ترجمة لأسئلة مختارة من حوار لنعوم تشومسكي مع جورج يانسي، نشر على موقع تروث آوت بتاريخ: 05 جوان 2020. يتحدث نعوم عن رؤيته لاحتجاجات حركة “حياة السود تهم” وما يجب فعله للنجاة من جائحة مستقبلية ومخاطر وجودية أخرى.
جورج يانسي: قبل أن أسألك عن كوفيد-19، أود معرفة أفكارك حول جريمة القتل الشنيعة لجورج فلويد، وكيف تفهم المظاهرات التي حدثت في جميع أنحاء الولايات المتحدة والعالم. أنا مهتم بشكل خاص بردك على خطاب ترامب عن نشر الجيش لقمع “التمرد” المزعوم.
نعوم تشومسكي: “جريمة قتل شنيعة” وصف صحيح. لكن لنكن واضحين بشأن جرائم قتل الأمريكيين السود التي تحدث الآن. تمثل وحشية عدد قليل من رجال الشرطة العنصريين في مينيابوليس جزءا صغيرا من الجريمة.
لقد سُجّل على نطاق واسع أن معدلات الوفيات من الوباء أعلى بكثير لدى السود. وَجدت دراسة حالية أن “الأمريكيين الذين يعيشون في مقاطعات ذات تعداد سكاني أسود فوق معدل المتوسط هم أكثر عرضة للوفاة من فيروس كورونا بثلاثة أضعاف مقارنة بالمقاطعات ذات التعداد فوق المتوسط للبيض. إن ذبح السود هذا هو جزئيا نتيجة لكيفية تخصيص موارد التعامل مع الأزمة، فمعظمها “في المناطق التي تَصادف أنّها كانت أكثر بياضًا وأكثر ثراءً”. لكنه متجذر بشكل أعمق في سجل بشع عمره 400 سنة من العنصرية الخبيثة. اتخذ هذا الطاعون أشكالا مختلفة منذ إنشاء نظام العبودية الأكثر شرا في تاريخ البشرية – أساسٌ رئيس للبلاد في الصناعة والتمويل والتجارة والازدهار العام- لكن لم يتم إلا تخفيفه بمسكنات على الأكثر، لم يتم تقريبه من علاجٍ أبدا.
كانت العبودية الأمريكية فريدة من نوعها ليس فقط من حيث شرِّها، ولكن أيضا من حيثية ارتباطها بلون البشرة. ضمن هذا النظام، تم تمييز كل وجه أسود بشعار، “طبيعتك أن تكون عبداً”.
عوملت فئات أخرى بقسوة. كان اليهود والإيطاليون يُخشَون للغاية واحتُقِروا قبل قرن من الزمان لدرجة أن قانون الهجرة العنصري لعام 1924 صمم لحظرهم من البلاد، مرسلا العديد من اليهود إلى محرقة الجثث. دعما للقانون، يمكن أن يدافع العنصريون من ذلك الزمان عن وجوب حماية أنفسهم من اليهود والإيطاليين الذين يديرون النقابات الإجرامية الرئيسية، من أمثال ماير لانسكي وآل كابوني وبوغسي سيغل. ولكن تم استيعابهم في نهاية الأمر. حدث ذات الشيء مع الإيرلنديين.
لكن الأمر يختلف مع السود، يتم اعتبارهم غير قابلين للاستيعاب بشكل دائم ضمن مجتمع ملعون بالعنصرية وسيادة البيض. بالنسبة للضحايا، تتفاقم الآثار بسبب الفجوات الاجتماعية والاقتصادية الدائمة التي ولّدتها اللعنة، والتي كثفتها الهجمات النيوليبرالية على مدى الأربعين سنة الماضية، نعمة عظيمة لشديدي الثروة، كارثة على الضعفاء غير المحصنين.
ذبحُ الأمريكيين السود يستمر تحت غياب الأنظار. الرئيس، الذي لا يَعرف خُبثه حدودا، يستغِّل التركيز على الوباء لمواصلة خدمته لجمهوره الانتخابي الرئيسيّ: الثروة العظيمة، والشركات القوية. إحدى الطرق هي إلغاء اللوائح التي تحمي الجمهور لكنها تضر بالأرباح. في خضم جائحة تنفسيّة لم يسبق لها مثيل، تحرك ترامب ليزيد من تلوث الهواء حسبما أوردت الصحافة التجارية، الأمر الذي يجعل من كوفيد-19 أكثر فتكًا، لدرجة أن عشرات الآلاف من الأمريكيين قد يموتون نتيجة لذلك. وكالعادة، لا تتوزع الوفيات بشكل عشوائي: “الأكثر تضررا هي الجماعات ذات الدخل المنخفض وغير البيض”، الذين يضطرون للعيش في المناطق الأكثر خطورة.
