الشعب أم الخبراء؟ كيف نتّخذ القرار الصحيح؟

“أيمكن الوثوق بالديمقراطية لاتخاذ القرارات الصحيحة؟”

يميل منتقدو الديمقراطية إلى القول بأنّه لا يمكن الوثوق بالأفكار الديمقراطية في هذا السبيل. ويشيرون إلى القرارات الصعبة التي تواجهها المجتمعات المحكومة ديمقراطيًّا اليوم، فيما يتعلق بتغيّر المناخ على سبيل المثال، أو زيادة حالات عدم المساواة في الدخل والثروة. يجادل هؤلاء النقّاد بأن الديمقراطية غير موجودةٍ في سياقات صنع القرار هذه؛ ولأن المواطنين الديمقراطيين يجهلون أكثر من اللازم ويميلون إلى التحيّزات والأخطاء المعرفية بحيث يتعذر عليهم اتخاذ القرارات الصحيحة، يجب على الخبراء اتخاذ مثل هذه القرارات.

حاول المدافعون عن الديمقراطية تفنيد هذا الاعتراض من خلال اتباع استراتيجيّتين جوهريّتين. الأولى هي استراتيجية أخلاقية؛ يقول تابعوها أنّ قيمة الديمقراطية تكمن في مكان آخر، ليس في قدرتها على اتخاذ القرارات الصحيحة، كما عُرفت بشكل مستقل عن عملية صنع القرار، بل في قدرتها على احترام حرية المواطنين على حدٍّ سواء من خلال اتخاذ القرار الديمقراطي. فاعتماد القرارات من قبل الخبراء فقط يقوّض هذه الحرية المتساوية من خلال منح بعض المواطنين -الخبراء- المزيد من النفوذ السياسي، وإخضاع الباقين لإرادتهم. وبما أن هناك، بالإضافة إلى ما ذُكر، شكوكٌا صحيحةً حول تأثّر هؤلاء الخبراء بجداول أعمالهم السياسية وانحيازهم نحو مصالح فئتهم الاجتماعية، فإن نتائج الفشل في اتخاذ القرارات الصائبة لا يجب مقارنتها بفوائد قدرة الخبراء على اتخاذ القرار الصحيح، ولكن مع نتائج الفشل في احترام حرية المواطنين المتساوية.

في حين أن ارتباط الديمقراطية بقيمة المساواة في الحرية أمر أساسي، فإن المشكلة في الاستراتيجية الأخلاقية للدفاع عن الديمقراطية هي أن نتائج تجاهل الخبرة يمكن أن تكون وخيمة للغاية، وقد تحوي تهديدًا للمَثل الأعلى للحرية المتساوية. مثلاً، إذا كانت القرارات تنتهك حقوق الأقليات.

وتهدف الاستراتيجية الثانية إلى إظهار الديمقراطية على أنّها يمكن الوثوق بها ﻻتخاذ القرارات السليمة، وأنه ينبغي الوثوق بها إلى هذا الحد. وكثيرا ما يُطلَق على هذه الاستراتيجية اسم “إستراتيجية المعرفة”. سُمِّيت تبعاً للإبستيمولوجيا-علم دراسة المعرفة-. وتُدعى كذلك لأنها تماثل عملية اتخاذ القرار من قبل الأشخاص ذوي المعرفة -الخبراء- واتخاذ القرار الديمقراطي. هنالك العديد من الطرق التي حاول بها الناس أن يُظهروا أن الديمقراطية ذات ثقة في اتخاذ القرارات السليمة، ولكن النّسخ المختلفة من هذه الاستراتيجية تتداخل بزعم أن اتخاذ القرار الديمقراطي قد يماثل، أو حتى يتفوق على، اتخاذ القرار من قبل الخبراء.

إن الدفاع المتواضع عن الديمقراطية في هذه السطور يدّعي فقط أنه يمكن الدفاع عنها إذا لم تؤدِّ إلى نتائج أسوأ من طرق اتخاذ القرار البديلة، على سبيل المثال، اتخاذ القرار من قبل الخبراء. وهذا أمر ممكن إذا أدت مكاسب اتخاذ القرار الشامل إلى تعويض تكاليف الاعتماد على الديمقراطية بدلاً من الاستعانة بالخبراء. يلجأ دفاعٌ أكثر طموحًا إلى “حِكمة الجماهير” والأفكار المتعلقة بها كي تُظهر أن أعدادًا كبيرًة من الناس الذين يجمّعون وجهات نظر مختلفة حول قضية ما غالباً ما يكونون أكثر ميولاً من مجموعات صغيرة من الخبراء للوصول إلى القرار الصحيح.

