“فقه الثورة”، هو الكتاب الثالث من سلسلة السباعيات (متاهات الوهم، دوامات التدين، فقه الثورة)، يجمع مقالات كتبها المفكر المصريّ يوسف زيدان أثناء الثورة المصرية، محاولا توجيهها على طريقته المألوفة، إذ حلّل وشرح، بلغة جميلة وبسرد كمٍّ هائلٍ من المعلومات، في حين رأى البعض الكتاب على أنّه مجرد حكيٍ لوقائع عاشها الشعب المصري من وجهة نظر الكاتب فقط، إلا أنّ الكتاب في النهاية ليس دراسة معمّقة لمفهوم الثورة، وإنّا في هذا المقال سنركز على الأصول الثورية التي وردت في الكتاب، والتي بنى عليها الكاتب طرحه، في تأملات فكرية لمرحلة مهمة وفارقة سميت بالربيع العربي (ثورة 25 يناير بالنسبة لمصر).
يستهلّ زيدان مقدمة الكتاب كعادته بضبط المصطلحات والمفاهيم، فيؤكد في البداية على مشروعية اِقتران لفظة “فقه” بـ “الثورة” موضحا أن المعنى الأصلي لكلمة فقه هو “العلم بالشيء والفهم له”، ومنه فإن عنوان الكتاب يقصد به: “فهم طبيعة ما جرى في مصر والبلاد العربية التي ثارت على حكامها العسكريين في أصلهم أو هم من ورثة العسكريين” (ص 10)، وسيجد القارئ حالات أخرى من الضبط لمصطلحات كانت متداولة بكثرة أثناء كتابة المقالات، بين تصحيح وتوضيح من أجل فهم أدق كـ: “فقه، الجمهورية الثانية، فلول، طوابير، الثورة، الفورة، الديمقراطية…إلخ”
وحسب أستاذ الفلسفة فإن للفقه الثوري “أصولا” أو بعبارة أخرى: قواعد أساسية ومبادئ حاكمة للحركة الثورية، وهي قواعد معيارية سبعة، قَدَّمها وسردها كاملة بإيجاز، كل واحدة على حدى، لتكون مدخلا للكتاب، موضّحا أن الفعل الثوري الرشيد يقاس بها وعليها، وتتأتى أهميتها خلال/أثناء حالة الاضطراب الذهني العام الذي تتضارب فيه الرؤى وتختلط فيه المفاهيم على العقل الجمعي، إذ أن الأحداث تأتي متتابعة عليه (العقل الجمعي) بوتيرة أسرع من قدرته على استيعابها.
هنا نستعرض ملخصا للأصول الثورية كما وردت في مقدمة الكتاب:
الثورة لا تتم بشكل فجائي: فحوى هذا الأصل دحض مفهوم “فجائية الثورة”، وأن لا أساس له وهو ليس مبررا لانهيار النظم الاستبدادية، وإنما في واقع الأمر تبدو النُظُم راسخة على مستوى القشرة الخارجية التي تخفي باطنها المهترئ فقط. وإنّ للثورة أطوارا خمسة سابقة للِاستعلان الثوريّ الذي قد يتوهم البعض أنه مفاجئ حسب يوسف زيدان، وهي: “الظلم، الاِحتقان، التظاهر، الانفجار، التغيير”، وقد تعرض لها بالتفصيل في الكتاب تحت عنوان جانبي كان: “سيول الثورة وأنهار النهضة.”
الثورة عمومية بالضرورة، ومؤنثة:
لا يصح إطلاق صفة ثورة إلا على ذلك الفعل الاِجتماعيّ “العام” والممثّل لكافة الأطياف الاِجتماعيّة. فلا يجوز أن تنسب الثورة إلى فريق مخصوص أو طيف اجتماعي كالجيش أو الجماعات المسلحة أو الجماعات ذات الأثر الملموس في المجتمع. ولأنّ المرأة هي نصف المجتمع وتقع عليها كل موجبات الثورة وأطوارها، فلا يصح قيام الثورة إلا بمشاركة نسائية وإلا كانت “غير إنسانية” على حد وصف الكاتب. (فصّل الكاتب هذه الفكرة في عنوان: “الثورة إذا لم تؤنث لا يعوّل عليها”).
