التعظم بالألم منالة للمثل الإنساني

الحكمة البالغة التي أوجدت النور والظلام معا، حملت الإنسان على حقيقة سامية وهي أن كل تعاطٍ مع الظلام سيخلف منيعة من النور، وذلك لا يحصل إلا بعد أن يدين الإنسان بالاتاحة المعرفية والأخلاقية التي تحمله إلى ما يتطلّبه جوهره الإنساني. باستطاعة الحكيم أن يثلج أحزانه ومآسيه بإبادة معرفية يدرك نحوها “أن كل الآلام لن تتجاوز حدودها إلا لحظة جلدها لنا واحتدامنا بها”، وأي مصيدة تكفي لردعها؟ غير الاحتكام والاعتدال. وباستطاعتنا أن ندرك الأمور على حقيقتها حينما لا نأخذها على ظاهرها ونبحث في مدلولها الخفي الذي لا يتوقف عند حدود الإثارة، فكل تحسس ينتهي لا محالة بزوال آثاره، إلا أن المفارقة العجيبة تحصل حينما نتوصل إلى إدراك الحقائق بمعناها الصحيح لإزالة التوتر والبعثرة المعرفية.

الألم صبغة إنسانية ملازمة لحياة الذات منها ما هو “جسدي” كالمرض، الإعياء، الغثيان… ومنها ماهو “نفسي” كالضجر، الاكتئاب، الخوف… ومنها ماهو”فكري” وهو أقل الأصناف مناولة، إلا أنّه أشد الآلام وأثقلها ويتسبب في الكثير من المعاناة والتعاسة، هذا الصنف الذي أدعوه مرضا قد كثر واستعصى كالجهل والتعصب والابتذال والانحياز.

ومن طيب العطاء الرباني أن أوجد الشيء وأوجد ضده، كالصحة التي يقابلها المرض والحياة التي يضادها الموت، وكل الوحدات تشكل انسجاما وتناغما يثرى به الوجود، وفي هذا حكمة حياتية قال فيها جلاله “ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك” -آل عمران-، فالألم فردة من فردات الوجود التي تلزمنا وكما قلنا إنه “لغة إنسانية” لا نجرؤ أن نقيسها ما دمنا لا نستطيع أن نقيس آلامنا بل هذا يغدو غير ممكن، ولا يوجد سوى اختيار واحد عند ملاقاته إمّا أن نعيش بسوداوية النفور منه وعدّه شرا! -وهذا ليس إلّا بالاعتقاد المتعجّل والغلط- أو أن نتقى بالحكمة ونحسن التصرف والاختيار فيكون كل ألم تعظّما لنا وانتصارا يقينيا.

إننا لحظة الجزع مؤهلون للاعتقاد أننا سنداول حياة الضجر وننجر نحو السأم والقنوط ، فيصبح همنا الوحيد لا فهم الألم بل أن ننحيه جانبا ونحصل على “السعادة”! نعم السعادة كيفما كانت وأينما حلّت كأن نهرب من الشائكة الأسرية لمناولة الآفات ونجد في اللذة العابرة نشوة واستجماما للنجاة من “الكابوس”.

إلا أن ذلك لن يتسبب إلا في المزيد من التعاسة والشقاء، فاللّذات المؤقتة تنتهي بزوال مفعولها، وفي ذلك خسارة لنا، أو قد يكون الاختيار أكثر جرفا حينما نلجأ إلى قبر ذواتنا وتحطيمها والعمل على نزع الخير منها، وهكذا وإن اختلفنا في تعاطينا للألم إلا أنه بهذه الشاكلة لن يقّر إلا بجهلنا، فالواجب يدعو دوما أن يكون كل ألم انتصارا لا انكسارا لنا وهذا يتحقق حينما نعاين الأمور بحكمة. الألم لحظة من لحظات العظمة، إذا استحكمنا فيها غدت سعادتنا، وإذ احتقرنها واستحكمنا إليها واعتقدنا في سأمها عكست حياتنا سلبا.

ومن العبث أن تكون تلك اللحظة لحظة استغفال، تخلّف لنا شكلا مرضيا يتسبب في تأزمنا. فكل معايشة للألم بالحكمة تنذر بالحصول على المثل الإنساني الذي يشكل محطة مهمة في حياتنا، وصدقا لا توهّما أن الحياة لا تعاش من دون ألم بل ستكون كئيبة خالية من الكفاح أو البحث فحياة الرسل والحكماء والأبطال سطّرتها المحن ولم تسطّرها الأعياد ولا المفاخر البلاستيكية حتى أن أعذب القصائد كتبها الألم، والوطن الذي سجل كرامته بدماء أبطاله الأمجاد.

