“ثلاثة رجال بِرِدَاءِ مدينتنا يغادرون الصحراء.
واحد بعائلة،
واحد بقلب مدينتنا،
وثالثهم كان خائنا..
يذهبون في رحلة للمعرفة ثم يعودون إلينا.
كتلك الطيور أرسلناهم، وكغير الطيور أضاعوا الطريق إلينا.
لكننا أرسلنا عروسنا مع العائلة، وعروسُنا حتمًا تعودُ إلينا”
كان كل من في الساحة يردد هذه القصيدة بالكشهارية. وكان قلبي يتمزق مع كل كلمة، وتتناثر أشلاؤُه كحبَّات الرمال بعيدا عني.
_ “شيفاثاي دم صون!” (تمالكي نفسك) همست العجوز التي تقف بجانبي بصرامة. لأنها لاحظت ارتجاف قدميَّ.
تكتكات الخلخال الصغيرة كانت تفضحني. لم يكن مسموحا لي أن أمتلك أية مشاعر، لذا، أخذت نفسًا عميقا وحاولت أن أُظهِر بعضا من الصلابة فداءً لكل من تعلقت أرواحهم بي. نظرت حولي إلى الناس في الساحة، الكل كان يرتدي تلك الفساتين الزرقاء طويلة الأكمام جدا، ممتدة الذيل وكبيرةَ غطاءِ الرأس. الكلُّ عدايَ أنا، وكل وجوههم مغطاة عداي أنا. ثم رفعت عينَيَّ لأرى بريق الشعلات الزرقاء التي أضاءت كل ما حولي، بعد أن انتهى الحشد من ترديد القصيدة أخيرًا، تقدم “شيجاي” (الحكيم) بوقار ناحيتي ثم سلمني قلادة العريس و قال:
_“كيناي دم فوث” ( اختاري عريسك).
حالما انتهى من قول تلك الكلمات، شعرت بالذعر يتسلل إلى كل ذرة من كياني، لكنني كنت مجبرة على تنفيذ ذلك الطقس على أية حال. مددت يديَّ لأتناول القلادة الفضية من الصينية التي كان يحملها. ثم بدأت بالنزول من المنصة التي كنا نقف عليها حتى أتوجه إلى قلب الجمهور. الجزء الأوسط من الساحة كانت يمتلئ برجال يقفون بانتظام في صفوف، و كانوا جميعا يغطون وجوههم .. لذا لم يكن بإمكاني رؤية أحد. و رغم ذلك، كنت مرغمة على اختيار أحدهم عشوائيا ليكون عريسي المستقبلي! كنت حقا أحارب رغبتي في الهرب راكضة بعيدا عن تلك السخافة، لولا كل الأرواح التي كنت أحاول حمايتها. مشيت بخطوات بطيئة، كانت أجراس الخلخال على قدمي الحافيتين تصدر ضجيجا متناغما. خطوة .. خطوة. كانت تقطع الصمت القاتل حولي، بينما ينزلق حرير فستاني الأبيض بنعومة على الأرضية خلفي.. أحاول ألا أنظر إلى سكان المدينة الذين يحنون رؤوسهم و يغطونها احتراما لي، و لو أنني لم أكن جديرة بكل ذلك. تتدلى السدائل الذهبية من كُمَّيْ فستاني القصيرين فتتراقص مع خطواتي الثابتة، وتداعب بشرة يدي الشاحبة، كنت الوحيدة التي ترتدي لونا مختلفا، والوحيدة التي تزينت بالحلي الذهبية لذا، لمعتُ كالنجمة تحت اللهب الأزرق ووسط بساط أزرق. حينها فقط فهمت لما كان “هيفاي” (الشاب) يقول دوما:
_“سأموت على أية حال، لكن لا أريد الموت قبل أن أرى احتفال الاختيار، أريد أن أرى كم هي جميلة “فيسا” (نجمة) التي كنت أنتظر قدومها منذ طفولتي”
لأنها أول مرة سيرى فيها جمال اللون الأبيض في قلب المدينة تحت الضوء الأزرق. كنت أمشي ببطء، لأن ما أردته حقا كان أن تمتد مشيتي تلك إلى نهاية الزمان، أو ـبعد من ذلك.. أن تمتد إلى وقت ينقرض فيه كل ما حولي وتفتح صفحات جديدة، لكن بعض الأمنيات غيرُ مخطط لها أن تتحقق، وبعض الأقدار، كقدري البائس، لن يمنع حدوثَها حتى الموت نفسه. لذا، مشيت إلى قلب الصفوف حتى أختار أحد الشباب على أية حال. مشيت داخل الصف الأول، وصلت إلى نهايته. ولم يكن “هيفاي” هناك، عدت أدراجي ثم مشيت الصف الثاني، ثم الثالث، فكرت للحظات أن أمشي لساعات حتى أربح مزيدا من الوقت. لكن، لم أستطع إلا أن أتوقف عن المشي فجأة، حين انتبهت إلى الحركة التي كان يقوم بها أحد الشباب في الصف الخامس، لم يكن هناك من سيفكر بالقيام بذلك غيره هو! اقتربت منه ببطء، ثم وقفت مقابله تماما، لكن حالما توقفت أجراس خلخالي عن الرنين، حبس كل من في الساحة أنفاسهم. وانتظروا أن أقوم بإعلاني أخيرا.. لأن كل الوجوه المعمية تحت القبعات توقعت أنه وقع اختياري على أحدهم أخيرا.
