المخرج (بونغ)، على الرغم من أن أفلامك محبوبة لروح دعابتها المظلمة، إلا أنها يمكن أن تكون ساخرة في رؤيتها. هل تصف نفسك بالمتشائم؟
لا أعتقد أنني متشائم في كل حيثيّة، لكنني أريد أن أكون صادقا في مواجهة الواقع الذي يقف أمامنا. في فيلم “طفيليّ” (Parasite)، كان تفكيري هو أن البشرية حققت تطورا مذهلا (مثل الأجهزة المحمولة التي نراها أمامنا)، ولكن إذا فكرنا في الثلاثين سنة الماضية، هل تقلصت الفجوة بين الأغنياء والفقراء؟ لا أعتقد ذلك حقا. عن نفسي لدي ابنٌ، فهل أعتقد أن الأمور ستتحسن في جيله؟ أنا حقا لا أعتقد ذلك أيضا. في الواقع، هذا هو مصدر الكثير من الخوف. لذا أردت أن أكون صادقا مع هذا الخوف والحزن، وأوصله بشكل حقيقي.
هل هذا الخوف أكثر تجلّيا اليوم، أم أنه شيء كنتَ تفكر فيه منذ مدة؟
حسنا، لقد بدأت في تطوير هذه الفكرة في عام 2013، مضت ست سنوات بالفعل على وجودها ولكن، بالطبع، لم تكن مسألة الفجوة بين الأغنياء والفقراء في الاستقطاب الاقتصادي مختلفة في ذلك الوقت عما هي عليه الآن. كنت أعمل حينها على مرحلة ما بعد الإنتاج لفيلم “محطم الثلج” (Snowpiercer) ، والذي تدور أحداثه أيضا حول الاختلاف والصراع الطبقيين ،حيث يعيش الأغنياء والفقراء في عربات مختلفة من قطار، لذلك يمكنك القول أنني كنت بالفعل في قبضة هذه الفكرة عن الفروق الطبقية بالفعل. ولكن مع (Parasite) أردت أن تكون القصة أكثر عن محيطي الخاص، عن محيطي اليومي الخاص.
يبدو أنك كنت مصمما على تفادي رسم الصورة النمطية عن العائلات الكورية الغنية التي تتبادر إلى الذهن من السينما والتلفزيون.
صحيح، خاصة في البرامج التلفزيونية الكورية الجنوبية ولا سيما المسلسلات، الأشرار التقليديون جشعون بشكل واضح، يعاملون الناس الذين تحتهم بعنف وقسوة كبيرة ويقومون بسحقهم فقط. أتدري، في عام 1995 عندما شاهدت فيلم المخرج (ماثيو كازوفيتش) “الكراهية La haine” * لأول مرة، فوجئت برؤية مناطق مثل تلك في باريس. لم أكن أعرف حتى بوجود “البونليو banlieue” **. عندما كنت أفكر في باريس، كنت أفكر دوما في شارع الشانزليزيه *** أين يشرب كل شخص النبيذ ويستمع إلى موسيقى (الأكورديون). مشروع فلوريدا للمخرج (شون بيكر) هو مثال آخر. كوريا الجنوبية بلد ثري ومتقدم جدا ولكن عندما تصبح دولة غنية جدا، تتسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء بشكل نسبي.
لسوء الحظ، يبدو ألّا مفر من هذا الصراع الطبقي في كل مكان في العالم تقريبا.
هذا شيء ينطبق على جميع البلدان، نعم. بالطبع، يمكن أن يكون هناك فهم وتعاطف وتواصل بين الطبقات المختلفة، لكنني أعتقد أنه من المعقول جدا أن تؤول الأمور إلى الطريقة التي يتصرفون بها في الفيلم. ندرك جميعا هذه الفجوة بين الأغنياء والفقراء.إنه أمر محزن ومفزع للغاية، ولكن ما هو أكثر إثارة للفزع بشكل أساسي هو الخوف الذي ذكرته سابقا، والذي لن يتم حله في المستقبل، في جيل أطفالنا. هذا شيء نشعر به جميعا، ومن الصعب جدا التخلص منه.
كيف يمكنك ضمان أن الخوف والعاطفة يتم توصيلهما بطريقة حقيقية وإنسانية؟ هل يعود الأمر إلى عواطف الممثلين؟
كمخرج، عندما أتحدث مع الممثلين ،أبذل قصارى جهدي لجعل كل حالة تبدو بسيطة وعفوية حتى يتمكنوا من التعامل معها عاطفيا. أنا لا أتحدث عن: “أوه إذا ما قمت بتحليل النص، فهناك هذا التعليق السياسي.” لا أعتقد أنه هناك حاجة لمناقشة ذلك. أقول دوما أشياء مثل: “ألا تشعر بالأسف على هذه الشخصية؟” هذه المحادثات الغريزية التي أجريها مع الممثلين تساعد أدوارهم. لكن يمكن للموقع أن يكون بنفس درجة أهمية الشخصيات أو الممثلين في نجاح الفيلم، على ما أعتقد.
