غارنيتي كادوغان، حول حقيقة أن تكون أسودا في الولايات المتحدة الأمريكية.
“ذنبي الوحيد هو لون بشرتي. ما الذي فعلته لأكون شديد السواد والزرقة”
-فاتس والير
“جُلت شوارع مانهاتن متأملا”
-والت وايتمان
بدأ حبي للمشي منذ الطفولة، بحكم الضرورة. مع وجود زوج أم قاسي المعاملة،كانت لدي كل المسببات التي تدفعني للبقاء خارح المنزل، لذا قضيت أغلب الوقت في الخارج – في منزل بعض الأصدقاء أو حفلة في الشارع حيث لا يتوجب وجود القاصرين – حتى يصبح الوقت متأخرا جداً لأستقل المواصلات العامة. لذا كنت أمشي. كان شارع كينغستون، جامايكا، في الثمانينات غالباً ما يكون مرعباً – فعلى سبيل المثال، قد تتعرض للقتل إذا اعتقد تابع سياسي ما أنك قد أتيت من الحي الخطأ، أو حتى إذا اِرتديت اللون الخطأ. فاِرتداء البرتقالي يشير إلى الانتماء لحزب معين وارتداء الأخضر يشير إلى الانتماء لحزب آخر. وإذا كنت محايداً أو قَدِمت من مكان بعيد، فعليك اختيار اللون الذي ترتديه بحذر، فاللون الخطأ في الحي الخطأ قد يعني أنه يومك الأخير. لذا فمن غير المثير للاِستغراب أن يصفني أصدقائي والمارة الليليِّون النادرون بالمجنون، لجولاتي التي أجتاز فيها المناطق السياسية المتحاربة في وقت متأخر من الليل، وأحياناً، أدّعي الجنون، أصيح بكلامٍ عبثيّ غير لازم، عندما أمرّ بتلك المناطق وخاصة المواقع الخطرة منها،كذلك المكان الذي يختبئ فيه اللصوص على ضفاف مجاري الصرف، فيضحك النشالون ولا يلقون بالاً لفتى بزيه المدرسي يتفوه بالترّاهات. أقمت صداقات مع غرباء وتحولت من فتى خجول غريب الأطوار إلى فتى منفتح غريب الأطوار.
كان كل من الشحاذ، البائع، و العامل الفقير من ذوي الخبرة في التجوّل، وأصبحوا بمثابة مرشدين لي في فترة الليل: إذ كانوا على معرفة بالشوارع وأعطوني دروساً حول كيفية التنقل والاستمتاع فيها. تخيّلت نفسي كتوم سوير* جمايكي، تارة أمشي الهوينى في الشوارع لاِلتقاط المانجو المعلقة على ارتفاع منخفض إذ بإمكاني التقاطها من الرصيف، و تارة أُخرى أخرج إلى حفلة شارع حيث أجهزة الموسيقى الصاخبة،كلّ منها مرفق بمكبر صوت يبلغ صوته أعنان السماء. لم تكن تلك الشوارع مخيفة. كانت مليئة بالمغامرة حينما لم تكن هادئة.
هناك بإمكاني الاِنضمام إلى فرقة من الجوالة المتطفلين، الذين يُفوِّتون الباص الأخير بدقائق فقط، بينما نمشي على أقدامنا رافعين إبهامنا للسيارات المارة من أجل توصيلة مجانية لأقرب مناطق مؤدية للمنزل، فنلقي النكات بينما يتجاوزنا الباص تلو الآخر مسرعاً بالقرب منا. أو أضيع في لحظاتٍ من أحلام اليقظة، ودماغي الشاب يتخيل مستقبلاً مختلفاً.كانت الشوارع تمنحني شعوراً بالأمان من نوع خاص، على خلاف المنزل، هناك يمكنني أن أكون نفسي بلا خوف من أذى جسدي. أصبح المشي أمراً منتظماً ومعتاداً وبتلك الطريقة أصبح الشارع منزلي.
