في النسخة الخامسة والأربعين من حفل تقديم جوائز الأوسكار، عند بلوغ فئة أحسن ممثل بدور رئيسي، والتي كانت واضحة معالم الفوز المحقق لـمارلون براندو عن دور فيتو كورليوني في فيلم العراب (1973) -سنة ترشحت فيها عديد الأسماء القوية أبرزهم بيتر أوتول ومايكل كاين-، مباشرة بعد إعلان إسم “مارلون براندو” تحت تصفيقات الحضور وصوت موسيقى العراب الشهيرة في المسرح، تفاجأ الجميع بصعود فتاة أخرى بدلا عن براندو، فتاة ترتدي ثياب الهنود الحمر، رفضت استلام الجائزة رافعة يدها، اقتربت من الميكروفون، وخطبت قائلة:
“مرحبا، اسمي ساشين ليتلفيذر، رئيسة منظمة الحفاظ على تراث الهنود الحمر، أنا هنا لأمثّل مارلون براندو في هذه الأمسية، لقد طلب مني اخباركم بخطاب طويل لا يمكنني مشاركتكم إياه الآن بسبب الوقت، لكن سيكون من دواعي سروري مشاركته مع الصحافة بعد انتهاء الحفل، إنه -بكل أسف- لا يمكنه قبول هذه الجائزة السخية، سبب هذا الفعل هو المعاملة المشينة للهنود الأمريكيين من قبل صناع الأفلام، اعذروني…، وكذلك الأحداث الحالية بووندد ني – Wounded Knee*، آمل ألا أكون قد تطفلت على أمسيتكم هذه، و أن تلتقي قلوبنا وبصيرتنا في المستقبل مع الحب والمروءة، شكرا لكم بالنيابة عن مارلون براندو”.
تباينت ردود فعل الحاضرين في الحفل، إذ صفق البعض، واستهجن كلامها البعض الآخر. وتم نشر الخطاب الخاص ببراندو بجريدة النيويورك تايمز في اليوم الموالي، وكان كالآتي:
“طوال مائتي سنة، قلنا للشعب الهندي الذي يقاتل من أجل أرضه وحياته وعائلاته وحقه في أن يكون حرا: ”ألقوا أسلحتكم أرضا أصدقاءنا، وبعد ذلك نبقى سويًّا. إذا ألقيتم أسلحتكم أرضا أصدقاءنا، حينها فقط يمكننا التحدث عن السلام والتوصل إلى اتفاق يكون جيدا بالنسبة لكم”.
عندما ألقوا أسلحتهم، قتلناهم. كذبنا عليهم. سلبناهم أراضيهم. ودفعناهم لتوقيع اتفاقيات محتالة أطلقنا عليها “معاهدات”، والتي لم نحترمها أبدا. لقد حوّلناهم إلى متسولين في قارة أعطت الحياة طوال ما أمكن للحياة أن تتذكر. وبأي تأويل للتاريخ، مهما كان محرّفا، فإننا لم نفعل الصواب. لم نكن قانونيين ولا كنا في ما فعلناه فحسب. بالنسبة لهم، ليس علينا إعادة هؤلاء الناس، ولا علينا أن نفي ببعض المعاهدات،لأنها مُنحت لنا بحكم قوتنا في مهاجمة حقوق الآخرين، والاستيلاء على ممتلكاتهم، وأرواحهم عندما يحاولون الدفاع عن أرضهم وحريتهم، وجعل فضائلهم جريمة ورذائلنا فضائل.
ولكن هناك أمر واحد بعيد عن متناول هذا الانحراف، وهو الحُكم الهائل للتاريخ [علينا]. والتاريخ سيحكم علينا بكل تأكيد، ولكن هل نهتم؟ أي نوع من الفصام الأخلاقي هو ذاك الذي يسمح لنا بالصراخ بأعلى صوتنا الوطني لجميع العالم ليسمع أننا نفي بالتزامنا، عندما تكون كل صفحة من التاريخ وكل الأيام والليالي العطشة، الجائعة، والمذلة من المائة عام الماضية في حياة الهندي الأمريكي، تناقض ذلك الصوت؟
يبدو أن احترام المبدأ وحب الجار قد أصبحا معطلان في بلدنا هذا، وأن كل ما قمنا به، وكل ما نجحنا في تحقيقه بقوتنا هو ببساطة إبادة آمال الدول حديثة الولادة في هذا العالم، وكذلك الأصدقاء والأعداء على حد سواء، أننا لسنا إنسانيين، وأننا لا نلتزم باتفاقياتنا.
ربما في هذه اللحظة أنت تقول لنفسك ما علاقة كل هذا بجوائز الأوسكار؟ لماذا تقف هذه المرأة هنا، تفسد أمسيتنا، تغزو حياتنا بأشياء لا تعنينا، ولا نهتم بها؟ تضيع وقتنا ومالنا وتقتحم منازلنا.
