” يحب الناس النظر في حياة حنّة وأعمالها ” لأن سيرتها الذاتية تجسد أحداث وخصائص أهم فترة في القرن العشرين، النقد اللاذع للأحداث السياسية وتفسيرها بفلسفة جريئة لا يمثل معضلات القرن العشرين فقط، بل والقرن الواحد والعشرين أيضاً. وحسب المراقبين فإن البحث في مؤلفات حنّة ازداد بعد تولي ترامب رئاسة الولايات المتحدة.
يتشكل فكرها من خصائص عصرها ومن أزماتها الشخصية، فحنّة التي عانت من كونها جنس آخر (امرأة)، ومن كونها يهودية، إضافةً إلى أزمتها مع “مارتن هايدغر” أستاذها وحب حياتها، ثم أكبر انعطافات حياتها حين تمت محاولة تجريدها من هويتها الإنسانية، مما شكل فلسفتها الخاصة التي ظلت من خلالها وفية لنفسها فلم تتبع مدرسة معينة أو أيديولوجية. لذلك فمن الصعب تصنيف فكرها، إذ “يمكنك دائمًا العثور على عناصر ليبرالية ومحافظة ويسارية في تفكيرها، مما يجعل من الصعب للغاية تحديدها في أي معسكر سياسي” – حتى إنها لم تقبل وظيفة تدريس ثابتة – وساعدها بذلك حبها للغة وقدرتها على التلاعب بها، حيث كتبت بثلاث لغات وقرأت وفكرت بست لغات.
ولدت حنّة أرندت Hannah Arendt في 14 أكتوبر 1906 في مدينة ليندن (جزء من هانوفر الآن) بألمانيا ونشأت في مسقط رأس والديها كونيغسبرغ، لأبوين ألمانيين من أصل روسي، يهوديين متعلمين من الطبقة المتوسطة وقد شجعتها والدتها مارثا كوهن Martha Cohen على الدراسة الأكاديمية، كما تأثرت حنّة بكتابات والدتها التي كانت اشتراكية ديمقراطية .
أما والدها باول أرندت Paul Arendt فقد توفي في العام 1913 نتيجة مرض الزهري، لتتزوج والدتها فيما بعد من مارتن بيروالد الذي وفر للعائلة التي عانت من الحرب العالمية الأولى حياة أكثر أماناً. وفي وقت مبكر من حياتها، سمعت حنّة عن معاداة السامية وقرأت لكانط ومنه اكتسبت اهتمامها بالطبيعة البشرية.
في عام 1924، وبعد أن أكملت دراستها الثانوية، ذهبت إلى جامعة ماربورغ لدراسة الفلسفة واللاهوت، حيث درست مع أكثر العلماء الأصوليين انذاك، مثل رودولف بولتمان (1888-1976) ومارتن هايدجر (1889-1976).
تميزت حنّة بالذكاء وسرعة البديهة بالاضافة إلى الاهتمام باللغة وأهمية التفكير لوجود الإنسان، الأمر الذي جعلها الطالبة المفضلة لـهايدغر أستاذ فلسفة الوجود والزمان، لتنشأ بينهم علاقة عاطفية استمرت من عام 1925 وحتى وفاة حنّة بحسب الرسائل التي احتفظت بها حنّة، والتي جُمعت لاحقاً وتُرجمت لعدة لغات بعنوان (مراسلات حنّة أرندت ومارتن هايدغر). رسائل هايدغر كانت في مجملها تبادل اهتمام وتفاصيل لتتحول لاحقاً الى تبادل اراء فلسفية، ولم يحتفظ هايدغر إلا بالقليل من رسائلها خصوصاً في السنوات الأولى أي قبل أن تعلم زوجته الفريدا بعلاقته مع حنّة.
غادرت حنّة إلى جامعة فرايبورغ حيث أمضت فصلًا دراسيًا واحدًا لحضور محاضرات إدموند هوسرل الفيلسوف الألماني ومؤسس مدرسة الظاهريات. وفي ربيع عام 1926، التحقت بدروس الوجودي كارل ياسبرز (1883-1969) في جامعة هايدلبرغ، وقد أقامت معه علاقة صداقة طويلة الأمد، كما أشرف على أطروحتها في الدكتوراه عام 1928 (مفهوم الحب عند القديس أوغسطين Der Liebe Begriff bei Augustin).
