الجزء الثاني:
من هنا.
الجزء الثالث:
يقولون أنك تشعر برابط من نوع ما حين تنظر إلى صورة لمدينتك الأم. هناك حكمة يقال إننا تناقلناها من سكان أوداهي القدماء. تقول:
ومعناه أنه مهما ابتعدنا عن مدننا نعود إليها. لكنني لم أشعر ولو لجزء من الثانية أنني أنتمي إليها، أو أنني ذرة غبار شذت عن القاعدة مثلا، لم أشعر بشيء حقا..
_”هذه صورة معدلة بإضافة ضوء شمس اصطناعي وإسقاطات ظلٍّ حتى تكون أوضح، وهذا كما ترون إثباتٌ لوجود “تينهام” التي كانت مخفيَّةً بطريقة ما لسنوات”
_”طبعا قامت الـ “ناسا” متأثرة بهذا الاكتشاف الضخم بإرسال بعثة مدعمة لاستكشاف تلك المنطقة التي لم يستطع القمر الصناعي رصدها مجددا بعد تلك الثواني. لكن كما تعلمون، كل الآلات الكهربائية، المعدنية، المغناطيسية وكل ما يمكننا صنعه من آلات تتوقف عن العمل أو تضطرب داخل مجال تلك الصحراء الأرضي والجوي، وأيضا، ينتهي الأمر بكل من يحاول الدخول إلى أوداهي بأن يخرج منها بعد أيام، بالعودة من نفس مكان دخوله ودون ذكريات عمَّا حدث معه بداخلها، البعض لم يخرج منها إلى يومنا هذا. وهذا ما حتم على ناسا أن ترسل فريقا من أقوى أدمغتها وبعض الحيوانات الذكية أيضا في مهمة هي الأغرب. لم يكن أمام البعثة من خيار سوى المشي لأيام. لكن ما حدث بعدها أنهم عادوا أدراجهم بعد يومين تماما وهي المدة التي كان مقررا أن تنسحب فيها البعثة في حال فشلت. عادوا دون أي ذكرى عما قاموا به داخلها أو أية رسائل خلفوها. والأغرب أن كل البعثة كانت تعاني من حالة حرجة من الجفاف والإرهاق رغم أن مخزون طعامهم وشرابهم كان ممتلئا عن آخره و لم يُمَسَّ. أُعلنت المهمةُ فاشلةً. ولم يتم التصريح بما تم التوصل إليه خوفا من أن تقوم بعثات غير رسمية بتجارب قد تنتهي بكوارث”
توقف عن الحديث فجأة، ثم بعد قليل من التفكير أطفأ جهاز العرض تماما. متجاهلا نظرات استغرابنا الواضحة، تابع: _“لا يمكننا إثبات حقيقة وجود “تينهام” حتى تطأ أقدامنا أرضها و تعود بدليل عن ذلك .. شكرا على حضوركم، يمكنكم الانصراف” نظرنا إليه جميعا بدهشة ..
_“هل يعقل أنه أنهى محاضرته هكذا؟”
سألت فتاة تجلس خلفي. كان الأستاذ قد بدأ في جمع أغراضه بالفعل، و كان يرفض الإجابة على أسئلة التلاميذ حول تينهام. لذا لم نستطع إلا أن نمسح نظرات الفجأة والاستياء من على وجوهنا وأن نغادر قاعة المدرج قبل أن تضيع ساعات أخرى من عطلتنا القصيرة.
احتجت كثيرا جدا من الوقت لأفهم سبب إنهائه درسه بتلك السرعة. ربما لو كنت أكثر انتباها للتفاصيل من حولي لاختزلت كثيرا من الوقت لفائدتنا. وحين أتذكر هذا، ألوم نفسي حد الاختناق.
يومها، بينما يجمع أغراضه و يلقي بكلمات الرفض في كل مكان، كان يعامل الكيس الذي كان موضوعا عند حافة مكتبه كأن فيه ألف بيضة، رغم أنه بدا مُستعجلا للمغادرة. ثم بعد أن تحضَّر للمغادرة تماما، راح يقف خلف مكتبه وينظر نحو صفوف المقاعد مقابله كأنه يبحث عن وجه ما. التفت يمينا ويسارا، التفت إلى كل الجهات. كنت أنزل الدرج عندها مع “ندى” لمغادرة المدرج، وكنت أراقب ملامحه التي كانت تزداد وضوحا مع خطواتي التي قلصت المسافة بيننا. وحين وصلنا إلى نهاية الدرج توقفت عيناه عن البحث في كل مكان لتستقر عليَّ.
