كيف تُسخِر نفسّكْ لقِواك؟!
ما قولك لو حدثتُك الآن بأن عقلي الباطن سيُحاورِك على لسانه، وبما يدور حوله مِن هالة يقبع وراءها قوى عُظمى ما عليك إلا أن تجد لها مساراً ما لتطويعها؟! حينها ستقول عني أبلهاً بالتأكيد، لكن من قال لك بأن معشر العُقلاء لا ينوون مرةً بأن يُمثلهم أحد يُريد يوماً أن يتربع على عرش الجنون؟
من خلال ما تُقدمه لك عملية تحرير الكتابة هذه، سترى عقلي الباطِن مُتخفياً وراء السطور، وستكتشف الدور الذى قد لعبه فى النهاية، فما كان دوري إلا أنني وجدت له منفذا لإطلاق سراحه، مع جميع القوى القابِعة في أعماقه، والتي تتشارك مع عاملي الخيال والتأمُل اللذين ينشطان بدورِهما حين إعمال العقل النشط (الوعي) لتخرج لك الكلمات بالصورة هذه!
أعلم أن الصورة التي تبدو لكم الآن ما زالت تتأرجح عِند البعض ما بين الإدراك الجزئي، وعدم الإدراك الكُلي، وما عليّ الآن سوى شحذ أسنّة الخيال، وأنتقي عن روث بحُيرات العقل الباطن الراكِدة لأصطفي مِنها ماءً عذباً يصلح للشُرب حتى يصلك ما أعنيه بوضوح.
بدايةً تأتيني الفِكرة الآن، وهي كيفية تطويع قوى العقل الباطن، فأبدأ بخلفية التجارب التي نقهتني، ثُم أنبُش في قبور ذاكرتي عن قيادة في مُمارسة كان وراءها عقلي الباطن. وقد وجدتُ أخيراً مُحرِك القيادة، وقد تمثّل في أن العقل الباطِن كان يتولّى على مدارات الساعات اليومية عملية تنظيم الكتابة؛ فكُنت حينما أود أن أكتُب أكتشف أن عقلي الباطِن كان يحادثني على الورق، دون حتى أن أشعُر يوماً أنني أستدعيه!
فقد كان الإمداد يأتي من مكان عبر ترابط النسيج الذى يتبع الكلمة بالكلمة الأخرى؛ فتتكون الأسطُر، فتوحي لك الجُملة الأولى مثلاً أنها من وعاء الذاكرة، ثُم الأخرى التى تعقِبها بأنها جاءت مُتراقصة على حبل مُتصل من مّد الخيال، وقد يدخُل بينهما بزوغ من متاهات العقل الباطن على هيئة كلمات!
فعندما أقول لنفسي على وجة التمثيل بعد أن أستيقِظ من النوم فى الصباح مرةً: “يا له من سّبق سيحدث لي في قدوم الليل حين أكتُب!”، فقد تبدو لكُم الجُملة مُجردة مما تحمله مِن معنى، لكنها ليست كذلك، فقد تقولت بها بشجاعة يهدِف مِن ورائها تحريض كامل قواي حين يجِن علىّ الليل، وفى تِلك اللحظة يتنبه عقلك النشط الذى يُرسلها كخاطرة لمخزون عقلك الباطِن بعد أن مرت على ذاكرتك قصيرة المدى لتسجلها أيضاً.
وقد يحين عليك قدوم الليل دون أن يُرسل أحداً لك بارقة ليدفعك نحو الكتابة، فتنشغِل بعجلة الحياة التى تأخُذك لوجهة أخرى، حتى تصطدم في وقت مُتأخِر بعد أن فُوت عليك ميعاد لحظة الكتابة، فتتذكر فجأة، وتقول “رباه لقد نسيت، مابي حقاً!”، وتِلك هي عطية من عطايا عقلك الباطن، الذي يمدِك دائما ،دون سابِق إنذار؛ لتتذكر ميعاد ما قد فوته على نفسك. ومع ذلك يُحيط عقلك الباطِن بدنياك كامِلة ويُصورها بداخله بأدق التصاوير التى افتعلتها في ساعات يومك، فيمنح لك استراجعها من ميول ذاكرة حّنت بك نحو لحظة عِشتها بالماضي، ولن يكتفي بذلك فحسب؛ فحين تخونك ذاكرتك التي هي أصلاً في مِحرابه، سيطفو عليك بما كان فوق سطحه عوضاً عنها!