أعتقد أن الإجابة على هذه الأسئلة المُسَّرة هي أن مجتمع الفن السابع لطالما كان مسؤولا مثل أي شخص عن إهانة الهندي والسخرية من شخصيته، واصفاً إياه بالمتوحش والمعادي والشرير. من الصعب كفاية على الأطفال أن يكبروا في هذا العالم. عندما يشاهد الأطفال الهنود التلفزيون، ويشاهدون الأفلام، وحينما يرون عِرقهم يصوَّر بالطريقة التي هي عليه في الأفلام، تتأذى عقولهم بأشكال لا يمكن أن نعرفها أبدا.
في الآونة الأخيرة كانت هناك بعض الخطوات المتعثرة لتصحيح هذا الوضع، ولكنها متعثرة جدا وقليلة للغاية، لهذا، كعضو في هذه المهنة، لا أشعر أنني أقدر كمواطن أمريكي قبول جائزة هنا الليلة. أعتقد أن الجوائز في هذا البلد بهذا الوقت غير مناسبة ليتم استلامها أو منحها حتى يتم تغيير حالة الهندي الأمريكي بشكل كبير. إذا لم نكن حارسا لشقيقنا، على الأقل دعونا ألا نكون جلاده.
كنت سأكون هنا الليلة لأتحدث إليكم مباشرة، لكنني شعرت أنه ربما يمكنني أن أكون أكثر إفادة إذا ما ذهبت إلى ووندد ني – Wounded Knee* للمساعدة في إحباط -بأي طريقة أقدر عليها- إقامة سلام مخزٍ، طالما تجري الأنهار وينمو العشب.
آمل ألا ينظر المستمعون إلى هذا الأمر على أنه تدخّل وقح، ولكن على أنه جهد جديّ لتوجيه الانتباه نحو قضية قد تحدد جيدا ما إذا كان يحق لهذا البلد أم لا، أن يقول من الآن فصاعدا أنه يؤمن بالحقوق غير القابلة للمصادرة لجميع الناس على البقاء أحرارا ومستقلين في الأراضي التي دعمت حياتهم منذ ما وراء الذاكرة الحية.
شكرا لكم على لطفكم ولباقتكم مع الآنسة ليتلفيذر. شكرا وتصبحون على خير.”
الأوسكار هو أرقى جائزة في العالم السينمائي، يحلم بها كل ممثل، هاوٍ كان أو مخضرم، لكنها لم تغر مارلون براندو أبدا، واعتبرها فرصة قوية في إيصال معاناة الهنود الأمريكيين لأكثر من 80 مليون مشاهد للحفل. خلال مقابلة له في أحد البرامج التلفزية قال:
لم يكن للهنود الأمريكيين أي فرصة من قبل لإسماع أصواتهم أبدا بتاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، شعرت أنها فرصة قيّمة ليكون للهنود فرصة لإسماع صوتهم لما يقارب 285 مليون مشاهد، أعتقد أن الرقم كان كذلك، شعرت أن ذلك كان من حقهم، نظرا لما فعلته هوليوود بهم،… ، أظن أن الغالبية لا تستوعب حقيقة ما فعله صناع الفلم بالهنود الأمريكيين، بل في الواقع كل المجتمعات العرقية، الأقليات وغير البيض، ويعتقدون أن تلك التقديمات بالأفلام أمر افتراضي،… ، لا يستوعبون حتى أن تلك الأفعال جارحة لشخصهم.
من الجدير بالذكر أن عدة ممثلين خلال الستينات والسبعينات استغلّوا ظهورهم في حفلات الأوسكار السنوية من أجل تمرير رسائل سياسية أو الدفاع عن قضايا حقوقية يؤمنون بها.
يعتبر العراب لحد الآن أحد أعظم الأفلام السينمائية في التاريخ وأكثرها تأثيرا، مصنفا كثاني كأعظم فلم في تاريخ السينما الأمريكية بعد فلم “المواطن كين”من قبل معهد الفلم الأمريكي.
*ووندد ني – Wounded Knee: نسبة إلى جدول ووندد ني (تعني حرفيا الركبة الجريحة) في داكوتا الجنوبية بالو.م.أ، حدث قرب الجدول في 1890 مجزرة شهيرة، قتل فيها بين 150 و300 شخص من هنود قبيلة لاكوتا نصفهم أطفال ونساء من قبل جنود من الجيش الأمريكي.
في عام 1973، قام مجموعة ناشطين ينتمون للحركة الهندية الأمريكية ومجموعة من قبيلة “أوغلالا” باحتلال مدينة ووندد ني، اعتراضا على فساد الحكومة القبلية الهندية وعلى عدم احترام الحكومة الإتحادية لمعاهدة “فورت لارامي”، وهي الأحداث التي أشير إليها في الخطاب.
نشر الخطاب في جريدة النيويورك تايمز. هنا
فيديو لحظة إعلان فوز مارلون براندو بالأوسكار وخطاب ساشين ليتلفيزر. هنا
مقابلة لمارلون براندو مع برنامج تلفزي. هنا
إعداد: عمر دريوش ونصر الدين بلبكري.