انتقلت إلى برلين بعد زواجها من أحد زملاء صفها غونتر ستيرن عام 1929، وبدأت حينها بكتابة السيرة الذاتية للأديبة اليهودية راحيل فارنهاجين – نُشر الكتاب في العام 1957- . مع صعود الحزب النازي، أصبحت مستبعدة من قبل الدوائر الفكرية، فانضمت بشكل غير رسمي إلى منظمة صهيونية، وقامت بكتابة بحث حول معاداة السامية لصالح المنظمة مما أدى إلى اعتقالها في العام 1933، وإطلاق سراحها بعد ثمانية ايام، على اثر ذلك، غادرت بشكل غير قانوني ألمانيا لتقيم في تشيكوسلوفاكيا وجنيف وباريس.
وفي العام نفسه، بدأت العمل في منظمة خيرية في باريس حيث ساعدت الأطفال اليهود في العثور على منازل في فلسطين، معتقدة في ذلك الوقت بأن “إذا تعرض المرء للهجوم كيهودي ، يجب على المرء أن يدافع عن نفسه كيهودي” ‘ذ كانت تعتبر أن انتماءها للصهيونية ضرورة بسبب تهديد الوجود اليهودي لذلك انسحبت بعد انتهاء هذا التهديد. والمفارقة أن هيدغر قد انضم إلى الحزب النازي في ذلك العام وأصبح رئيسًا لجامعة فرايبورغ، وكانت مهمته مواءمة الجامعة مع النازية. – على الرغم من أن هيدغر دافع عن نفسه في رسائله لـحنّة واصفاً ما سمعته من شائعات حول معاداة السامية ما هو إلا افتراءات، ويوضح سبب رفضه الإشراف على أطروحة طالب يهودي ” فقط لأنني في إجازة في فصل الشتاء هذا؛ وإلى جانب ذلك، فالرجل الذي حصل بمساعدتي على راتب للذهاب إلى روما كان يهوديًا”.
ومن الجدير بالذكر أنه توقف بعد عام من انضمامه عن حضور اجتماعات الحزب إلا أنه ظل عضواً في الحزب حتى عام 1945.وقد شكل ذلك نقطة تحول في فكر حنّة، إذ توجهت إلى الفلسفة السياسية بدلا من الفلسفة النظرية.
بعد ما جُردت من جنسيتها الألمانية و بالتزامن مع الإعلان العالمي لحقوق الانسان كتبت عن ” الحق في التمتع بالحقوق”، إذ كانت تظن أن الإنسان ينال حقوقه بإنسانيته لا جنسيته كما يفترض الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فقد اتهمت حنّة أن الإعلان العالمي متحيز ودعت الى استقلالية هذه المنظمات وضرورة أن يحصل الانسان على حق “التمتع بالحقوق”. خلال إقامتها في باريس طورت علاقة مع الشيوعي هاينريش بلوخر الذي تزوجت منه في العام 1940 بعد طلاقها من ستيرن في العام 1936 وفي أثناء تواجدها في فرنسا كانت تنتمي إلى مجموعة من المثقفين المهاجرين المناهضين للفاشية – أطلقت عليهم أرندت لقب “القبيلة” – ومن بينهم كاتب المقالات والتر بنيامين والروائي هيرمان بروش, وعملت في منظمة شباب عالية لتدريب الشباب على الحياة في فلسطين، إلى ان تم اعتقالها في عام 1940 أي بعد الاحتلال الألماني لفرنسا، في معسكر الاعتقال جنوب غرب فرنسا أين قرأت لبروست و جورج سيمنون.
تمكنت حنّة من الفرار إلى الولايات المتحدة في العام 1941 مع والدتها، من خلال وثائق سفر غير رسمية بمساعدة دبلوماسي أمريكي، واستقرت في نيويورك حتى وفاتها. في الولايات المتحدة تعلمت اللغة الانكليزية وكتبت لصحيفة Aufbau مقالات تدعو فيها إلى إقامة دولة ثنائية في فلسطين أي للعرب واليهود لحل أزمة اللجوء، بالإضافة إلى مقالات عن التاريخ الأوروبي لمجلات مثل Politics و Partisan Review و Review of Politics و Nation.