الثائر لشرط شخصيّ، لا يعوّل عليه:
هذا الأصل متعلق بنوازع الثائر، فالثائر لا تحرّكه نوازع شخصيّة أو مطالب ذاتية، وإلا اعتُبِر حينها “صاخب” لتنفيس أزمة، أو “مطالب” بمصلحة خاصة، وهذا النوع على حد تعبير الكاتب: لا يعوّل عليه، بل هو مضرّ على العموم، وسرعان ما يصير مؤثّرا سلبيََّا بممارساته (إشاعة حالات الإحباط، التشكيك..) في الأطوار التالية على تغيير السلطة (باختلاف أشكال التغيير).
لا ثورة في المطلق:
الفعل الثوري هو فكرة، مرتبطة بواقع معين ولا تأتي أو تحلّق في الفراغ. فالثورة ليست مطلوبة لذاتها وإنّما هي سعي لتغيير واقع ما رأى الثائرون أن الموت أهون من الصبر عليه. ومع ذلك فلا معنى لـ الثائرين دوما، وفي المطلق، فالفعل الثوريّ إن لم يكن رشيداََ وهادفا لغاية محدّدة فهو هيجان لا معنى له، ولا يعوّل عليه.
الثائر نبيل، وليس نبيّا:
هذا الأصل مهم وخطير، وفحواه أن الثائر “حالم” بمستقبل واعد و”حزين” على راهن وطنه و”عاقد” النية على الوصول لهدفه غير طالب لنفسه شيئا، فالفعل الثوريّ لا يكون إلا إذا اكتسى بالرفعة والنبل، وبذلك فالثائر نبيل غير وضيع أو دنيء الهمة أو رخيص الأفعال، ومما لفت الكاتب في أطوار الثورة المصريّة هو التشويش عليها وتفريق عزمها بتشويه صورة الثوّار والنبش في سيرتهم الذاتية لالتقاط مواقف يراها العامة مخزية (كالعلاقات الخاصة)، ودفع النساء خارج مشهد الثورة بحيل رخيصة كالتحرش العلني. ورغم ما سبق فإن الثائر لا يفترض فيه أن يكون نبيّا، فهو غير معصوم، قد يخطئ مرة ويجانبه الصواب في الحكم على إيقاعات متسارعة، وهنا يجب التماس العذر له وقبول اعتذاره شرط أن يكون الخطأ غير معتاد وسليم النية.
الوعي والعمق، وقود الثورة:
قياس الفعل الثوري بدرجة أولى يكون بوعي القائم به ومدى عمق فكرته عن الثورة، لا بعدد القائمين به. وهناك أمثلة عن ثورات مجيدة كانت بداياتها محدودة مثلما هو الحال في ثورة الصين التي قادها ماو تسي تونج ( بدأ الثورة بإعلان في جريدة، يطلب فيه الاِجتماع في مقهى بمن يهتمون بأمر الصين، جاءه ثلاثة فقط، كانوا هم الشرارة التي غيرت مسار بلد عظيم كالصين).
اللغة مسار ثوري:
تعتبر اللغة مؤشرا دالا على نضج المجتمع، يقول زيدان أن بداية ثورة 25 يناير في مصر كانت بعبارات عامية ركيكة، ولكنها نطقت لاحقا بلسان فصيح: الشعب يريد إسقاط النظام، وهي العبارة التي تحققت أولى غاياتها بعد أيام. وبتوالي أيام الجمعات انحدرت اللغة وتم ابتذالها لصالح الشتائم العامية التي تسلّلت إلى الألسنة ثم تصدرت وسائل الإعلام، ويرجع الكاتب ذلك إلى حيل من جهات سلطوية عسكرية ومتأسلمة، كان هدفها تشتيت المسار الثوري المصري. وقد كتب زيدان آخر فصول هذا الكتاب “الحكمة المؤنثة” على شكل مقالات قصصيّة جاءت بلغة فصيحة راقية وعالية المستوى كرد فعل على الركاكة والابتذال المنتشر حينها.
بهذه وعلى هذه الأصول بنى يوسف زيدان فصول كتابه، التي عرّفها على أنّها تأملات في مسار ثورة مصر وما زامنها من ثورات عربيّة، لا تدّعي اليقين ولا الصواب المطلق. وحاولنا عرض الأصول بسرعة وإيجاز على أنّنا ندعو كل قارئ إلى العودة للكتاب وقراءة فصوله بتأنٍّ وإنتباه للهوامش والملاحظات.
تدقيق لغوي: منال بوخزنة.