بطاقة فنية عن الكتاب:
اسم الكتاب: كيف تفقد الشعوب المناعة ضد الاستبداد
المؤلفين: هشام علي حافظ، جودت سعيد وخالص جلبي
عدد الصفحات: 306
الناشر: دار الرايس للكتب والنشر
الطبعة الأولى: نوفمبر 2001
عن المؤلفين:
هشام علي حافظ: ناشر صحفي وكاتب وإعلامي سعودي (1931-2006).
جودت سعيد: مفكر إسلامي سوري معاصر، أحد تلاميذ مالك بن نبي، لقب بغاندي العالم العربي؛ لدعوته للسلم واللاعنف.
خالص جلبي: طبيب وجراح. سوري المولد كندي الجنسية، كاتب ومفكر إنساني.
عن الكتاب:
فكرة الكتاب استلهمت بعد أن اطّلع المؤلفون على الرسالة التي كتبها الفيلسوف إتيين لابواسييه في القرن السادس عشر عن آلية الاستبداد تحت عنوان “العبودية المختارة”.
الكتاب يتألف من ثلاثة أقسام: مقدمة وقسم شعري من كتابة الأستاذ هشام علي حافظ، قسم تضمن النص الأساسي للفيلسوف لابواسييه (الذي نقله إلى العربية الأستاذ مصطفى صفوان وتعليق الأستاذ جودت سعيد عليه)، أما القسم الأخير فهو للأستاذ خالص جلبي، والذي كتب ثماني عشرة مقالة عن آلية الاستبداد وكيفية التخلص منه.
يا حسرة على العباد:
وهي مقدمة شيقة للأستاذ جمال البنا، تكلم فيها عن موضوع العبودية، وكيف تختار الجماهير العبودية رغم أن القوة قد تكون في صالحها؛ حيث يرجع السبب إلى الانقياد نحو الطاعة والرضوخ للسلطة، إلى زوال شخصية المطيع مما يجعله جزءًا لا يتجزأ من قطيع راكب للموجة لا أكثر، وتُساق الشعوب إلى هذه النتيجة جراء نشأتها في بيئة قاسية، وتَعوّدهم على الرضوخ والاستكانة وتَكيّف شخصية الشعب على القبول والرضى، في خضم جملة من المعايير الضاغطة عليهم، ومن بين هذه المعايير: الترويض التربوي، والنظام الاجتماعي، والاقتصادي الذي يفترض وجود سادة وعبيد.
القسم الشعري:
وهو قسم الأستاذ هشام علي حافظ. وكلّه عبارة عن قصائد تحاكي استبداد الحكام، ورضوخ الشعوب؛ فنجد أربعة قصائد في بداية الكتاب: فقد المناعة، تغتصب في وضح النهار، الزعيم، وصيتي أن يرتع الذباب العسل، وخمسة قصائد يختتم بها الكتاب: تركتني أشقى، مائدة الحرام، ديدان الضّياع، الكل من حولي في المدينة لا ينام، الطغاة.
ويقول في إحدى هذه القصائد:
أنا اليوم.. الآن
تركبني أنثى الطاغوت
يغتصبني ذكر الجبروت
ويلي يا ويلي
تغافلت طوال وقتي
أنا الأنثى
والطاغوت والجبروت
مرضى بداء عضال
هو فقد المناعة
قسم “مقالة الفيلسوف لابواسييه المتبوعة بتعليق الأستاذ جودت سعيد”:
“كثرة الأمراء سوء، كفى سيد واحد، مَلِك واحد “
هكذا خاطب أوليس القوم في هوميروس، كان ليكون محقًا -بحسب لابواسييه- لو اكتفى بالشطر الأول من الكلام “كثرة الأمراء سوء”، لكن بإضافة الشطر الثاني يجعلك تدرك إيحاء العبودية والرضوخ لسيد واحد؛ هو الحاكم ولا أحد غيره.
إنّ الحرية تنتصر على السيادة في حالة ما إذا تخلصت الجماهير من قيودها، وبمقارنة حافز كل طرف تستطيع أن تدرك لمن تكون الغلبة بالنهاية، فإن كان حافز الشعوب نحو الحرية كبيرًا، كالجرأة والشجاعة الكافِيَتين للتصدي للمتسلط، فإن السلطة أو السيادة ستنحل وتزول؛ لأن حافزها لا يتعدى أن يكون بعضًا من الصفات الوضيعة كالطمع والرغبة باستنزاف الثروات على حساب الشعوب.
