قبل أن يلجَ بابَ البيتِ، كان يُرددُ بينهُ وبينَ نفسهِ آخِرَ الكَلماتِ التي قالها له شَيخُه “يا بُنّي عمَى القُلوبِ ترشِدهُ فِطنَةُ العُقول و عمَى العُقول يَسْتَنيرُ بِبَصيرَة القُلوب، وتَذكّر أنّنا عَرفنَا الله بعقولِنا وآمَنا بهِ بقُلوبِنا و ….. “
أخرجَه صَوتُها الغَاضِب من خواطِره التي مَلكَت عليه كَيانه
آهّ يا إلهي .. كالعادة تأتني على هذه الحَال .. يا ربّ متى يَكبُر هذا الوَلد ؟
رد عليها أمي شَيخِي يقُول : دوامُ الحَال من المُحال فلكلِ حالٍ مآل مَهما مضَى أو طَال .. دخل البيت وهو يحمِل حذاءه المُمزق بين اصبعين به فَتحَة تبدُو كضِحكَة طِفل صَغير، سرواله متسِخٌ بوحلِ الشّتاء بعد نزول المَطر في الليلةِ الماضية؛ جرحٌ طَفيف على جَبينه حاولَ إخفائهُ بشَّالِه لكنه لم يُفلح .
– ماذا هل تشّاجَرتَ مع أسعد مرةً أخرى !؟
-لا، لقد صدمتُ رأسَ مَالك عند خروجنا من حُجرة الدراسة ونحن نتسابقُ على منْ يصلُ أولاً إلى باب المدرسة الخارجي –الغبي صاحب الرأسِ الكبير قالها في داخله –
وكأني لا أعرفُك عندما تتشاجرُ مع أسعد !
ما الذي حصل اليوم، هل حاول أن يسرقَ مصروفكَ كما جرتْ العادة ؟؟
أمي أمي إنسِ أمرهُم، دعيني أُخبرك شيئا حصل لي اليوم، يصمُت قليلاً ويركز في وجه أمه يَسْتشِفُ فُضولَها
” لقد التقيتُ الله” .
علامات التعجب باديةٌ على وجهِ الأم وترفَعُ أحدَ حاجبيها ولا تُحرِك ساكنًا
يواصلُ كلامه : بالأمسِ طَلبتْ منا المُدَرسة أن نكتبَ رسالةً لأحدهم؛ ففكرتُ أن أكتبَ رسالة إلى الله بعد أن حدثَني شيخي عنهُ كثيرًا عندما سألته عنه فقد كان عندي فُضولٌ لرؤيتِه؛ ففي كل مرة أسمعُ النّاس تدعُو بإسمهِ لتَربحَ تجارتهم أو يُشفى مرضَاهم وحتى عندما ماتَ جدّي سمعتهم يذكرونهُ كثيرا؛ فزاد فضولي إلى معرفته؛ وكانت هذه فرصتي لأكتب له ما يجولُ ببالي وأطلبَ منه زيارةً اذا لم يكن جدولهُ اليومي مزدحمًا.
لا يزال الصمتُ مخيمًا على الأم وكأنها بلعت لسانها ونُقطُ عرقٍ نَزلت من جبينها .
أخرج ورقةً مطويةً من جيبِ سترته، كانت تبدو نظّيفة مقارنة بملابسه، مع أن المطر قد أصابَ حواشِيها قليلا.
تنحنح حتى يوقظ أمه من ذُهولها؛ إبتسمَ واسترسَل في القِراءة :
” عزيزي الله متى نلتقي ؟
إني أستيقظُ فجرًا فأرى من نافذةِ بيتنا نورًا يلوحُ في الأفقِ أحسبهُ أنت، فقد قالوا لي أنك النُور في العَتمة !
و أَمُرُ بحديقة جارنا “أبو سالم” و أشّم عِطر زهورِ الريحَان فأُحِسُ بأنّ عطرها من عِطر جَنتك كما أخبرتني جَدتي في حكاياتها التي إعتادت أن ترويها لي عندمَا تزُورنا .!