لكن في المقابل أنا..
استمررت فقط بالتحديق إلى ذلك الشاب، أحاول أن أتذكر إذا ما كان هو بنفس الطول ونفس بنية الجسد، بينما يرتجف قلبي من الخوف، تمنيت لو كنت أكثر دقة في النظر إلى ما حولي حين لم تكن حياتي بمثل تلك القسوة والصرامة. ربما كنت لأتذكر تفاصيله بشكل أدق عندها، ولم يكن ليكون عثوري عليه بتلك الاستحالة. أخذت نفسا عميقا، ثم قررت أن أرفع غطاء الرأس عن ذلك الشاب مهما كانت نتيجة فعلي ذاك، بينما أرفعه باضطراب، كنت أدعو أن يكون هو حقا. ليس لأنني أريده أن يكون عريسي، ولا لأننا سنحظى بنهاية سعيدة، وإنما، فقط، أردته أن ينظر إلي.. ويرى كم كنت أنا ، كـ“فيسا”.. كم كنت جميلة.
لكن قبل أن أكشف وجهه، ألقيت نظرة أخيرة على السوار على معصمي .. و الذي كان بداية كل شيء.
***
قبل سنتين تماما، كنت أنظر إلى نفس السوار، بينما أقف عند مدخل الجامعة بملابسي العادية. في عام 2017 كانت حياتي بعيدة تماما عن الفوضى وعن كل تلك المعاناة والخوف، لأنني لم أكن أدرك مقدار السواد الذي يحمله سوارٌ ذهبيٌّ لامعٌ وقتها، لم أكن أعرف شيئا حقا، وكل ما كان يشغل بالي هو حجمه الضخم، وغرابة شكله التي تجعل الكل يلاحظه، ثم تجعلهم يسخرون منه.
يومها، كنت في انتظار وصول ندى، صديقتي، لنحضر معا هذه المحاضرة التي كانت حسب قولها “ملحمية! لا يجدر بنا تضييعها!!”، إصرارها الذي لم يتوقف لأيام كان السبب الوحيد الذي أجبرني على الذهاب إلى الجامعة رغم أنه لم يكن لدينا درس رسمي. وقفت عند البوابة لانتظارها كما اتفقنا، فقط أراقب جيش الفتيات اللاتي يتوجهن إلى قاعة المدرج الكبرى في الجامعة وأتساءل إن كانت ستتبقى لنا أماكن فيه في الوقت الذي تصل فيه ندى. و بينما أقف هناك محاولة إخفاء تلك الحلقة الذهبية الضخمة على معصمي بين طيات ملابسي خجلة، سمعت رنة هاتفي المغمغمة داخل جيبي. فسحبته من هناك على عجالة وكلي أمل أن يكون الاتصال قادما من ندى تخبرني فيه أن “أعود إلى نومي على السرير طوال النهار و العيش كالنبتة لأنها لن تستطيع القدوم إلى المحاضرة”. ولأنني أعرفها منذ الطفولة، كنت أعلم أنها ستستعمل هذه الكلمات بالذات بدل أن تعتذر فحسب. لكن ما إن رفعت هاتفي ورأيت الاسم الذي كان يضيء على الشاشة حتى أدركت أن فرصي في الهرب لا تزال منعدمة.
_“نذير” همست، حالما أجبت على المكالمة. لكن بالكاد أنهيت نطق اسمه حين صرخ هو على الطرف الآخر وسط ضحكاته المتتالية:
_” لن تصدقي ماذا وجدت! كنت أدور بين المحلات حين رأيت سوارا فضيا يشبه سوارك تماما! فايز و أنا نضحك منذ ساعة الآن و صاحب محل المجوهرات يظن أننا مجانين! تحققي من رسائل المسنجر لقد أرسلت لك صورة له!”