كانت للشوارع قواعدها، وأحببت أن أتحدى نفسي في محاولة اِتقانها. تعلّمت كيف أكون منتبهاً للأخطار المحدقة والَمسرَّات القريبة، مُباهياً نفسي بسرد تفاصيل فوّتها أقراني. كانت كنغستون خريطة من التعقيد، وغريبة غالباً من النواحي الثقافية والسياسية وفي نشاطها الاِجتماعي، عيّنت نفسي رساماً لخريطتها الليلية. كنت أعلم كيف أنجو بنفسي من موقف محتدم، وأن أسارع لتبادل أطراف الحديث حينما يُظهر إيقاع مشية ما الود. وكان كل من التقيت بهم تقريباً من الرجال. أن تمشي امرأة وحيدة في منتصف الليل كان أمراً نادر الحدوث كرؤية ساسكواتش*. فتمشية ليلية قد تُعرِّضها لخطر كبير.
أحياناً وأنا أحثّ خطاي في الليل نزولاً من التل أعلى كنغستون، يتملّكني شعورٌ بأن المدينة في وضعية التوقف أو في وضعية التشغيل البطيء للغاية، بينما أنزل كنت أعبر من خلال تقسيمات جامايكا الاِجتماعية. حيث أشق طريقي بحذرٍ، مارّاً بالقصور عند التلال المُطلة على المدينة، والتي تتحوّل في الليل إلى سجادة من الأضواء المبعثرة تحت ستارٍ من النّجوم، بينما أمشي متئداً عند تشعبات الطبقة الوسطى المختبئة خلف جدران عالية من الأسلاك الشائكة، وأمشي مشية متعرجة عبر أحياء من أكواخ الزنك والخشب المصطفة معاً والمائلة كمجموعة مترابطة من راقصي الليمبو. وبينما أواصل نزولي تزداد حيوية حياة الشارع، عدا بعض الأماكن، إذ تُعرف بعض الأحياء الفقيرة بالعنف المسلح والشوراع المهجورة على نحو غريب التي تتميز بها سينما الغرب المتوحش. وأنا على معرفة كافية لتجنبها حتى في منتصف الظهيرة.كنت أجوبها بعد أن يحل الظلام عندما كنت في العاشرة. وفي سن الثالثة عشر كنت نادراً ما أكون في المنزل قبل منتصف الليل وأحياناً أنسى نفسي في الخارج حتى الفجر. فتوبخني والدتي في كثير من الأحيان قائلة : (لماذا تحب الشوارع إلى هذا الحد؟ لقد ولدت في المشفى وليس في الشوارع.)
غادرت جمايكا عام 1996 لاِرتياد الجامعة في مدينة نيو أورلينس، مدينة معروفة باِسم “مدينة شمال البحر الكاريبي”. أردت أن أكتشف – مشياً على الأقدام طبعاً – ماهو البحر الكاريبي وماهو أمريكيّ بخصوصه. هنالك قصور فخمة على شوارع تصطفّ على جانبيها أشجار البلوط، بينما يعم صخب السيارات الأرجاء، ناهيك عن البيوت ذات الألوان البهية التي تجعل المبنى بأكمله يبدو كمهرجان، وأُناس بملابس زاهية يرقصون على الموسيقى التي تعزفها فرق الآلات النحاسية في وسط الشارع، فضلاً عن المطبخ -والنكهات- الذي يتبنى خليطاً من تقاليد الطهي من أفريقيا وأوروبا وآسيا وأمريكا الجنوبية، بالإضافة إلى تلاحم من عوالم قديمة وجديدة، غريبة ومعروفة: من قد لا يود استكشاف ذلك؟
في يومي الأول في المدينة، خرجت للمشي بضعة ساعات للتعرّف على المكان، ولشراء بعض الحاجيات لتحويل غرفة نومي من عنبر سجن إلى مكان رحب. عندما اكتشف بعض أعضاء كادر الجامعة ما كنت أروم إلى فعله، نصحوني محذّرين بتقييد مشيي في الأماكن التي توصف بأنها آمنة للسياح وآباء الطلبة الجدد. فقدموا إحصائيات حول معدل الجريمة في نيو أورلينس. لكن هذا المعدل لا شيء أمام معدل الجريمة في كنغستون، وقرّرت تجاهل هذه التحذيرات حسنة النية. فالمدينة باِنتظار أن تُستكشف. ظننت أن مجرمي أمريكا هؤلاء لا شيء مقارنة بمجرمي كنغستون. إنهم لا يشكلون تهديداً حقيقياً لي. لكن الأمر الذي لم يُحطني به أحد علماً هو أن يتم اِعتباري أنا كمصدر تهديد.