من السهل جداً أن أستمر. المتظاهرون يعرفون كل هذا جيداً. هم ليسوا بحاجة إلى دراسات. بالنسبة للكثيرين هي تجربتهم المعيشية. لا تدعو الاحتجاجات إلى إنهاء وحشية الشرطة في مجتمعات السود فقط، ولكن إلى إعادة هيكلة أكثر جوهرية للمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية.
وهم يتلقون دعما ملحوظا، كما نراه ليس من الأفعال في جميع أنحاء البلاد فقط ولكن أيضا من الاستطلاعات. أظهر استطلاع رأي أجري في أوائل شهر جوان (يونيو) أن 64 بالمائة من البالغين الأمريكيين “متعاطفون مع الأشخاص الذين يحتجون في الوقت الحالي”، بينما قال 27 بالمائة أنهم ليسوا كذلك و9 بالمائة غير متأكدين”.
قد نقارن رد الفعل هذا بحدث آخر عندما وقعت احتجاجات مماثلة: 1992، بعد تبرئة ضباط شرطة لوس أنجلوس الذين ضربوا رودني كينج حتى الموت تقريبا. تبع ذلك أسبوع من أعمال الشغب، مع مقتل أكثر من 60 شخصًا، قمعهم في النهاية الحرس الوطني بدعم من القوات الفيدرالية التي أرسلها الرئيس بوش. اقتصرت الاحتجاجات على لوس أنجلوس في مجملها، لا شيء مما نراه اليوم.
لدى ترامب مصدر قلق أساسي، وهو رفاهيته الخاصة: كيف يمكنني استخدام هذه المأساة لتعزيز آفاقي الانتخابية عن طريق إثارة أكثر العناصر عنصرية وعنفا في قاعدتي الانتخابية؟ غرائزه الطبيعية تدعو إلى العنف: “الكلاب الأكثر وحشية والأسلحة الأكثر شؤما التي رأيتها على الإطلاق.” وأرسل الجيش لتعليم “الحثالة” درسا لن ينسوه أبدا.
أثارت خطة ترامب “للسيطرة” على السكان المضطربين عن طريق العنف غضبًا واسع النطاق، بما في ذلك الإدانة المريرة من قبل الرؤساء السابقين لهيئة الأركان المشتركة إلى جانب عبارات التعاطف مع المتظاهرين. كتب رئيس الأركان المشتركة السابق الأدميرال مايك مولن: “كرجل أبيض، لا يمكنني أن أدعي الفهم التام للخوف والغضب اللذين يشعر بهما الأمريكيون الأفارقة اليوم… ولكن بصفتي شخصا عاش لفترة لا بأس بها، أعرف ما يكفي -ولقد رأيت ما يكفي- لفهم أن هذه المشاعر حقيقية وأن جميعها تَأسَّس بشكل مؤلم للغاية”.
قد تكون التغييرات في العقدين الماضيين علامة على أن أجزاء كبيرة من السكان يُقدمون إلى التعرف على الحقائق المكتومة منذ فترة طويلة بخصوص مجتمعنا، شعاع ضوءٍ في أوقات مظلمة.
بغض النظر عن عدم كفاءة ترامب، ما الذي يجب القيام به على الصعيد العالمي حتى نتمكن من منع حدوث جائحة أخرى وما الذي يتوجب علينا فعله للاستعداد بشكل أفضل مستقبلا؟
لا أشعر أن “عدم الكفاءة” هي الكلمة الصحيحة تمامًا. إنه كفؤ بشكل تام في تحقيق أهدافه الأساسية: إثراء فاحشي الغنى، وتعزيز قوة الشركات والأرباح، إبقاء معسكره على الخط بينما يطعنهم في الظهر، وتركيز السلطة في يديه عن طريق تفكيك الفرع التنفيذي، وبهذا ترهيب الجمهوريين في الكونجرس الذي يقبلون بحرج أي شيء تقريبا. لم أسمع زقزقة منهم عندما طرد ترامب العالِم المسؤول عن تطوير اللقاح بسبب جرأته على الاستفهام عن أحد علاجات الدجال التي يروج لها. هناك صمت تام من قبل هذه الرتب بينما يقوم بتطهير المفتشين العامين، الذين فرضوا بعض الضوابط على المستنقع الذي أنشأه في واشنطن، كما أهانوا أحد أكثر أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين احتراما، تشاك غراسلي ذو الـ 86 عاما، الذي كرس مساره المهني الطويل في إنشاء هذا النظام.
إنه إنجاز مثير للإعجاب.