وبهذا السبب يفسر لابواسييه انتصار الشعوب بإدراكها لعظم قوتها، وأنّ الحكام “الطواغيت” لا شيء بدون الجماهير، حيث قال:
“إنّ الشرارة تستفحل نارها وتعظم، وكلما وجدت حطبًا زادت اشتعالاً، ثم تخبو وحدها دون أن نصبّ ماء عليها، يكفي أن لا نلقي إليها بالحطب، كأنها إذا عدمت ما تُهلك، تُهلك نفسها وتمسي بلا قوة وليس نارًا. كذلك الطغاة كلما نَهبوا طمعوا ودمروا وهدموا، وكلما موّنَّاهم وخدمناهم ازدادوا جرأة واستقووا وازدادوا إقبالاً على الإفناء والتدمير، فإن أمسكنا عن تموينهم ورجعنا عن طاعتهم صاروا بلا حرب ولا ضرب عرايا مكسورين.”
ثم تحدث لابواسييه عن جدل الحرية؛ هل هي حق طبيعي أم لا؟ فقال:
“الحرية شيء طبيعي، ويبقى بهذا عينه أننا -في ما أرى- لا نولد أحراراً و حسب، بل نحن أيضًا مفطورون على محبة الذود عنها.”
وقسّم الطغاة إلى ثلاثة أصناف: من يمتلك الحكم عن طريق انتخاب الشعب، ومن يمتلكه بقوة السلاح، ومن يمتلكه بالوراثة. فالأول يطغى بعد توليه للمنصب وبعد أن يذوق طعم السيادة، وأما الثاني فيكون دكتاتوريًا، ويرى الشعب كأنه عبيد، والثالث هو الذي يترعرع على الطغيان.
ومن أهم أسباب العبودية المختارة “العادة أو التعود”؛ فكما ولد الإنسان وترعرع، يعيش على ذلك التعود حيث ينصاع طواعية للاستبداد؛ بكونه ولد رقيقًا، فالرق ثقافة مكتسبة، ونجد لابواسييه يطيل في هذه النقطة بضرب أمثلة حية عن شعوب حرة وشعوب مستعبدة، فعاد بالزمن إلى المدينة الفاضلة -أثينا وإسبرطا- ضاربًا المثل بالشعبين الأثيني والإسبرطي كأحرار والشعب الروماني والآشوري كعبيد.
كما أن مفتاح السيادة وأساس الطغيان -بحسبه- ليس في سيادة الملك أو الحاكم وحده، بل في أربعة أو ستة هم من يجرّون الجماهير إلى العبودية، حيث يكون في كنف الستة ستمئة يفسدونهم ويهبونهم مناصب بالدولة حتى يكونوا خاضعين لهم تمام الخضوع، و تحت الستمئة ستة آلاف يتصرفون في أموال الدولة، وهكذا تستمر سلسلة الطواغيت وفي ذيل هذه السلسلة نجد الملايين ممن يساقون طواعية لأجل رضى الحاكم وأتباعه -أو بالأحرى الدرجات الأعلى في السلسلة- وهذا كله طمعاً في الخيرو البذخ وغيرها من المصالح، ويبقى التاريخ والنُظُم السابقة هي الشاهد الذي استدل به لابواسييه في كتابة مقاله، وهذا لأجل الاتّعاظ بها. يقول في نهايته:
“لنتعلم إذن، لنتعلم مرة أن نسلك سلوكًا حسنًا، لنرفع أعيننا إلى السماء بدعوة من كرامتنا، أو من محبة الفضيلة ذاتها، أو إذا أردنا الكلام عن علم فيقيناً بدعوة من محبة الله القادر على كل شيء وتبجيله، وهو الشاهد الذي لا يغفل عن أفعالنا والقاضي العادل في أخطائنا. أما في ما يتعلق بي فإني لأرى -ولست بالمخدوع ما دام لا شيء أبعد عن الله وهو الغفور الرحيم من الطغيان- أنه يدّخر في الدار الأخرى للطغاة وشركائهم عقابًا من نوع خاص.
