إن الأفلام هي النافذة التي تأخذنا إلى عالم الخيال الذي لا نستطيع الوصول إليه في حياتنا العادية، إنها تنقلنا إلى عالم الحوريات والعمالقة، عالم الحب والعدالة، إنها ببساطة تنقلنا إلى كل ما يصبو إليه قلبنا. وفي فلم “الأمورية مونونوكي” يحلِّق بنا المخرج والكاتب هاياو ميازاكي عالياً في سماء الخيال إلى درجة أننا نجد أنفسنا من جديد في حضن الواقع. ولكنه واقع على الرغم من قسوته ودمويته إلا أنه ناعم ورقيق على النفس.
تبدأ القصة في قرية بعيدة في الشرق، حيث يعيش سكانها في سلام حتى يقوم خنزيرٌ مُستحوذٌ عليه من قبل شيطان بمهاجمتهم. وأثناء مواجهته مع هذا الشيطان يصاب الأمير آشيتاكا بلعنة قاتلة جراء ملامسته للوحش الملعون. بعد قتله للوحش واكتشافهم أن السبب الذي حوّل هذا الخنزير إلى وحش شيطاني هي قطعة من الرصاص كانت مزروعة فيه، تقرر عرافة القرية إرسال الأمير إلى الغرب حيث هناك سيكتشف سر قطعة الرصاص هذه ولكي يلتقي بروح الغابة الذي يمكنه شفاؤه من لعنته القاتلة.
يذهب آشيتاكا إلى الغرب، هذا العالم المتطور والتقني بالنسبة له -القصة تقع في فترة بين القرن الرابع عشر والسادس عشر في اليابان حيث بداية التصنيع ومعامل الحديد- وهناك يرى الحروب والسلب والنهب والفوضى نتيجة الحروب بين الفلاحين والساموراي وقطاع الطرق. وأخيراً يصل آشيتاكا إلى الغابة المقدّسة التي يعيش فيها روح الغابة الذي يبحث عنه. وقرب الغابة توجد قرية صناعية تحكمها امرأة اسمها السيدة أيبوشي, تكرمه وتضيفه في قريتها وتخبره أن قطعة الرصاص التي يملكها هي رصاصة من إحدى بنادقها التي استخدمتها ضد الوحوش التي تعيش في الغابة.
فمع الثورة الصناعية أصبح العُمّال بحاجة لكميات كبيرة من الخشب، ولذلك قامت السيدة أيبوشي بقطع أشجار الغابة المقدسة لكي توفر الوقود لمصانعها. وهذا الشيء قد أغضب وحوش الغابة وسكانها لذلك بدأت حرب بينهم وبين السيدة أيبوشي التي تستخدم أسلحة متطورة من البنادق والمدافع لطردهم من مسكنهم وأخذ الغابة بالكامل لها. ويدرك الأمير الطيب أن الخنزير الغاضب الذي هاجم قريته قد تحول إلى هذا الكيان الشرير من شدة غضبه وحنقه على جنس البشر الذين يدمرون موطنه لأجل أغراضهم الخاصة.
يرى كيفية تعامل السيدة أيبوشي الرقيق مع عمالها وعاملاتها وكيف أنها قد أنقذتهم من الصراع المدمي الذي يدور حولهم ووفرت لهم ملجأ ومكانا يعملون فيه ويكسبون قوتهم. فكل ما تحاول القيام به هو توفير مصادر أوّلية لدفع عجلة الصناعة لكي تساعد عمالها وتجعل حياتهم سهلة.
بعد رؤيته لذلك يلتقي آشيتاكا بالأميرة مونونوكي وهي طفلة بشرية عثر عليها آلهة الغابة عندما كانت رضيعة وقاموا بتربيتها كما لو أنَّها واحدة منهم، فعاشت على نمط حياة الغابة. وللأميرة هدف واحد في وجودها هو قتل السيدة أيبوشي، تلك المرأة الشريرة التي تدمر الغابة وتقتل ساكنيها ولا تلقي أي بال لقدسية الكائنات التي تعيش فيها.
وبمجرد لقاء الأمير بالأميرة يقع في حبها، ويحاول دفعها لترك الحياة في الغابة والآلهة والعودة إلى البشرية حيث تنتمي. وآشيتاكا في صراعه بين احترامه المتفاني للطبيعة والآلهة وبين تقديسه للحياة البشرية وحريتها لا يتخذ أي جهة في هذا الصراع بل يحاول كل جهده أن يجعل الطرفين يتحدَّثان أو يتصالحان معاً. فيبقى الفلم يتابع محاولاته في التوفيق بين الغابة والمدينة وصراعه من أجل إجلاسهم على طاولة حوار واحدة.
إن هذا العمل المليء بالوحوش والذئاب والآلهة قد يبدو خياليّاً وربما يحوي نوعا من الحنين للطبيعة وحياة العصور الوسطى، حيث كانت هذه الأشياء موجودة، ولكنه في الواقع واحد من أقوى الانتقادات لنمط حياتنا المتعولم الحديث.