انضمت إلى ناديها الثقافي الذي يجمع اليهود والمثقفين، الروائية الأمريكية ماري مكارثي، حيث التقتها في العام 1944 لتصبح فيما بعد أقرب اصدقائها.
في العام نفسه أصبحت مديرة أبحاث مؤتمر العلاقات اليهودية حتى العام 1946 الذي أصبحت فيه رئيسة تحرير كتب شوكن حتى العام 1948. وتولت في العام 1949 منصب المدير التنفيذي لشركة إعادة البناء الثقافي اليهودي والتي سعى لإنقاذ الكتابات اليهودية التي فرّقها النازيون.
بعد عدة سنوات من انقطاع اتصالها مع هايدغر، استأنفت المراسلات بينهم منذ العام 1950, وربما لسبب او آخر قد سامحته لتقوم بترجمة كتبه إلى الانكليزية ودافعت عنه – بعد انتقاده بشكل لاذع علناً- بأن انضمامه إلى الحزب النازي كان خطئاً مما عرضها – حتى الآن – لهجمات انتقاد شرسة باتخاذها موقف متناقض، بتبرير توجهات هايدغر من ناحية وكتاباتها التي ترفض من خلالها المساومة مع الشر بل وتعتبرها عملا لا أخلاقيًا.
في العام 1951, كتبت أفضل اعمالها وهو “أصول الشمولية” الذي ناقشت فيه طبيعة الاستبداد والديكتاتور، وهو العام نفسه الذي حصلت فيه على الجنسية الأمريكية.
حصلت حنّة على عدة زمالات ومنح من جامعات مختلفة، منها زمالة غوغنهايم عام 1952, وألقت محاضرات في جامعة برينستون عام 1953 – وكانت أول أستاذة في الجامعة -، وقد حصلت على منحة المعهد الوطني للفنون والآداب عام 1954, في العام التالي درست في جامعة كاليفورنيا. وفي العام 1958، جمعت مقالات مهمة في كتاب الحالة الانسانية، على إثر الجدل الذي أحدثه أصول الشمولية.
ونُشر كتابها بين الماضي والمستقبل عام 1961، كما ألقت في العام نفسه محاضرات في جامعة نورث وسترن. بعدها ذهبت إلى فلسطين المحتلة لتغطي محاكمة النازي ادولف إيخمان.
محاكمة إيخمان وتفاهة الشر
في العام 1961، انتهكت إسرائيل القانون الأرجنتيني، بعد أن اعتقلت ضابطًا نازيًا يدعى أدولف إيخمان Adolf Eichmann والذي فر من الولايات المتحدة ليعيش في ألمانيا عدة سنوات بهوية مزورة، ثم غادر الى الأرجنتين عبر النمسا وايطاليا. رتبت إسرائيل محاكمة إيخمان في القدس المحتلة بمحكمة مكونة من ثلاث قضاة بعد رفضها الدعوة الى محاكمة دولية.
نفى ايخمان التهم الموجهة إليه بمعاداة السامية، وصوّر نفسه كموظف بيروقراطي يطيع الأوامر الموجهة إليه، حتى أنه لم يكن يعلم إلى أين تتجه حافلات نقل اليهود الذين نقلهم من معسكرات الاعتقال. وبمعنى آخر أوضح أنه لا يُكنّ أي نية سيئة أو جيدة لليهود، وقد صدر حكم الإعدام بحقه في العام 1962 بعد محاكمة استمرت من أبريل وحتى ديسمبر من عام 1961.
رغم الجدل الكبير الذي أثارته محاكمة النازي إيخمان، فقد تلاه جدل أكبر، وهو سلسلة المقالات التي قدمتها حنّة إلى صحيفة نيويورك بعد تغطيتها المحاكمة، تلاها في العام 1963 نشر كتابها إيخمان في القدس: تقرير عن تفاهة الشر.
