قصة كفاحي مع سرطان الثدي.

شئت أم أبيت، هذه الحياة لن تهديك النجاح على طبق من ذهب، لن تتنصر إلا بعد أن تنهزم ولن تضحك حتى تبكي أولا. لن تدرك قيمة الصحة إلّا حين تمرض.

سيدة أعمال، مندوبة مبيعات ومصممة أزياء من الغرب الجزائري، مثقفة، ذكية، جميلة وقوية، لطالما كنت كذلك. اسمي إسمهان وعمري ٣٠ سنة. مريضة بسرطان الثدي منذ سنة وأسبوعين بالضبط، منذ أن تحسست صدري واكتشفت أني أحمل كتلة متحركة ما بين تحت الإبط والجزء الأيمن من صدري، فتعمدت ألّا أفحصها. كان قلبي ينبض بشدة وأنا مع صديقتي في بيت أهلي نرتب ما بقي لي من أغراض في غرفتي لأنقلها إلى بيتنا أنا وزوجي.. ربما.

صادف ذلك اليوم شهر أكتوبر، وبما أنني رائدة أعمال، فذاكرتي قوية ولا تخفى عني أية معلومة من أيِّ مجالٍ كان؛ سمعت عن مبادرة “أكتوبر الوردي” وعلمت أن هناك يوما تحسيسيّا عن ماهية سرطان الثدي وأهمية الكشف المبكر عنه. للحظة أحسست بمغص في بطني، أعادت لي فكرةُ الكشف تلك كلَّ مخاوفي وجسّدَتها أمامي شبحا أسودَ يأبى الحراك.. ماذا لو كان ما أفكر به صحيحا؟ كان يفصل بيني وبين الزواج ثلاثة أسابيع فقط، ماذا لو كنت مصابة هل أخبر زوجي؟ لمَ لا؟ سيساندني بالتأكيد ويخفف عني حِمل جلسات العلاج، ماذا لو تخلّى عنّي؟ فكثيرات هنَّ النساء اللائي وجدن أنفسهنّ يتممن جلسات العلاج رفقة ورقة الطلاق على الطاولة.. حسنا ماذا لو كانت كتلة دهنية فقط ولا تستدعي كل هذه التخوفات؟ كي أفصل في الأمر وأطرد الشبح الأسود المخيّم على عقلي وقلبي كان أمامي حلٌّ واحدٌ فقط؛ هو الذهاب إلى دكتورة النساء والكشف عن الكتلة. ليلتها نمت بصعوبة، كانت ليلة طويلة جدا..

أخذت موعدا مع الدكتورة في الصباح الباكر، قالت الممرضة أنه يمكنني المجيئ في أي وقت من اليوم، فبالإضافة إلى الكشف، تتكفّل العيادة في هذا الشهر بجميع الاختبارات الخاصة بالثدي مجانا. لم أفكّر مطوّلا، واتجهت نحو العيادة، كنت أريد أن أنهي هذا الأمر بسرعة كبيرة كي أركز على أمور أهمّ؛ فزفافي قريب ومازلت لم أُنْهِ التحضيرات..

نادتني الممرضة أخيرا ودخلت غرفة الكشف. كانت الطبيبة رقيقة وبشوشة يا لحسن حظي فالبدايات الجيدة مبشرة بالخير. سألتني أسئلة كثيرة مثل: متى انتبهتُ إلى وجود الكتلة؟ هل أحسست بألم؟ هل كشفت مسبقا؟ هل لدي أمراض هرمونية؟ هل يوجد من أفراد عائلتي مصابٌ بالسرطان؟ لا! كانت هذه إجابتي. طلبت الطبيبة أن أجلس وظهري مستقيم مع رفع يديَّ إلى الأعلى ففعلتُ، نظرت إليّ وقالت: سيدتي يمكنكِ نزع ملابسك العلوية لكي أتحسّس الكتلة جيدا لا أستطيع الكشف هكذا. ارتبكت لكن ليس باليد حيلة، هناك دائما أمور لا ندري عنها شيئا ونتركها بيدي أهل الاختصاص.

بدأت الطبيبة بحركات دائرية على صدري لتتأكّد أنه لا وجودَ لكتلات أخرى غير تلك الظاهرة. ثم طلبت مني كشف الماموغرافي بسرعة.

-ماذا هناك؟

-لا أستطيع إخبارك بشيء إلا بعد نتيجة التصوير الشعاعي للثدي.

أخذتني الممرضة إلى غرفة صغيرة بها جهاز الكشف ثم طلبت مني نزع أي شيء به حديد ومن ثمّ نزع ثيابي، كان موقفا محرجا جدا، فزياراتي للأطباء تعدّ على الأصابع وهذه أول مرة أقوم بفحصٍ مماثلٍ.

بعد لحظات أخذت نتيجة التصوير الشعاعي ودخلت إلى مكتب الطبيبة. كان تخوّفُها في محلّه. يبدو أنّه ورم خبيث، لكن علينا التأكد بإجراء خزعةٍ وفحصها أوّلا. ثمّ، بعدها بأيام قليلة، جاءت الخزعة لتؤكد الأمر، أنا مصابة بسرطان الثدي. لم أتحمل الخبر وأجهشت بالبكاء، بكيت كلَّ شيء؛ بكيت نفسي وخوفي ومشاكلي، كان الخبر بالنسبة لي صادما جدا والأصعب من ذلك أنّه جاء في وقت غير مناسب جدا!!

لم تقل الطبيبة شيئا بل تركتني أبكي فلربّما أجد البكاء مواسيا..

بعد مدة، نظرت إليّ نظرة حزن وقالت: الوقت سلاح ذو حدين. علينا أن نباشر العلاج في أقرب وقت؛ علينا استئصال الورم بالجراحة ثم نواصل بإجراء عدد من جلسات العلاج بالكيماوي. أومأت رأسي بالإيجاب، ما باليد حيلة.