أما في تعقيب الأستاذ جودت سعيد، نجد أنه يحلل المقالة الفلسفية بشيء من التبسيط؛ فيرى بأنها متصلة برؤية آيات الأنفس ورؤية آيات الآفاق بشكل كبير، كما يعتبر أهمية المقالة في أنها تنبهت إلى الجانب الإنساني وتحمله لمسؤولية أفعاله (صنع الطواغيت مثلاً)، وأن أمر التغيير يرجع إلى البشر أولاً؛ فيزكي مقالة لابواسييه بالأسبقية والأهمية البالغة؛ لتطرقها إلى هذا الموضوع فيقول: “إن لهذه المقالة أهميتها الفلسفية؛ لأن كاتبها تنبه إلى هذا الجانب الإنساني المهم… وفي الواقع فإن الفلسفات السياسية والاجتماعية لم تنتبه إلى هذا الموضوع جيدًا، ولم تظهره بِبَيانٍ مُبين.”
ونراه يسقط معايير العبودية المختارة على وقتنا الحالي، ويربطها بمشاكل العالم والنظم المتحكمة فيه، تلك النظم المروِّجة لمصطلح الليبرالية وحقوق الإنسان بنوع من التزييف والتفنن في تزيين الواجهة بمصطلحات منمقة كتلك. يقول جودت سعيد:
“أنا ربما أريد أن أتعمق في بحث سبب أعمق لخضوع الناس وخنوعهم وتذللهم وعدم إنكارهم للطغيان، لماذا لا نرى الطغيان طغياناً؟ لماذا لا نفهم -على الأقل- أنّ حق الفيتو انتهاك لحقوق الإنسان؟ لأننا لا نزال نؤمن بالقوة وليس بالمنطق، لأنّنا نريد مواجهة ألوهية القوة بالقوة، ولا نريد مواجهة القوة بالمنطق بل بالبداهة. البداهة عندنا أن القوة وصاحب القوة هو الحق، هذا الشيء رسخ في أعماقنا واعتدنا عليه حتى صار بديهيًا. إذن، علينا أن نضع العلّة تحت هذه البديهية لنرفعها ولنلقيها بعيداً فنتحرر من الوهم.”
ولنزيل الوهم علينا أن لا نواجه القوة بالقوة ذاتها وعلينا أن نؤمن بأنّ الحق والعدل والمنطق أعظم من القوة، فنحن من نصنع الطواغيت بفكر وهميّ، وحتى دعاة الديمقراطية يستحيل أن نأمن شرهم بشعاراتهم الرّنانّة قبل إمساك مقاليد الحكم. وفي هذا يقول سعيد:
“الناس يكونون دعاة ديمقراطية ماداموا خارج القدرة على الإكراه، ولكن بمجرد أن يصيروا قادرين على الإكراه ينبذون الديمقراطية وراء ظهورهم ويصيرون في الميدان قائلين: أنا ربكم الأعلى، و إلا كيف يكون دعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان هم الذين يعيقون الديمقراطية في العالم ويخافون أن يصير الناس ديمقراطيون؟”
ثم نجده يربط الديمقراطية باللا إكراه وأنّ الرشد والشرعية بالإقناع لا بالإكراه؛ حيث أضفى مفهوم الرشادة بالحكم وهو مصطلح إسلامي، فقد استخدم الحكم الصالح في الفكر الإسلامي باسم الحكم الصالح الرشيد منذ عام 1964م- عند محمد يوسف موسى في كتابه “نظام الحكم في الإسلام”، فقد ربط المفكرون الإسلاميون الحكم الصالح بالشورى والبيعة والعدل، كما اعتبره البعض انعكاسًا للأمة المؤمنة أو من إفرازات الأُمّةِ المؤمنة التي تقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (بمصطلح أدق: الخلافة الراشدة)، كما يربط الديمقراطية بدرجة الوعي، فيقول: “ينبغي أن نفهم بعمق أن الديمقراطية ثمرةٌ شجَرتُها وعي الأمة، وبدون وعي الأمة لا ينفع اقتراع ولا برلمان.