صورت حنّة أدولف إيخمان على أنه مبتذل عاجز عن التفكير، بوصفها التفكير كمحادثة ثنائية مع الذات تدور في رؤوسنا طوال الوقت، ولا أحد يريد أن يكون في حوار مع قاتل باستثناء رجال مثل أيخمان، إن عدم التفكير هو الذي يسمح بعدم التفكير في العواقب الأخلاقية وهذا ما يجعل من المرء مبتذلاً. إذ إن الكارثة في الأنظمة الشمولية هي تحويل البشر إلى أداة تنفيذ بدون أي دوافع للخير والشر أو كما يُقال (نفذ ثم ناقش). لم تدافع حنّة عن إيخمان بل كانت ترى أنه يستحق حكم الإعدام، لكنها تجادل في دوافعه الشريرة، وتقول أن وحشيته ومشاركته في قتل الأبرياء كانت نتيجة لعدم قدرته على التفكير، وبذلك ابتكرت مصطلح “تفاهة الشر”.
أما النقد الرئيسي فقد جاء كعاصفة قوية نتيجة انتقادها بشكل صريح لليهود في فلسطين “اليهود يريدون أن يوجهوا حزنهم إلى العالم”، اذ اوضحت أن إسرائيل تريد استخدام الهولوكوست كأداة سياسية لإقامة دولة في فلسطين وأن المحاكمة ما هي إلا مسرحية لتثبيت دعائم الدولة ولاسيما أنها جاءت في وقت تريد فيه إسرائيل الحصول على تعويضات أكثر من ألمانيا.
وقد اُتهمت بمعاداة السامية عندما وصفت اليهود بأنهم “ضحايا نائمين” وكتبت: “بالنسبة لليهود، فإن دور القادة اليهود في تدمير شعبهم هو بلا شك أحلك فصل في القصة المظلمة بأكملها”.حيث اتهمت المجالس اليهودية بالعمالة مع النازيةأ وقد عرّضها ذلك إلى هجمة شرسة من قبل اليهود الأمريكيين كما أن صديقها غيرشولم اتهمها بأنها تفتقر إلى حب الشعب اليهودي، لتعترف له بأنها لا تعرف هذا النوع من الحب؛ “حب الشعوب والجماعات”، وأنها أحبت أصدقائها فقط.
وتزامن مع كتابها إيخمان في القدس، إصدارها لكتاب في الثورة الذي بحثت فيه تاريخ الثورات وتحريفها كما قارنت بين الثورتين الأمريكية والفرنسية.
واستمرت حنّة بعد ذلك بإلقاء المحاضرات في جامعة شيكاغو (1963-1967) والمدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية في مدينة نيويورك (1967-1975). كانت أيضًا زميلة في جامعة ييل وجامعة ويسليان.
وفي عام 1967، حصلت على جائزة سيغموند فرويد من الأكاديمية الألمانية، وألقت محاضرات في جامعة كولومبيا في العام نفسه.
كما نشرت (الرجال في الأوقات المظلمة 1968)، لتحصل في العام التالي على وسام إيمرسون ثورو من الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم.
في العام 1970، كانت قد نشرت عن العنف، وهو العام الذي توفي فيه زوجها بلوخر. وأصبحت في العام 1972 عضو في المجلس الاستشاري لقسم الفلسفة في جامعة برينستون. كما أصدرت في العام نفسه أزمات الجمهورية.
قدمت حنّة محاضرات جيفورد في اسكتلندا (عامي 1973 و1974)، وجمعتها في مجلدين بعنوان حياة العقل، حررته بعد وفاة صديقتها ماري.
قبل وفاتها، حصلت على جائزة Sonning في الدنمارك، وعلى إثر نوبة قلبية في 4 ديسمبر 1975، توفيت حنّة ودُفنت الى جانب زوجها في كلية بارد في مدينة نيويورك.
ولا تزال مؤلفات حنّة مرجعاً جيداً لا سيما فيما يتعلق بأزمات اللجوء والتعصب الأيديولوجي الطائش، ومن الجدير بالذكر أن أوراقها وأجزاء رئيسية من مراسلاتها لا تزال محفوظة في مكتبة الكونغرس وفي الأرشيف الأدبي الألماني.
المراجع:
- مقال في مجلة يتفكرون عدد 9
- الجزيرة: الفيلسوفة الحائرة 2020\03\17
- مراسلات حنة ارندت ومارتن هيدغر: ترجمة حميد لشهب, الطبعة الاولى 2014
- The new yorker: Hannah Arendt and the power of the impersonal. 2009\01\5
- New statesman : Why Hannah Arendt is the philosopher for now 2019. 03.20
- National american biography
- britannica
تدقيق لغويّ: أميرة بوسجيرة