وتزايد وتعالي الأصوات المطالبة بالتغيير في عديد دول المعمورة، برز مصطلح “النُّخبة” بقوة إلى السطح، فصار العام والخاص يردده ويطالب بضرورة تدخل النخبة لتسيير هذه الأوضاع. فمالذي يُقصد بهذا المصطلح ؟ وماهو مفهوم النخب تحديدا ودورها كفئة فاعلة قادرة على تغيير الأوضاع وتولي أدوار قيادية في مجتمعاتها؟
يشكّل مفهوم النخبة منطلقا منهجيا في كل فهم محكم لحركة التاريخ الانساني وما يعتل فيه من أحداث ومستجدات، لكن وبالرغم من أهميَّة هذا المصطلح إلَّا أنَّ علماء الاجتماع لم يتفقوا على مفهوم معيَّن له ولا على تاريخ نشأة النخبة أو دورها بالتحديد.
إلا أنَّه، ومما لاشك فيه، فإنَّ مفهوم النخبة ضارب في القدم ويعود لقرون خلت وليس مصطلحا حديث النشأة، وهذا استنادا على تصميم أفلاطون لنموذج ‘المدينة الفاضلة ” ووضعه لأسسها، حيث يرى أن رجال الفكر والفلاسفة هم الأحق والأجدر بتولي مقاليد الحكم، نموذج تبناه بعده الفارابي أيضا.
كما عرفت المجتمعات القديمة الأخرى تواجد ” النخب” على غرار المجتمع المصري، أين كان الكهنة، الى جانب الملوك، يمثلون صفوة المجتمع المصري، كونهم كانوا مكلفين بحماية الآلهة في المعابد. وعليه فإنَّه يمكن التأكيد أن ظاهرة ” النخبة” قد ارتبطت بالانسان منذ بدء الخليقة وإن اختلفت صورها وأدوارها وفق المرحلة الزمنيَّة والرقعة الجغرافيَّة التي ظهرت فيها.
أما عن “النخبة” كمصطلح فيعتبر أحد أكثر المصطلحات تداولا سواء في التخاطب أو الكتابة وهذا قبل حتى ولوجه دائرة الاستعمال الأكاديمي والعلمي في ثالث عقود القرن التاسع عشر حوالي سنة 1832 حسب تقدير توم بوتمور، في قاموس أكسفورد، بل منذ نشأة الفلسفة السياسية وتشكل “وعي الظواهر” ضمن اهتماماتها. (1)
بالعودة إلى أفلاطون، فإنَّه من المعروف عنه دفاعه الشديد على ضرورة تولي مجموعة من النابهين العالمين، حددها هو بالفلاسفة، دور القيادة في مجتمعاتها، ليأتي بعده عالم الإجتماع الفرنسي سان سيمون ليكون أول من وضع الخطوط العامة لتحليل النخبة، فمثَّل المجتمع بهرم تتربع النخبة أو صفوة المجتمع على قمته مؤكدا في ذات السياق أنَّ النخبة واقع لامفر منه لأي مجتمع وأنَّ أدنى محاولة لإصلاح أي نظام حكم لايمكن لها أن تكون دون النخبة، لهذا يرى سايمون أنَّه ينبغي أن تُسند لهم مهمة الحكم، مشددا على ضرورة ارتكاز معايير اختيار هذه النخبة على الامتيازات والمؤهلات لا على الانتماءات الأسريَّة.