ما يجب القيام به على الصعيد العالمي هو اتباع النصائح التي يقدمها العلماء. من المحتمل وقوع جائحة جديدة، ربما أسوأ من هذا الوباء بسبب الاحترار العالمي، والذي قد يصبح تحميصا مناخيا مع أربع سنوات أخرى من طاعون ترامب. يجب اتخاذ خطوات للتحضير لها، خطوات من النوع الذي أوصي به في عام 2003 وتمت متابعته إلى حد ما قبل أن يقوم ترامب بتحطيمه. يجب أن يكون هناك تعاون دولي في البحث عن الفيروسات التاجية والمخاطر المحتملة الأخرى، وتطوير الفهم العلمي اللازم للتطوير السريع للقاحات والأدوية للتخفيف من الأعراض، وتنفيذ خطط الطوارئ التي يجب وضعها في حالة حدوث جائحة مرة أخرى.
بالنسبة للولايات المتحدة على وجه الخصوص، هذا يعني تخليص المجتمع من العقيدة النيوليبرالية، والتي كان لها عواقب مريرة في مجال الصحة (وغيرها الكثير). نموذج أعمال المستشفيات، مع عدم وجود احتياط أو سعة إضافية، هو دعوة لكارثة. وبشكل أعم، فإن نظام الرعاية الصحية المخصخص غير الفعال للغاية يمثل عبئا مروعا على المجتمع، بضعف تكاليف البلدان المتقدمة الأخرى وببعض النتائج الأكثر زهدا. تُقدِّر دراسة حديثة أجرتها لانسيت -Lancet تكلفتها السنوية بنحو 500 مليار دولار و68 ألف حالة وفاة إضافية. إنه لأمر شائن أن الولايات المتحدة لا يمكن أن ترتقي إلى مستوى المجتمعات الأخرى وبدلا من ذلك تعتمد على النظام الأكثر قسوة وتكلفة للرعاية الصحية الشاملة: غُرف الطوارئ. إذا كان بإمكانك جر نفسك إلى واحدة، يمكنك الحصول على الرعاية – تتبعها ربما فاتورة صحية.
نفس العقيدة النيوليبرالية تمنع المعاهد الوطنية للصحة من المضي قدما من البحث والتطوير الأساسيين للأدوية إلى الاختبار والتوزيع، وتَجاوُز الشركات الخاصة وتنفيذ أحكام القانون الأمريكي، التي يتم تجاهلها باستمرار، والتي تتطلب أن تتاح الأدوية المنتجة بمساعدة حكومية (تقريبًا كلها) للجمهور بتكلفة معقولة. أكثر الدراسات التي أعرفها دقة حول هذه الأمور هي من إعداد دين بيكر، الذي قدّر مدخرات هائلة دون فقدان للابتكار إذا تم تقديم مثل هذه التدابير. (اطلع على كتابه المتوفر مجانا هنا)
هذه ليست سوى بداية ظاهرة للعيان. هناك مشاكل اجتماعية وثقافية ومؤسسية عميقة يجب معالجتها.
نعوم، أعلم أنك لا تفضل الحديث كثيرا عن نفسك، ولكن في سن الـ91، كيف تتعامل شخصيًا مع اللحظة التاريخية السريالية بالعيش في ظل كوفيد-19؟
بعبارات شخصية ضيقة، الأمر ليس شديد الصعوبة بالنسبة لي ولزوجتي. بالنسبة لآخرين كثر، إنها قصة مختلفة جذريا. إن اللحظة سريالية بالفعل. المستقبل سوف يتشكل بكيفية خروجنا من الأزمة. إن القوى المسؤولة عنها، وعن الهجوم النيوليبرالي الذي كثف بشكل واضح على الشعب، لا يجلسون بهدوء. إنهم يعملون بلا كلل لضمان أن ما يظهر هو نسخة أكثر قسوة وأكثر استبدادا لما قاموا بإنشائه لمصلحتهم الخاصة. هناك قوى شعبية تسعى إلى اغتنام الفرص الحالية لعكس كوارث الماضي القريب والمضي قدما نحو عالم أكثر إنسانية وأخلاقا. والأهم من ذلك، مواجهة الأزمات الأشد خطورة التي تلوح في الأفق.
سنتعافى من الوباء بتكلفة باهظة. لكن لن نتعافى من الذوبان المستمر للألواح الجليدية القطبية والعواقب الأخرى لتحميص الأرض التي ستجعل العديد من مناطق السكن البشري غير قابلة للعيش قبل أن يمر وقت طويل إذا ما واصلنا في مسارنا الحالي. ستزيد أربع سنوات أخرى من سرطان ترامب بشكل حاد من صعوبات التعامل مع هذه الكارثة الوشيكة – حتى لو نجونا من تهديد الحرب النووية النهائية الذي يصعده ترامب عن طريق تفكيك نظام الحد من التسلح الذي قدم بعض الحماية، وعن طريق التسابق لتطوير وسائل تدمير جديدة وأكثر خطورة تقوض أمننا المتناقص.