وقد تبدو “الاستراتيجية المعرفية” واعدة، لأنها تتعامل مع منتقدي الديمقراطية بشروطهم الخاصة. ولكن هذه الفضيلة من الممكن أن تتحول بسهولة إلى عيب. تنشأ المشكلة فيما يتعلق بالدور الذي يؤديه الطعن في القدرة على التوصل إلى القرار الصائب في هذه الحجة. وإذا كانت الحجة أن الديمقراطية يمكن الدفاع عنها بقدر ما كانت قادرة على توليدِ القرار الصحيح، أو على الأقل تقديمِ أداءٍ لا يقل عن أداء الخبراء في اتخاذ القرارات، فمن غير الواضح على الإطلاق ما إذا كان هذا يشكل حجة لصالح الديمقراطية. وإذا كانت الحجة تفترض أننا نستطيع أن نعرف -بشكل مستقل عن صنع القرار الديمقراطي- ما هو القرار الصحيح، فلماذا نعتمد على الديمقراطية في المقام الأول؟ لماذا لا ندعُ الأفراد العالمين يتخذون القرارات؟ ثم يبدو الأمر وكأن هذه الاستراتيجية إما أن تنتهي بجعل عملية صنع القرار الديمقراطي فائضة عن الحاجة، أو، إذا لم تفعل، ينتهي بها الحال إلى الدفاع عن الديمقراطية لأسباب أخرى، مثلًا، على أساس أنها تدرك القيم الأخلاقية المهمة، كما زعم أولئك الذين يتبنون الاستراتيجية الأخلاقية.

والحقيقة أن النسخة الأكثر طموحًا من الاستراتيجية المعرفية تظهر بشكل أفضل في هذا السياق؛ لأنها تحاول تقديم حجة غير أخلاقية فيما يتعلق بالأسباب التي تجعلنا نثق بالديمقراطية. ولكن المشكلة في هذه الحجج أنها كثيرًا ما تعتمد على افتراضات لا تتلاءم مع ظروف السياسة داخل المجتمعات الكبرى. والواقع أنه ليس من السهل أن نتوصل إلى أمثلةٍ، من السياسات الديمقراطية اليومية، كفيلةٍ بتوضيح هذه القوة الهزيلة المزعومة المتمثلة في صنع القرار الديمقراطي.

وإذا فشلت الاستراتيجيات الأخلاقية والمعرفية، فهل من استراتيجية ثالثة يمكن استخدامها للدفاع عن الديمقراطية؟ أعتقد ذلك. تتّبع الاستراتيجية الثالثة حجة من الخلاف. فتبدأ بالسؤال حول ما إذا كان من الواجب اتّخاذ القرارات السياسية بطريقة ديمقراطية أو من قبل أصحاب الخبرة. والإجابة هي: اعتمادًا على الموقف. فمن ناحية، عندما تُمتلك خبرةٌ في المشكلة القائمة وهناك سلطة سياسية يمكننا الوثوق بها للعمل على أساس تلك الخبرة، فيبدو أن القرار الديمقراطي لا لزوم له، أو على الأقل أنه مسهب لأسباب طائشة. وقد تظل هنالك أسباب أخلاقية أو عملية قوية للاعتماد على الديمقراطية حتى في تلك الظروف، على سبيل المثال، إذا ما أدى اتخاذ القرار الديمقراطي إلى زيادة الالتزام بقرار ما. ولكن كلما زادت المخاطر -كلما كان القرار أكثر أهمية وكلما زادت عاقبة الخطأ- كلما قل احتمال حصول هذه الأسباب على قدر كبير من الثقل، وكلما زاد احتمال أن تكون الديمقراطية خارج مكانها.

أما حين لا تتوفر أية خبرة، فإن الديمقراطية تبدو أكثر ميلًا لأن ندافع عنها. تحصل هذه الظروف عندما لا توجد حقيقةٌ في قرار ما، أي عندما تأتي عملية اتخاذ القرار لتحديد أي بديل يفضله أكثرُ الناس، كقضية مجموعة من الأصدقاء يودّون اختيار مكانٍ لتناول العشاء. ولكن القليل من القرارات الديمقراطية ستكون على هذا النحو. أغلب المشاكل التي تواجهها المجتمعات الديمقراطية ستكون إلى الحد الذي يجعل الناس يختلفون، ليس فقط لأنهم يحبون أشياء مختلفة، بل لأن وجهات نظرهم متنوعة بشأن الحقائق. بطبيعة الحال، تنشأ هذه الخلافات لأن بعض الناس يجهلون الحقائق من أجل تكوين رأي صائب حول ماهية القرار الصحيح. وفي هذه الحالة، نعود إلى السيناريو الذي تكون فيه الديمقراطية خارج مكانها. ولكن بالنسبة للعديد من التساؤلات المعقدة فيما يتعلق بالسياسات، فحتى الخبراء يختلفون حول القرار الصائب. فعندما لا يوجد أحدٌ بإمكاننا اللجوء إليه للنصيحة لأجل القرار الصحيح، عندئذ هنالك ذريعة قوية لصالح الديمقراطية.

المصدر: هنا

تدقيق لغوي: كرنيف ربيحة.

كاتب

الصورة الافتراضية
Mohammed Ramadan
المقالات: 0