وعليك أن تتذكر أن الأدوار الذى يلعبها العقل الباطِن (اللا شعور – اللا وعي) في حياة المرء اليومية تفوق ما يقوم به العقل (الشعور – الوعي) على نحو أضعاف مُضاعفة. وإن كُنت تريد أن تُميز بين الأفعال التى تأتيك، فهناك فِعل لا يصطحبه تفكير أو تأمُل أو سفر عبر الزمان والمكان بالخيال، ويكون هذا من اختصاص اللا شعور، والعكس أيضاً، ويلزم التنبيه على أن غُرفة التحكُم في مسارات حياتك تكون بأمور صادِرة من اللاوعي الذى له دخل في تشكيل الوعي! عِندما يُملي عليه بما احتويى فى خزائنه من أشياء تُناسب ما يبحث عنه شعورك ووجدانك كما كان في المثال السابق!
ونُنظِم هُنا، أن اللا شعور هو الناقل الحصري لجميع مشاعرك فيدفعك بها دفعاً، ويُؤخرها عن وديان شطح الوعي والشعور، فيأخُذ مِنه ما يتناسب مع أرضه الخِصبة ويدفع مِنه ما يجعل مِن أرضه قاحِلة بفِعل مثارات الكبت الدفينة والغرائز التى تجعل من بني الإنسان على أوجه من التشابة مع جِنس الحيوان.
واللاشعور هو مخزن المهارات التى يميز بها الشخص، فالكاتب مثلاً له جانب مِن الرعايا في تنمية كتابته مِن الذى نماها له عقله الباطِن بواسطة التجارب والتصورات الحياتية التي يحتفظ بها كامِلة، الفضائل والمساوىء مُجمعة، وليس بجانب تفضيلي فقط عن الآخر.
لذا يُسرع البعض إلى معرفة الأسرار الباطنية للعقل الباطِن حتى يكون مُلمِاً بِها، كي يسهل عليه يوماً أن يُوظفها ليتحكم في قواة الخفية، التى تقوم بدور المُخلِص تجاه معاركة مع الحياة حين يكون فى أمس الحاجة للمعونة الروحانية… فيقف على باب الفرج الذي سّد من نوافِذه!
وما على الشخص أن ينتظِر؛ فما مِن دِلالة على توقفه، حتى يتسنى له أن تُحركه أسفار نفسه وخباياها، فقد تطوعت قبل قليل الدخول في مُناخ الكتابة، ووضعت القلم بين إصبعي، حتى هربت الكلمات أمامكم، ففاجئني أنني لم أكُن مُلِماً بها سابقاً، ولا مُعِد إحصاءً عن عددها، أو فيض منسوبها الذى فاق من توقعاتي.. فبدوتُ في هذة اللحظة شارداً، في السباحة التى أخذتني فيها أخيلتي، ونُظم عقلي التي أوزعتني هذة الكلمات، لهذا أبدو مشكوراً على قراري، الذى دفعني للجلوس أمام الحاسوب كي أسطِر، دون أن أنتظر معونه مِن قوي يحسبها البعض خفية، وهي ليست بكذلك أبداً، فالمرء من باب الأصل لا يعرف شيئاً عن نفسه، وإن أراد يوماً ما فعليه أن يكتشفها!
كما كشفت لي هذة الكلمات ما حققته مِن أجلها القوي الباطنية، التي كان قائِدها عقلي الباطِن!