.وفي نص شهير له سمي ” أمثولة سان سيمون” -وهي مقالة نشرها عام 1819- يرى سيمون: أن فرنسا لن تعاني من فقدان ملوكها ونبلائها وكل أنواع سياسيّيها، ولكنها ستصاب بكارثة عمياء إذا ما فقدت علماءها وصناعييها وأفضل حرفييها، فالنُّخب كما يراها تشكل روح الأمة وقوتها الخفية. يقول سيمون في وصفه لحالة فقدان النخب: “لنفترض أن فرنسا فقدت بصورة مفاجئة أهم خمسين فيزيائيا لديها، وأهم خمسين من الكيميائيين والأطباء والعلماء والشعراء والرسامين والمهندسين والجراحين والصيادلة، الذين يعدون مع غيرهم من الحرفيين والمهنيين الأكثر إنتاجا، فإن الأمة ستصبح جسدا لا روح فيه، وستحتاج فرنسا إلى جيل كامل لتعوّض هذه الخسارة الهائلة ” (2)
هذا وعلى رغم تطور المجتمعات الإنسانيَّة الكبير في مجال الديمقراطية، إلا أنّ النخبة استطاعت الحفاظ على مكانتها كقوة فاعلة في صقل المواقف وتوجبه المجتمع المدني وتحديد مساراته في مختلف المجالات، وهذا حتى بعد ظهور الماركسيَّة كنظريَّة للطبقة العاملة والتي أكدت على أهمية الجماهير والطبقة العاملة في قيادة الحركة التاريخية والسياسية للمجتمع، التي لم تستطع انتزاع الدور الفعال للنخبة، فظهرت مجموعات عدة من النخب بتسميات مختلفة على غرار طلائع البروليتا واللجان الحزبية القائدة في الأحزاب الشيوعيَّة.
ويؤكد د. محمد مالكي في كتابه “دور النخبة وأدوارها”، على أن وظيفة النخبة لا تتعلق بالمعارضة وحدها أو بالموالاة فقط، فالأمر لا يتعلق بالأبيض أو الأسود، ولكن المشكل يرتبط بمدى قدرة النخبة بحسبها فئة مميزة بما لها من وجاهة مادية ورمزية على ممارسة حد أدنى من الاستقلالية في التأثير في المجتمع المنتمية إليه من دون أن تفقد كنه وجودها أو تتحول إلى دمية أو إمّعة لا حول لها ولا قوة. (3)
بينما يرى سنان أنطون (شاعر وروائي، مترجم أكاديمي عراقي) أن:” التغيير عملية معقدة، تدخل فيها شبكة من القوى والعلاقات وتتطلب الظروف المواتية. ونحن نعيش في عالم معقد مترابط بشكل لم يسبق له مثيل. التغيير مهمة الجميع، إذا استطاعوا إليه السبيل، طبعا. لا أؤمن بالنخب. فالنخب متورطة مع قوى اقتصادية وسياسية وهذه مرتبطة بالنظام المهيمن. الحديث عن «المثقف» أيضاً يتم بعمومية. سلطة الدولة والنخب المسيطرة تدجّن المثقفين ليكونوا ضمن ترسانتها. ولكن هناك المثقف الذي يقف مع المهمّشين والمستضعفين ولا يساوم ويوظّف قدراته أو أفكاره لإعادة إنتاج الوضع السائد. المثقف هو مواطن، كما ذكرت، وعليه أن يدافع عن حق الإنسان/المواطن في الحياة الكريمة ويقف في خندق الناس وليس في خندق النظام أو الجيش أو الشركات “.
كل هذا يبين ويؤكد أهميَّة النخب في تحديد المسارات الكبرى للمجتمعات والدول، لدرجة أنه من الصعب إن لم نقل من المستحيل أن تتحرك الدول والمجتمعات الإنسانية وتنمو دون فعاليَّة النخب القادرة على توجيه المجتمع.
لكن السؤال الذي يجب طرحه في خضم ما ذُكِر أعلاه، هل نرى فعلا للنخبة، خاصة العربيَّة اليوم وجودا مؤثرا بقرارات وأفعال ملموسة، أم أنَّ دورها لا يزال مهمشا ومغيبا كدليل على فشلها في فرض نفسها كطبقة مؤثرة، وهل يمكن القول أن مصائر الشعوب والحلول اللازمة لاخراجها من عنق الزجاجة بيد نخبها؟ وهل هجرة نخبنا الجسدية أو النفسية (وما أكثرها!) هو الكارثة العمياء بتعبير سيمون؟
تدقيق لغوي: عمر دريوش
المصادر:
- (1) د- كمال المنوفي، أصول النظم السياسية المقارنة
- (2) ابراهيم العريس، «أمثولة سان سيمون»: بناء المستقبل مشروط بازدهار الفنون والحرف، الحياة – 17 آذار -2013: http://alhayat.com/OpinionsDetails/49381
- (3) هنا