رجعت إلى البيت وأخبرت عائلتي بكل شيء دفعة واحدة ثم صعدت إلى غرفتي تاركة الحشد ورائي في ذهول تام. لم أستطع رؤية نظرات الشفقة ولا سماع الجمل التحفيزية. فليحدث ما يحدث كلُّ شيءٍ مقدّر ومكتوب.

بعد أيام اتصلت بي الطبيبة وطلبت مني الذهاب إليها، حين وصلت وجدت طبيبا مختصا في الأورام ، بدأ يشرح لي من جديد، وأضاف: سيدتي، أنا آسف لقول هذا، لكن، هناك احتمال كبير لوجوب استئصال الثدي الأيمن بالكامل، فهذا أأمن لك ولصحّتك. قبلت… بكل بساطة.

بالفعل، أجريت عملية استئصال الورم والثدي معا. بعدها بأيام طلبت مني الطبيبة قص شعري لأن الكيماوي من شأنه أن يُسقطه كلَّه، فعلت ذلك كي تخفّف وقع الصدمة عليّ. بدأت بالكيماوي، ومع أول جرعة رأيت شعري وقد بدأ في التساقط، بكيت كثيرا حينها، بكيت ألمَ الدواء، بكيت شكلي وشحوبَ بشرتي، بكيت شعري وحالي… بكيت.

كنت قد أخبرت زوجي المستقبلي عن وضعي وأنني سأخضع للعملية، كانت ردة فعله إيجابية فقد احتضنني وقال أنّ كل شيء سيكون على ما يرام، في الأخير نحن نحب بعضنا البعض ولن يوقفنا شيء. فموعد زواجنا كان بعد يومين من رابع جرعة كيماوي، قررنا أن لا نقوم بعرس كبير وأن نكتفي بحفلة عائلية صغيرة.

اليوم هو يوم زفافي، حضّرت نفسي مثل كل النساء المقبلات على الزواج؛ زينة، حلي، باروكة شعر وفستان زفاف أبيض طويل. كان الحفل بسيطا وكنت سعيدة جدا، لأنه مهما حصل لي استطعت أن أجد شيئا جميلا أعيش عليه. قضيت يوما واحدا مع زوجي، في الصباح لم أجده.. لم يعد إلى الآن.. زوجي هجرني لأنه اكتشف أنه لا يستطيع أن يتحمل العيش مع امرأة بجسد ناقص. بعد أيّام استلمت ورقة طلاقي، أنا الآن مطلقة.

كفاحي مع الحياة لم ينتهِ بل بدأ للتو. أذكر يومها أمي بجانبي تواسيني، لكني لم أكن مركزة مع ما قالته، أحسست بغضب شديد ثم بألم شديد ثم بالعجز. رأيت نفسي في تدهور كامل ولم أستطع التحمل. كانت جرعات الكيماوي صعبة جدا؛ استفراغ دائم، فقدان للشهية، اكتئاب شديد.. كنت أحس أن طاقتي بدأت تُستنزف شيئا فشيئا، حتى سمعت أمي تقول : «لا يكلّف الله نفسا إلّا وُسعها» نظرت إليها وضممتها إلى صدري قائلة: أمي لن أقع أبدا من جديد. سأحارب السرطان إلى آخر ثانية من عمري، بالله سأقوى وسأتحدى الظروفَ وكلامَ الناس وحتى تجربتي الفاشلة مع الزواج فهي ليست سوى عقبة وسأتغلب عليها. أمي لا تبكي أنا قوية.

بعد شهور من أخذي لذلك القرار، غيرت طريقة تفكيري وعيشي؛ اتبعت حمية غذائية صحيّة وبدأت بممارسة الرياضة، تخلصت من كل الأفكار السلبية واستبدلتها بأخرى إيجابية، قرأت كتبا أكثر، صليت كثيرا وتقربت من ربي أكثر. وبعد آخر جلسة للعلاج بالكيماوي، قمت بفحص آخر شامل لكي يتأكد الأطباء أنه ما عاد هناك شيء لأخاف منه. الحمد لله، كان الشّفاءُ تامًّا. كانت تلك اللحظات مؤثرة جدا، حين التف حولي الطاقم الطبي والممرضون وقالوا لي أنني لن أعود مجددا وأني استطعت أن أتغلب عليه. كنا نبكي جميعا لكن هذه المرة بكينا فرحا بالانتصار. أحسست بالفخر، كنت فخورة بنفسي جدا.

لم تتوقف حياتي عند هذا الحد، سافرت إلى أمريكا وانضممت إلى فريق الغواصين، كنت المرأة الجزائرية الوحيدة بينهم ثم أنهيت مشروع تصميم الأزياء. ما زلت أمارس الرياضة واليوغا وتمارين التنفس ولم أتوقف قط عن تغيير حياتي للأفضل. أقوم بفحوصات دوريّة لكنّها ما عادت تخيفني، فالأسوأ قد مررت به بالفعل.

تزوجت مجددا ثم تطلقت مرة أخرى، لكن هذا لم يؤثّر بي، ما دمت مستمتعةً بحياتي ناجحة فيها. لكن إن سنحت لي الفرصة للزواج مرة أخرى فلن أرفض لأنني تعلمت ألّا أقول لا للحياة. كلنا نستحق أن نعيش وأن تلوّن السعادة حياتَنا..

صديقتي، سيدتي، لا تفقدي الأمل أبدا. الله معكِ وأنتِ نفسك معك، فكوني قوية لأجلك.

تدقيق لغوي: كرنيف ربيحة.

كاتب

الصورة الافتراضية
BELABBAS Amina
المقالات: 0