فهذا الفلم يمثل الصراع الذي بدأ بالتنامي في قرننا الحادي والعشرين بصورة مطردة وهو الصراع بين الطبيعة والصناعة. ولكن ما يميّز هذا الفلم هو أن ميازاكي لا يأخذ طرف الطبيعة والنقاء وكل هذه التعابير التي يتلف حولها المثقفون والفنانون في نقدهم للمكننة الحديثة لنمط حياتنا وزحف المنشآت الصناعية على الغابات والطبيعة مدمرة كوكبنا العزيز. هو لا يقوم بذلك, فعلى الرغم من نمط الرسم الطبيعي والاهتمام البالغ بتصوير الطبيعة في هذا الفلم، إلا أن ميازاكي لا يهاجم طرفاً معيناً دون الآخر، بل هو ببساطة يعرض القضية كما هي، دون أحكام مسبقة من أي نوع.
هذا الفلم مليء بالثنائيات التي يعرضها المخرج للمشاهد لكي يقرر أيّها يفضل، أو بصورة أدق في أي نوع من المجتمعات يُفضِّل أن يعيش.
يرسم المخرج لوحة من الدعوة للتعايش السلمي بين الأطراف التي تقف على جهات متضادة، ولكنه يفعل ذلك بطريقة فريدة من نوعها. فبدل محاضرات وقصص التآلف التي تعودنا عليها والتي تحثنا على احترام الرأي المخالف وتفهم بعض حججه واحترام قراراته التي يتخذها. فإن ما يعيب هذه الطريقة هو نوع من الاحتقار الجوهري المرتبط بهذا النوع من الخطابات الذي يُظهِر الآخر على أنه الساذج الغير منطقي الذي يؤمن بأشياء وهمية ولكننا أناس جيدون وواعون، لذلك سنتعامل معه كتعاملنا مع المجنون ونسايره في لعبته ولا نمنعه من ممارسة أفكاره غير المنطقية.
ميازاكي يذهب عكس ذلك بالضبط، فهو يعرض وجهة النظر الأولى ويدافع عنها بقوة، ويبيّن لك لما هي وجهة النظر الوحيدة الصحيحة، ثم بعد ذلك ينقلك إلى وجهة النظر الثانية، ويريك أفكارهم ويعرضها كما لو أنها حقائق مطلقة وهي الصحيحة، وهكذا يستمر بنوع من الدوران بين هاتين الوجهتين وأنت كمتلقي سلبي ستضطر عند وصولك إلى منتصف الفلم تقريباً إلى نزع كل أفكارك والتوقف عن الدفاع عن فكرة معينة ومراقبة كلتا هاتين الفكرتين تنموان بشكلٍ متوازٍ جنباً إلى جنب.
ويستمر هذا النوع من الثنائية حرفياً إلى آخر لقطة في الفلم، كي يمكنك بعد مشاهدة الفلم أن تحدّد -بعد رؤيتك للفكرتين بشكل كامل- أن تحدد أين تقف في هذا العالم.
فالبطل آشيتاكا قد أصيب بلعنة جراء التحامه مع كيان من الغرب، كيان غاضب وقوي. وهذا الشيء سوف يقتل البطل ولكنه في نفس الوقت يمنحه قوة جسدية عظمى. وهذا السم المستشري في داخله ينتشر أسرع كلما كان هناك كراهية وغضب من حوله، وهنا التناقض فكلما كان هناك كراهية وصراع من حوله ازداد آشيتاكا غضباً وأصبح أقوى وبقوته يمكنه حل هذا النزاعات وفضها.
فهذا المس الشيطاني الغربي المصاب به آشيتاكا يمثل النمط الغربي الاستعلائي في التعامل مغ الحياة في عصرنا الحاضر، فإن كنت شخصاً عادياً وبسيطاً مثل آشيتاكا في السابق ستضطر لمشاهدة الكراهية والحقد من حولك ولا يمكنك القيام بأي شيء لمنعها. والطريقة الوحيدة لمنعها هو أن تنخرط في نمط الكراهية هذا مما يمنحك القوة لوقف هذا النزاعات، ولكنك قد تخاطر بأن تصبح أنت جزءاً من المشكلة ذاتها.
إن التقرير بين الأميرة مونونوكي التي تريد الحفاظ على منزلها وعائلتها، أن تحافظ على غابتها وطبيعتها أم السيدة أيبوشي التي تريد أن توفّر حياة جيدة لعاملاتها وعمالها وتبعدهم عن الموت أو حياة الذل التي تنتظرهم خارج هذه القرية الصناعية.
فنحن هنا نقف أمام مفترق طرق بين حياتنا وحياتهم. وأياً كان الجانب الذي نختاره فهو خاطئ.
تدقيق لغوي: عمر دريوش