حتى دون ملابسي الحريرية ورنة الخلخال في الهدوء كنت “فيسا” بالنسبة له يومها. ولأن لـ“فيسا” من السحر على سكان أوداهي ما يجبرهم على تغطية رؤوسهم حتى لا يروها فقد تلقى هو الجرعة الكاملة دون تلك الحماية.
بينما ينظر إلي، مشى نحوي بتيه. أو مشى نحو سواري.. لا يهم. النتيجة أنني و“ندى” توقفنا عن المشي نتساءل إن كان ينوي كما بدا أن يتوقف عندنا. وذلك ما حدث بالفعل، وقف الأستاذ بثقةٍ مقابلا لنا و طلب محدثا إيَّاي:
_“هلا ساعدتني في حمل ذاك الكيس آنستي؟”
ثم أشار بإصبعه نحو الكيس فوق مكتبه مبتسما.
مجموعة من الفتيات اللاتي حاربن زحمة الطلبة عند مقدمة الدرج حتى يستطيعوا الاقتراب مكتبه لطرح أسئلتهن كن ينظرن إلي كأنني سرقت عشاءهم. ولست من ذلك النوع من النساء اللاتي يقفن بذقن مرفوع ونظرات لا تبلغ الأرض في مثل هذه المواقف. كنت عكس ذلك تماما، حنيت رأسي بخجل وتساءلت وقتها: “لماذا يطلب من فتاة ان تساعده في حمل الأغراض؟!، لماذا تجاهل كم من كان يقف حول مكتبه ليسألني أنا بالذات؟!”
_“ألن تساعديني يا آنسة؟”
ألحَّ هو بالسؤال مجددا، فلم أستطع الرفض، وأجبت محرجة على عجالة:
_“طبعا”
ثم تبعته إلى منصة المدرج، شعرت كأنني جسد إنسان إلا ربع خلفه، كان طويل القامة جدا، لكنني لا أذكر بكم كان أطول مني بالذات، ربما أقترب من بداية كتفيه، أو ربما كنت أقصر من ذلك قليلا.. لكن ما أذكره يومها بالتفصيل كان أنه التفت لينظر إلي مجددا في مشيتنا القصيرة. نظر إلي فحسب. ثم نظر أمامه مجددا يبتسم، لأنه وجد كنزه أخيرا.
أشار إلى الكيس فوق المكتب حالما وصلنا، فحملته دون تعليق رغم أنني كنت أجد في طلبه وقاحة نوعا ما ناحيتي. رغم ضخامة حجمه، كان خفيفا حقا. ثم حمل الأستاذ حقيبة حاسوبه وقاد الطريق أمامنا. بينما نمشي خارجا، كان الطلبة يتهافتون عليه طوال طريق، ولم يقبل أن يستمع إلى أيٍّ من أسئلتهم متحجِّجًا بضيق وقته.
كانت “ندى” تمشي بجانبي، متحمسة لوجودها بجانب ذلك الأستاذ الوسيم على كل حال. أمَّا أنا كنت أجد في طلبه ذاك فضاضة أمبر مع كل خطوة كنت أخطوها، وكنت أجد في نظرات الطلاب لنا طوال الطريق فضاضة أكبر. ولأنني لم أكن يوما جيدة في التفاعل مع مثل تلك المواقف أين أكون محطَّ نظر الجميع فقد أردت الهرب فحسب، لذلك قررت أن أتخلى عن ماء وجهي بعد مدة، فتوقفت عن السير ثم همست:
_“آسفة أستاذ .. لكن لدينا محاضرة أخرى لنلحقها الآن، لا يمكننا التأخر.”
ورغم أن ما قلته كان كذبة واضحة، غير أنَّني لم أستطع أن أجتهد لإيجاد كذبة أفضل، أومأ الأستاذ بتفهُّمٍ. ثم سألني فجأة:
_“هل تُصدقين حقيقة الصور التي أريتها لكم قبل قليل؟”
نظرت إليه بشك، لم أفهم لما قد يهتم شخص مثله برأيي أنا. لكنني أجبت بصراحة:
_“بدت صورتا الشفق والمدينة واقعيتين، لكن يمكن لأي كان تزييف مثل هذه الصور، خاصة وأنه لم يتم الإعلان عنها قط”.
هزَّ رأسه ببطئ، ثم سأل سؤالا جعلني أخرس من دهشتي:
_“ألست تظلمين هذا السوار الذي تحملينه بأفكارك هذه؟ فأنت من عائلة “إيهاني” في نهاية المطاف، أليس كذلك؟”
إعداد: مونية سباعي.
تدقيق لغوي: منال بوخزنة.