وما إن أنهى قول تلك الكلمات حتى قطع الاتصال دون أن ينتظر مني أي رد، وهكذا هو نذير دائما، مندفع كالتيار.. ويجذبك إليه كالتيار أيضا. تنهدت باستسلام، ثم فتحت الرسائل مثلما طلب. “يشبهه تماما أليس كذلك؟” كتب نذير. وأرفق جملته هذه بصورة له، نظرت إلى تلك صورة التي أرسلها بالكاد أكتم ضحكتي، لم يكن السوار الفضي الذي يشبه سواري تماما هو ما رسم الابتسامة على شفتي. و إنما وجه نذير الذي كان ينظر إلى عدسة الكاميرا بجدية تامة، يرفع أحد حواجبه، و يضع يده على ذقنه لأرى السوار عليها بشكل أوضح، كان يبتسم، ورغم أنه ليس من النادر أن أراه بتلك السعادة إلا أنني لا زلت أتفاجأ كل مرة وأسعد لذلك. أخذت نفسا عميقا، ثم أجبت على رسالته أخيرا.
_“الرموز مختلفة” كان ذلك هو الفرق الوحيد بين السوارين، شكل الرموز التي كانت مكتوبة في المنتصف تماما من الأعلى إلى الأسفل.
_“إييه! يا لك من قاتلة للمتعة! لم تضحكي حتى”
نظرت إلى رسالته الأخيرة هذه، ولم أجب، بعد ثوان أضاف:
_“هل أشتريه ليتماشى مع سوارك و نبدو كزوجين؟”
كنت أعلم أن الشاب الذي أرسل هذه الكلمات الجادة كان ينظر إلى شاشة هاتفه و يضحك ببلاهة فحسب، لأنه ابن عمي الذي كان يسكن معنا منذ أن كنت أخطئ نطق الحروف وكان هو يتفنن في إغاضتي بشأن ذلك. ولأنه لا يزال يجد طرقا لإغاضتي حتى في شبابنا، علمت أنه كان يمزح فحسب، نظرت إلى صورته في هاتفي مجددا، إلى تلك اللمعة في عيونه الزرقاء الواسعة، واحمرار وجنتيه الذي يشير إلى أنه على وشك الانخراط في نوبة ضحك أخرى حالما ينتهي من التقاط الصورة، ثم تساءلت: “كيف تخبرين ابن عمك الذي يعاملك كأخت له أن بعض المزحات كهذه مؤلمة جدا؟” والإجابة: أنني لن أفعل، لن أفعل ذلك أبدا. لذا قلت بدل ذلك:
_“ستجبرك جدتي على وضعه لما تبقى من أيامك، هل أنت مستعد لذلك؟”
والسبب في أنني قلت تلك الكلمات كان أنني “أنا” مجبرة على وضع سواري الذهبي دائما على معصمي حتى أصل إلى سن السادسة والعشرين، تلك العادة كانت متوارثة داخل عائلتي لأجيال لا أدري حتى عددها. كنت دائما أخاف وجوده على معصمي، لأن فكرة أن شخصا قبل ألف عام أو أكثر كان يرتدي نفس الشيء كانت مرعبة! لكن طبعا لطالما أجبرتني جدتي على وضعه على أية حال، كانت دائما تحذرني:
_“هذا رمز للابنة الكبرى في هذا الجيل من عائلة “إيهاني” العريقة .. إياك أن تنزعيه من يدك لثانية واحدة أو أن تضيعيه!!”
و لأنني لطالما كنت حفيدة مطيعة، لم أحاول يوما الشذوذ عن ذلك التقليد الذي كرهته حقا.
لكن بعد أن أرسلت رسالتي تلك، لم يصلني رد، فأعدت هاتفي إلى ظلمات جيبي فحسب. لا بد أنه كان للقدر يد في تلك اللحظة.. لأنني ما إن رفعت نظري عن جيب معطفي الأسود حتى رأيت “ندى” تقترب من مدخل الجامعة أخيرا بحجابها المتواضع وابتسامة محرجة تزين ملامحها البسيطة الجميلة.
_“آسفة ‘كينادا’ جعلتك تنتظرين، كانت الحافلة تسير أبطأ من سلحفاة، لو ذهبت مشيا إلى أوداهي لكنت وصلت إليها قبل أن تصل تلك الحافلة إلى الجامعة!” تذمرت ندى حالما وصلت إلي.