ما الذي تقصده؟
حين أتوصّل إلى أو أفكّر بموقع عظيم، أشعر بنفس الحماس الذي ينتابني حين أجد ممثّلا عظيما. ففي فليمي “أوكجا Okja”، تبدأ القصة من جبلٍ في ضواحي كوريا الجنوبية، وتنتهي في شارع (وول ستريت) في (نيويورك)؛ إنها بالفعل رحلة طويلة عبر عدّة قارّات! أما فيلم (Parasite) فيمكن اعتباره إنتاجا مسرحيّا، لأن القصّة ركّزت على المكان نفسه، وجرت أحداثها بنسبة 90 بالمئة داخل المنزلين. إنه تحدٍّ لم يسبق لي أن واجهته من قبل. مفهوم “التوزّع العمودي” مهمّ في الفيلم، بينما كان “التوزّع الأفقيّ” في فيلم (Snowpiercer) هو الأهم.
بعد إطلاق فيلمك (Okja) من إنتاج شركة( نتفليكس Netflix) 2018، هل أنت سعيد بعودتك لصناعة أفلام السينما؟
حين أخرجت فيلم (Okja)، تحدّثت مع المصوّر السينمائي عن طريقة نجعل بها من شاهدوه على هواتفهم الذّكية يتخلّون عن ذلك، ويُضطرّون للذهاب إلى السينما أو استعمال شاشات عرض كبيرة لمشاهدته. صمّمنا الكثير من اللّقطات بحيث لا يصبح لديهم خيارٌ غير الاستسلام، كتلك اللقطة الطّويلة جدّا أين تبدو فيها الفتاة قصيرة للغاية. لكنّي لا أظنّ أنّ تقنية البثّ على شبكة (نتفليكس) سيّئة، ولا شكّ أنّني سأسعد بالعمل معهم مجدّدا؛ لكنّ السّينما توفّر أفضل تجربة لمشاهدة الأفلام، فهي على الأقلّ الوسيلة الوحيدة التي لا تتيحُ لك خيار إيقاف العرض.
هل يبدو هذا كأنه عودة لجذورك باعتبار حجم الإنتاج؟ كان كلّ من (Okja) و(Snowpiercer) إنتاجين ذوي ميزانية ضخمة، بينما لطالما استمتعت بمسار مهنيّ ناجح في صناعة أفلام مستقلّة.
نعم ، أشعر أنني عدت لإخراج أفلام من هذا الحجم والمستوى والميزانية، مثل فيلمي (Mother) و(Memories of Murders). أما العودة إلى الأفلام الأصغر فقد منحني بعض السّلام وجعلني أكثر انتباها لتفاصيل صغيرة في الفيلم نفسه. ولأننا حصلنا على ميزانية كبيرة من أجل(Snowpiercer) و(Okja)، فإنني اضطررت -كمخرج- أن أصرف طاقتي في أشياء أخرى. ففي (Okja) مثلا، كان لدينا ما يزيد عن 320 صورة كبيرة، وفقدت إذّاك قدرا كبيرا من طاقتي معها. بالنسبة لـ (Parasite)، كنت سعيدا للغاية أنني استطعت صرف انتباهي إلى كلّ شخصيّة وتفصيل من الفيلم.
ما هي التّفاصيل التي تشعرك بالفخر؟
أردت أن أنتج فيلمًا مفصّلا ومرهفًا، أين يمكنك أن تتشمّم رائحة كل شخصيّة. أعتبر نفسي مخرجا للأفلام ذات التّصنيف الواحد. أعتقد بوجود إمكانية محتملة لتتحوّل هذه الأفلام ذات التصنيف إلى سياسيّة، ويبدو هذا واضحا في أفلام الخيال العلميّ. وبما أنّ كلّا من (Snowpiercer) و(Okja) يصنّفان ضمن الخيال العلميّ، يمكنك أن تعتبرهما سياسيّين جدّا. أمّا مع (Parasite)، فأساس القصّة يتعلّق أصلًا بالفقراء والأغنياء، ويمكن اعتباره منذ البداية ذو طابعٍ سياسيّ، رغم أنّني لم أرد له أن ينتهي إلى مجرّد تعليقات سياسيّة.
لماذا، برأيك، تبدو هذه الأفلام ذات التّصنيف مشهورة في أيامنا هذه؟
هل هي كذلك؟ كوني صانع أفلام ذات تصنيف ولستُ ناقدًا ذي اطّلاع واسع على الأفلام الرّائجة أو المعلن عن إطلاقها، فأنا سعيد لسماع ذلك. لديّ شغفٌ كبير بهذه الأفلام، رغم أنّني-بشكلٍ عامّ- أحبّ أن أتجاوز أو أغيّر من الاصطلاحات المفروضة على الأفلام ذات التّصنيف، إلا أنني لا أزال أعمل ضمن حدودها. هناك نوعٌ فريد من الانفعال السّينمائيّ الذي تخلقه مثل هذه الأفلام. وهذا ما أحبّه بشأنها، لذلك فأنا سعيدٌ لرؤيتها تشتهر.
(*): فيلم فرنسي درامي ناطق بالإنجليزية ، يتحدث عن ثلاثة أصدقاء صغار ونضالهم للعيش في ضواحي باريس.
(**): كلمة فرنسية تعني أنحاء أو ضواحي المدن، وتعني حرفيا: المنطقة المحظورة
(***): أحد شوارع باريس في فرنسا، وهو كذلك من أرقى وأفخم الشوارع السياحية والتجارية في العالم، توجد بالشانزلزيه أرقى المحلات التجارية العالمية والمطاعم الراقية، كما تكثر في الشانزلزيه المقاهي على جنبات الرصيف والطرقات الجانبية، في نهاية الشارع يوجد قوس النصر أحد معالم المدينة.
المصدر: The Talks
ترجمة: أميرة بوسجيرة وعمر دريوش.
تدقيق لغوي : سارة ريشان.