وقد أتحفنا الحكيم “بوذا” ( 577. 522ق.م ) ببحثه في “سجيل الألم” وهو يرى أن الوجود مكتظ بالمأسي والهموم، بل الحياة كلها تلخّصت له في كلمة واحدة هي الألم ، ولا سبيل لمغالبتها إلا بالتهذيب الأخلاقي ونيل المجد الفلسفي، فالتفلسف نعمة لا تقاس بما تصيبه فينا من حقائق وما تبعده عنا من أوهام واختلاطات لذلك يجب أن نمر حسبه بمسلك ذو ثمان ممرات نلخصه في:

يجب أن نعتقد بحكمة ونقدر بحكمة ونقرر بحكمة ونتكلم بحكمة ونفعل بحكمة ونحيا بحكمة ونطبق بحكمة ونتأمل بحكمة.

هذا ما يجعلنا نحصل على” النرفانا”، أو الخلاص من شائكة الوجود الدامي بدل أن نعيش “الكارما” أي العذاب. من المتواصل من يستطيع أفضل من الشهيد “سقراط” ( 427 .347 ق. م ) أن يمثل جليلة عنوانها “الحكمة سعادتنا” رغم ما تعرض له من فقر واضطهاد وأذى جراء أفكاره النقدية التأملية، التي لم يخش أن يعزّزها في محيا طلابه ويرشدهم إليها لاتباع طريق الفضيلة والتعقل وممارسة البحث في المفاهيم والتصورات.

ولم يتوقّف عند هذا الحد فقد نقد أيضا النظام الأثيني بمظاهره الاجتماعية من عبادة الأوثان وتقديسه للرؤساء، ومادام أن صوت الحقيقة يهابه دوما الفاسدون وأصحاب النفوس الملوثة التي تخاف على مصالحها، امتثل سقراط في المحكمة، و فرض عليه خيارا من خيارين إن هو التزم الصمت وتخلى عن أفكاره سينجو، وإن هو استمر في دعاويه سيقتل واختار الشهيد الموت. هذا مؤلم أليس كذلك! لكنه لم يكن مؤلما كألم التخلي عن الحكمة التي آمن بها أشد من إيمانه بالحياة، فالحياة من دون حكمة عزاء. و لم تكن مفارقته لأسرته وتلاميذه خاصة “أفلاطون” كألم أن يخضع للجهلاء ويتضرع لهم، و قبل أن يتجرّع السم سأله أحد الرفاق في ما معناه “ما هو الشر يا سقراط؟ فأجابه: حينما يكون الشعور باللذة أو الألم هو الأكثر قوة وتتصور الروح أن الأهداف لهذا الشعور هي الأحق!”.

فحقيقة الألم إذا بعيدة كل البعد عن مأثره، بقدر ما هي اختبار لعزيمة الإنسان وقوته وقدرته على الصبر والرفع بذاته، والحكمة صديقة وفية لا تخون تقي النفوس من الانفعالات والردود المستعجلة. ونحن لن نحاول أن نكون سقراطيين بقدر ما يجب أن نبحث عن حقيقة الألم والسعادة وغيرها من المفاهيم، دون ربطها بدوافعها، فما قيمة السعادة إذا حضرت في اللذات العاجلة! وما قيمة الألم إذا لم يكسبنا عظمة!

قاتم جدا أن نعيش قانطين مستظلين في طريق الذعر منفلتين، والأشد قتامة أن تكون آلامنا هي الحقيقة الوحيدة دوننا، إذ أن المقاصد الإلهية إتاحة دوما للسماحة البشرية أن تكسب الحق الذي يعينها على الصبر والانشداد ومتى أصبنا الحق رمينا بثقل الوهم، ذلك الثقل الكبير الذي يعيقنا، والحقيقة دوما شيء آخر غير ما يقدّمه لنا عبث الجهل بل شيء يتطلب الألم.

من: شيماء زيتوني – طالبة سنة أولى ماستر فلسفة عامة.

تدقيق لغوي: عمر دريوش.

كاتب

الصورة الافتراضية
SuperBlueDOT
المقالات: 0

4 تعليقات

اترك ردّاً