نواصل في هذا الجزء الثّاني من المقال، محاولة عرض وشرحِ وصف الفيلسوف فريديرتش نيتشه لثنائيّة النظام الأخلاقيّ، ونشأتها عبر عصورِ التّاريخ وتطوّرات النّفسية الإنسانيّة. فحين جعل نظام أخلاق السّادة نظامًا سابقًا وأصل نشأة الأخلاق، وصفَ أخلاق العبيد بأنّها ردود أفعال انتهجتها الفئاتُ المستضعفة وسيلةً للثأر.
إنّ هذه النقطة مركزيّة في فهم نظام أخلاق العبيد، لأنّهم (أي العبيد) لم يعملوا على تطوير أحكامهم الأخلاقيّة إلّا بعد أن وقفُوا على النّتائج الوخيمة التي لحقت بهم حين شيّد الآخرون (السّادة والنّبلاء) نظامهم. وبالتّالي فقد نشأت علاقةٌ تقابليّة صارخة بين النظامين:
يمكنُ تلخيص ما يشرحه نيتشه هُنا في مخطّط توضيحيّ:
وأوضحُ ما يُمكن مُلاحظته في النّظامين، هو اشتراكهما في استعمال كلمة ” الخير، الخيّر ” وإنّما بدلالتين متقابلتين كلّيًا. فكلا الفريقين يصفُ أفرادهُ بـ “الخيريّة”، وفقًا لمعاييره التي شيّدها والتي تتوافق مع حالته واقتداره؛ ثمّ يطلقُ على الفريق الآخر وصفًا (يختلفُ في كلّ نظام) يعبّر عن كلّ النّقائص في هذه المعايير التي وضعها.
من أجلِ تقريبِ فكرته، يستعين نيتشه بأمثولة “الحمل والطّير الجارح”، يذكرها في هذا الاقتباس من كتابه جنيالوجيا الأخلاق(الفقرة 13):
إنّها أمثولةٌ تعيدنا مباشرةً إلى مفهوم الفضيلة والجودة عند الإغريق، فالطّير الجارحُ خُلق لينقضّ على الحملان ويلتهمها، وهو ليسَ حرّا ليختار أن يؤدّي وظيفته هذه أو لا يؤدّيها، بل هي جزءٌ من طبيعته؛ وبالتالي فهي من معايير “خيريّته”، وأيّ اتهام له على إظهاره للقوّة هو اتّهامٌ عبثيّ لطبيعته.
إنّها فقراتٌ نابضةٌ بالقوّة، تدمغُ كلّ أولئك الضّعفاء الذين يستسلمون لأقدارهم، أولئك العاجزين الذين يفتخرون بعجزهم ويبرّرون له، ويتّهمون الأقوياء الذي تجاوزوا قدراتهم بالشّر والمكر. وعلى هذا المفهوم الأساسيّ لثنائيّة الخير والشّر، يبلور فيلسوف القوّة نيتشه أفكاره حول إرادة القوّة، وتجاوز النّوع الإنسانيّ نحو إنسانٍ أعلى متفوّق.
المراجع:
في جنيالوجيا الأخلاق، فريديرتش نيتشه، ترجمة فتحي المسكيني، المركز الوطني للترجمة، تونس (2010).