هززت رأسي بتفهم، ثم قلت:
_” لا بأس، فلنذهب فحسب لنحجز أماكن جيدة في المدرج”
بدأت بسحبها نحو القاعة المخصصة للمحاضرة محاولة أن أطبع ابتسامة على وجهي، رغم أنني كنت أحتاج فترة أطول لأتقبل “طلب الزواج المؤلم ذاك”. ثم أن “ندى” كانت تسكن في الجهة الشرقية من المدينة، وتلك كانت أبعد جزء من مدينتنا عن الجامعة، كانت بالفعل تبدو مرهقة من المواصلات، لذا لم أرد أن يخف حماسها لتلك المحاضرة التي كانت تنتظرها منذ مدة.
أتمنى اليوم لو تعود لحياتي مثل تلك الفرص الصغيرة لإدخال قليل من السعادة إلى قلب من حولي، أتمنى لو أحضر مثل تلك المحاضرة مجددا، لكن وقتها، لم أكن ادرك قيمة الوقت الذي امتلكته. أذكر أننا جلسنا في الصفوف الوسطى،
كانت الملصقات التي تخص صحراء “أوداهي” معلقة على جدران القاعة الضخمة والتي عادة ما تكون عارية من أية بهرجة، لكن لا بد طبعا من كل المبالغة حين يتعلق الأمر بتلك الصحراء الغريبة.
أما عن “أوداهي” هذه، فهي عبارة عن حلقة كبيرة جدا من صخور ضخمة موضوعة على مسافات متباعدة بتساوٍ، لترسم دائرة مثالية تحيط صحراء لم يكن بإمكان أي شخص كان أن يدخل إلى قلبها لأسباب كثيرة، وتلك الصحراء مستحيلةُ الدخول في جنوب الجزائر هي صحراء “أوداهي” المشهورة. المميز بشأنها، ما عدا استحالة الدخول إليها، هو الرموز العجيبة المنقوشة على كل صخرة من الحلقة، أشكال وخطوط حاول العلماء والمؤرخون تفسيرها منذ آلاف السنوات ظنا منهم أنها تحمل مفتاح الدخول إلى تلك الصحراء، أما عامة الناس، فينقشون تلك الرموز أينما كان فقط ليتفاخروا باهتمامهم بها.
_” ندى .. ألم ندرس كفاية عن أوداهي منذ المدرسة الابتدائية حتى الآن؟” سألت باستياء أحاول إخفاءه.
نظرت إلي ندى بملامح فتاة في الثامنة من العمر و أجابت بحماس:
_” لا، المحاضرة حقا مختلفة هذه المرة .. سيشرح الأستاذ عجائب هذه الصحراء بطريقة علمية بعيدا عن كل الخرافات! ثم إنني سمعت أن هذا الأستاذ استطاع الوصول إلى عدة رموز جديدة بفضل مصادره الموثوقة، سيكون الأمر مذهلا!”
نظرت حولي إلى المدرج الذي كان يمتلئ بالفعل بطلبة من كل الدفعات، كان هناك أشخاص يبحثون عن كراسي لوضعها في مقدمة المدرج الضخم لأن كل المقاعد قد امتلأت عن آخرها رغم أن الوقت كان لا يزال مبكرا جدا على بداية المحاضرة. بدا أن “ندى” لم تكن الوحيدة المفتونة بأسطورة تلك الصحراء، عدد المهتمين بتفاصيلها قطعا فاق كل تصوراتي، بدليل أن محاضرة خارج المنهاج قد لاقت من الحضور ما لم يلاقه أي درس قدم في الجامعة طوال سنوات دراستي بها.
كان الجميع متحمسا للمحاضرة، حتى أن بعض الفتيات كن يرتدين تلك الفساتين الزرقاء بأكمامها الطويلة التي تكاد تزحف على الأرضية و العبقات الكبيرة، الفساتين التي تقول الشائعات أن سكان أوداهي القدماء كانوا يرتدونها، أما أنا، فلم أكن حتى بربع حماس من كان حولي. شعرت بالملل الشديد بعد مدة من الانتظار، لذا قررت أن أخرج لتنفس القليل من الهواء المنعش قبل بداية المحاضرة. اعتذرت من “ندى”، ثم شققت طريقي بصعوبة بين أكوام الطلبة، نعم، كانوا أكواما حرفيا. لكن ما إن وصلت إلى مدخل القاعة حتى وجدت شابا في أواخر عشريناته أو أوائل ثلاثيناته على الأرجح يحمل حقيبة حاسوب شخصي و كيسا ضخما في يده الأخرى، حالما ألقيت نظرة على وجهه، أدركت أنه الأستاذ المحاضر لأنني رأيت صورته على الملصقات.
و تلك.. كانت أول مرة رأيت “هيفاي” فيها.