همسُ الكلمة:
أمّا قبل
“في البدءِ كانت الكَلمَة”(1)، وبعد الكلمة كان التدوين..
“نُ والقَلَمِ ومَا يَسْطُرُونْ ” (2) آيةٌ منَ السَماء تشهدُ بأنّ تسْطِير الكَلمة هو تمجيدٌ لها، هو حُكمٌ من الله فيها وربّما روحٌ منه نفخت أيضًا..
أمّا بعد
لطالمَا حَملَت الكلمة معانٍ أكبرَ من معانيها، نصٌ وحيدٌ للعرّاف، لكن لكلِ قارئٍ تأوِيل..
أن تكتبَ يعني أن تضعَ شيئًا منكَ في الكلمة ولو تواريًا عن أنظارِ القُراء وتحتَ وطأةِ “الموضوعيّة ” و ” الحياد “.. أن تدوّن يعني أن تحُوم حولَ كعبةِ الفِكرَة وتُحاوِل لمسَ حَجَرِها الأسود بقدرِ المُستَطاع الذي تملِكهُ؛ قد تُجانبُ الخَطـأو ربمّا تغُوصَ فيه، قد تنغَمسُ في الصحيح أو ربّما تُحاذِيه، تتعالى وتحسَبُ أنّ رأي الغيرِ لا يُهمُك في حين أنّه يأكلُ قلبَك وتفكيرَك وخواطِرك..
مع بعض التحريف تصيرُ “الأفكارُ صيداً والكتابةُ قيداً ” لكن ماذا بعد هذا القَيد؟
ستطوقكَ الأفكارُ التي اصطدتها، تدور بك مدارَ الأرضِ حول شمسِها، مدارَ الصوفّي حول نفسِه، مدارَ الباحثِ حول حقيقته، مدارَ القلبِ حول ربّه.. ثم تترككَ لهواجسكَ ومعتقداتكَ تسوّي نوازعكَ معها، وتساومُ عليها وتتبنى غيرها.. فهل لك قدرةٌ على تحملِ قيدها؟
درويشُ(3) يرثي حالكَ ويهونُ عليك بكلماته: ” أَنا مَنْ تَقُولُ له الحُروفُ الغامضاتُ: اكتُبْ تَكُنْ ! واقرأْ تَجِدْ “
فهل تُراك كنتَ أو تراك وَجَدت؟..
طقوسك خاصةٌ بك، لوحةُ مفاتيح على هاتفٍ أو حاسوب مع خيالٍ خصبٍ وفكرةٍ تراودُ تفكيركَ عن نفسها، وقد تكون في ظروفٍ أخرى كتنفسُ صُبحٍ مع مزاجٍ بفنجان قهوةٍ ساخنة، موسيقى كلاسيكية أو صوتٍ فيروزي يملأ المكان بعبقٍ دمشقيّ أو ربمّا ولهٍ كلثومي يطوفُ بك بين أبياتِ الشِعّرِ العربي..
يسألُ أحدُهُم هل هذا مهمٌ حقًا؟ يجيبُ آخر هي مجرد “إيتيكات ” تندرجُ تحت ما يُسمى “ثقافة “، لا تُحبُ هذه الكلمة؟ أنا أيضا لا أُحبها في غير موضِعِها!
كيف نُحب كلماتٍ ونكرهُ أخرى؟
درويش يهمسُ لي من بين أطرافِ القصيدة : “وإذا أردْتَ القَوْلَ فافعلْ” هذا ما يمكنني أن أسميه ” ثقافة ” فهل توافقني؟..
همس المعنى:
أترى أين أوصلنا قيدُ الفكرة، وخيوطُ الكلمة؟
هذا ما يُسمّى مجدَ الكتابة، أن تحسِبَ أنكَ تكتب دون أن تفكر فيما تريد أن تكتبه كشيء من الإلهام، لتصل إلى أنّ كُلّ ما كتبته وليدُ ما فكرت فيه كشيءٍ من المعرفة.. فالكلمةُ توأم الفكرة..
أي تناقُضٍ هذا الذي تكتبه؟ ما المعنى وراء كل هذا المعنى؟
أقول لك افتحْ آذانَك تَسمَعْ درويش يُوحِي إليك من وراء سِترٍ خَفيّ:
“يَتَّحِدْ
ضدَّاكَ في المعنى..
وباطِنُكَ الشفيفُ هُوَ القصيدُ “
فهل فهمتَ الآن قَول العرّاف؟
قي البدء كانت الكلمة.. وفي الختام أيضاً كانت الكلمة، تُرى هل تستويان مَثَلا؟..
ما بعد الختام :
هل تملك عينًا ثاقبةً كعين زرقاءِ اليمامة؟ لا تقلق لا أريد منك أن تُميّز لي شيئًا بعيد المنال!
ألم تلاحظ أنني لا أضعُ نقاطً حاسمةً في آخر الجمل (.) وأضع غيرها نقطتين (..)، ذلك أنّ للحديثِ دومًا بقية، وتأويلٌ واحدٌ لا ينفعُ للعيش، تخيّل أننا جميعًا_دون إستثناء_ نملكُ فكرةً واحدةً ندور حولها، كم سيكون العالم رتيبًا ومملًا لو حدثَ ذلك.
لست هنا لأُربكك بتساؤلاتي، فلا سلطة لي عليك، فأنا مجرد قارئٍ يحاولُ أن يكتب، للنَصِ فقط سُلطته إن هو أتقنها..
وتذكر همس الشاعر الذي يقول:
“النصُ للعرّافِ.. والتأويلُ لي
يَتشَاكَسانِ هُناكَ.. قَالَ و فَسّرَا” (4)
هامشٌ تمرّد على السُطور:
عامٌ على التدوين، عامٌ على اصطياد الأفكار ورصفِ الكلمات، عامٌ على الرفقة والصداقة، عامٌ على المشاركة بالحرف والكلمة عامٌ مع النقطة.. لسنا وصايا على ذائقة أحد لكننا نحاول أن نوجهها نحو الأفضل حيث تبقى لكل قارئ السلطة الأولى والأخيرة فيما يقرأهُ..
أستعير قلم كارل ساغان وأعتذر منه مسبقًا على بعض التحريف الذي سيطال مقدمة كتابه “نقطة زرقاء باهتة ” لأكتب ما أردت كتابته من أول كلمة في هذا النّص، فلا شيء كفيل بما أريده غيرها:
“من نقطةِ النظرِ البعيدةِ هذه، قد لا تبدو لمنصات التدوين(5) أيّةُ أهميةٍ خاصة. ولكن بالنسبةِ لنا الأمرُ مختلف. أعد النّظر لتلك النقطة:
إنّها هنا!
إنّها الوطن!
إنّها نحن!
إنّها نقطة.. نقطتنا.. النقطة الزرقاء.. “
اجعل العالم مكانًا أجمل..
هوامش :
(1) إنجيل يوحنا (1;1) (في البدء كان الكلمة)
(2) سورة القلم الآية 1 و 2 .
(3) جدارية محمود درويش .
(4) محمد عبد الباري من قصيدة “ما لم تقله زرقاء اليمامة “
(5) النص الأصلي : قد لا تبدو للأرض أية أهمية *
تدقيق: ميّادة بوسيف.