وهذا الوعي يتحدد بقدرة الشعوب في تكوين آرائها بكل حرية وإبدائها دون إكراه؛ فينبغي السماح للرأي الخاطئ بالظهور وعدم قتله وإعدامه ونبذه، فالآراء تختلف، منها الصواب ومنها الخطأ، ولا إكراه في اتّباع أيّ منهما، وهذا ما يسمى بقمع الحرية؛ فليس عندنا رأي حتى تكون لنا حرية رأي، وأيضا دائماً ما يُنظر إلى صاحب الرأي الخطأ بازدراء واحتقار كأنه خلية مسرطنة، وهنا علينا أن نفرق بين المرض والمريض -مثل الحالة الجسدية تمامًا- نحب المريض ونكره المرض. إذن علينا أن نكون كذلك حتى في الحالة الفكرية نكره الفكرة أو الراي المريض لا صاحبه.
قسم المقالات:
وهو عبارة عن ثماني عشرة مقالة كتبها خالص جلبي لتوضيح عدة مواضيع مرتبطة بأصول مقالة لابواسييه والمعايير المعتمدة فيها، وكيف تتوجه الشعوب نحو العبودية فعندما تنطفئ الحضارة تنتج الإنسان المريض، بعد سقوط أيّ حضارة من الحضارات ينتج المجتمع الاستبدادي، وهذا السقوط يكون تبعًا لسوء الأوضاع الاجتماعية وتدنّي مستوى الوعي الجماهيري؛ فيبرز جرّاء ذلك إنسان مستلب الإرادة -كما سماه الكاتب- وينتج الطاغية حال امتلاكه لمفاتيح القوة فيتحول إلى وحش، وأيّ إنسان قابل أن يكون وحشاً حال حوزته للمفاتيح إلا أن يكون فاضلاً، و الشيء الذي يعيد الاتّزان لردع الطاغية- هي المعارضة لأجل تحقيق العدل الاجتماعي، وإزالة فكرة وجوب وجود مستضعفين ومستكبرين. يقول الكاتب: “إن العدل مفهوم وجودي؛ لأنه التوازن بين أطراف القوة و هذا ينطبق على قوانين الميكانيك وتيّارات النفس وحركة المجتمع.” حيث إنّ تشخيص مرض الاستبداد هذا لا يحتاج أدوات الفحص الطبي -بحسب خالص جلبي- بل إنه يتطلب جراحة بدون تخدير؛ لأنّ السطوة تكون على الجماهير النائمة والشعوب الأنانية، فمثال السطوة (ماوتسي تونغ) و(ستالين)، أما مثال الشعوب الأنانية (الشعب اليهودي) فترة الدولة الرومانية الذي اعتبر نفسه شعب الله المختار وأن بقية البشر هم مجرد غويم أو حيوانات مُسخّرة لخدمتهم، فما كانت النتيجة إلا أن حوصروا بمربع الجيتو، وكذلك الوضع مع الشعب الألماني الذي رفع شعار ألمانيا فوق الجميع.
الشعور بالحاجة إلى التغيير، والتغيير سلميًا ولابد من تصور البديل.
الكواكبي
خصص الكاتب مقالة متفردة لنماذج عن شعوب تحررت بطرق سلمية؛ فتحدث عن أثر التعليم في ذلك، وأعطى مثالاً على الشعب الياباني والشعب الأفغاني؛ فاليابان هي الدولة التي ضُرِبت بالنووي ورغم ذلك لم تتوجه إلى العنف والقتال كما فعلت دولة أفغانستان، وإنما عملت على تنوير الشعب، فالوضع الداخلي إن لم يكن ناضجاً بما فيه الكفاية فإنه لن يكون قادرًا على التحرر أو إسقاط النظام، وقد لخّص الكاتب مثلث النهوض بالأمة في: المؤسسات، الأفكار والأشخاص.
هناك مناعة، وهناك فقد للمناعة، وأيضًا هناك أمصال خاصة يجب حقنها في أوقات خاصة في مجتمعات مخصوصة؛ لتحقيق الحصانة المناعية، وبقراءة الكتاب سيصل القارئ إلى طبيعة هذه الأمصال.
تدقيق لغوي: آية الشاعر