إلهي كلهم يضْحَكون عَليّ لأن لي لسان سؤول؛ لا أدري هل أنا أم أسئلتي التي تُضحكهم ؟ فهل تُراك تضحَكُ أيضا على أسئلتي ؟
إلهي لم يعد لي صديقٌ بعدما مات رفيقي ‘أسامه’ الذي أصيب بمرضٍ أسقط شَعر رأسهِ وشيّبَ شَعر والديه. فهل تكون صَديقي ؟
إلهي لماذا يموتُ الأطفال ؟ سألتُ جدتي مرة : الله يُحبُ الأطفال ؟ قالت لي بأن الجنّة ملأى بهم؛ فرحتُ عندها لصديقي أسامه، وأنا تراني أكون من بينهم عندما أموت ؟
إلهي ‘أسعد ‘ يضربني دائما عندما تبتسمُ لي ‘هديل’ أو نتكلم مع بعضنا. وكلما سألته لماذا ؟ لا يجيبني؛ يضحكُ عليّ ويشتمني أحيانًا ويذهب. هل تَلَقي الابتسامة شيء سيءٌ حتى يضربني ؟ إلهي أعرفُ أني أسألُ كثيرا، ولكن لا أحد يجيبني -باستثناء شيخي، هل تعرفه ؟ إنه يقول لي أنه يعرفكْ – فهل تفعل أنت أيضا ولا تجيبني ؟
صديقي الله -واسمح لي أن أناديك هكذا – دقت ساعة الخروجِ الآن، أعتذر منك لأني لا أستطيع إكمالَ رسالتي وكُلي أملٌ في أن تجيبَ على أسئلتي ..
ولو سؤالًا واحدًا منها .. اتفقنا ..؟
صديقك المخلص حسان.
ملاحظة : لا اعرفُ عنوانَك، يقولون انك تسكنُ السَماء. لا أعرف كيف ستتدبرُ الآنسةُ صفاء أمر إرسال رسالتي إليك.
سلام .. ”
يبتسم مع آخر جملةٍ وينظرُ ناحية أمه التي ما تزال آثارُ الصدمةٍ باديةٌ على وجهها
يضيفُ قائلاً : لم أرهْ حقيقةً، لكني شَعرتُ أنهُ معي عندما ابتسمتُ لمجنونِ حَيّنا واقتسمتُ رغيفي مع طفلةِ الملجأ “أمل” ففَرحَتْ به، شعرتُ به في قلبي حتى عندما ضَربني أسعد وأخذ مصروفي وأنا لم أحرك ساكنًا لأغيظَه ! فقد أخبرني شيخي أننا نعرفُ الله بقُلوبنا و أنّ ……
حسان …. تصرخُ الأم فيه، لا تُعِد هذا الكلام مرة أخرى .. فهمتْ.
يا إلهي ما الذي يُعلمكَ إيّاه هذا الشيخ ؟ أظنُ أنه خرفَ في غير موعِده؛ هيا انهض حتى تستحمَ وتغير ملابسَك بدلا من الثرثرةٍ، وهات أخيطُ حذائك.
– غمغم بصوتٍ مرتفعٍ قليلا آووه، الكبارُ دوما هكذا .. يطفِئون شُعلة الفضول .
– ماذا قُلت يا حسان ؟
– لا شيء يا أمي، قلتُ إني “أحبك” عندما تعتنين بي هذا كل ما في الأمر .
—–
كانت تُمسكُ بأحدِ كُتبه “صديقي الله” تردَدَتْ قبلَ أن تُفاجئه بأسئلتها الكثيرة والمُلحَة
– بابا .. لماذا السماء زرقاء ؟ بابا أين ذهبت الشمس ؟ بابا من هو الله ؟ هل هو صديقك ؟ هل حقًا يسكن السماء ؟ بابا هل الشيطان موجود ايضًا ؟ بابا .. بابا .. ؟؟؟
برفقٍ أخذ منها الكتاب
– ياصغيرتي اذهبي الى النوم .. لقد تأخر الوقت ..
-غمغمت بصوت مرتفعٍ قليلاً أوووه أنتَ وماما دائما هكذا .. تطفِئون شُعلة الفُضول ..
– ماذا قلتِ يا صغيرتي ؟
– لا شيء يا بابا .. قلت “تُصبح على خير ” ..
أغلقت الباب خلفها وقد بَدت عابِسةً و مُقطِبة الجَبين ..
فتحَ الكتابَ الذي بينَ يديه ؛ سقطت عينهُ على أول إقتباسٍ مُلون :
” الطفلُ متى عرف أنه
من أسراب الطفولة البريئة
لم يعدْ منها ..
الطفلُ متى صار يعرفُ
كيف يرسم المهندسُ البيتَ
هربتْ من صُوَره خطوطُ الحبّ والجمالِ الصغير ..
البسيطُ متى عرف أنه بسيط
لم يعدْ بسيطا ..
الإنسانُ متى عرف الحقائق
سقط عن سرير الأحلام . ”
سَرح مع أفكاره ؛ “ما أشبه حال اليوم بالبارحة ” صوتٌ بداخله تَردَدْ ….
تدقيق لغوي: بشرى بوخالفي