لم أكن مستعداً لأي من هذا. كنت قد قدمت من مجتمع ذي أغلبية سوداء حيث لم يكن أحد قلقاً مني بسبب لون بشرتي. أما الآن لم أعد متأكداً ممن يخاف مني.
بمرور الأيام لاحظت أن العديد من الناس في الشارع بدوا خائفين مني: رمقني بعضهم بنظرة حذرة عندما اقتربوا وعبروا الشارع، بينما تجاوزني آخرون وهم يلقون بنظراتهم علي من الخلف، يتحقّقون من وجودي ثم يسرعون مبتعدين، فتتشبث النساء البيضاوات المسنات بحقائبهن، بينما يلقي رجال بيض التحية بتوتر بالغ، كأن تبادل التحية لسلامتهم: كيف الحال يا صاح؟
في إحدى المرات بعد أقل من شهرٍ على وصولي، حاولت مساعدة رجل علقت عجلة كرسيه في منتصف معبر المشاة فهدد بإطلاق النار على رأسي ثم طلب من أحد المشاة البيض المساعدة. لم أكن مستعدّاً لأي من هذا. كنت قد قدمت من مجتمع ذي أغلبية سوداء حيث لم يكن أحد قلقا مني بسبب لون بشرتي. أما الآن لم أكن متأكدا ممن يخاف مني. لم أكن مستعداً للشرطة بشكل خاص. كانوا يوقفونني عادةً ويُعرضونني للمضايقات، طارحين أسئلة عدّت إدانتي أمراً مسلماً به. لم أحظَ أبداً بما يطلق عليه العديد من أصدقائي الأمريكيين الأفارقة “المحادثة”: فلم يُوجِّهني والدي حول كيفية التصرف في حال أوقفتُ من قبل الشرطة، كيف أكون مُؤدّباً ومُتعاوناً إلى أقصى قدرٍ ممكن، بغض النظر عما يقولون أو يفعلون بي. لذا تحتم علي ارتجال قوانيني بنفسي، كإبراز لهجتي الجمايكية. ذكر جامعتي بسرعة واِظهار بطاقة هوية الكلية “بالصدفة” عندما يطلبون رخصة القيادة خاصتي.
في هذه المدينة ذات الشوارع الضخمة، أصبح المشي عبارة عن مفاوضة معقّدة ومرهقة عادة. كأن أرى امرأة بيضاء تمشي باِتجاهي في الليل فأعبر الشارع لطمأنتها. أو أكونُ قد نسيتُ شيئا ما في المنزل لكني لا ألتفت فوراً إن كان هنالك شخصاً ما ورائي، لأني اكتشفتُ أن الرجوع إلى الخلف بسرعة قد يعني التسبب بحالة ذعر. (كان لدي قاعدة أساسية: حافظ على مسافة آمنة مع الناس الذين قد يرونك كمصدر تهديد. إذا لم أفعل، قد أُعرض نفسي للخطر.)
بدأت نيو أورلينس تبدو أخطر من جمايكيا. كان الرصيف كحقل ألغام، وكل حالة نفور أُقابلها بضبط للنفس كانت تقلل من كرامتي. بالرغم من جهودي، لم تكن تلك الشوارع آمنة بشكل مريح أبداً. حتى تحية بسيطة قد تثير الشبهة. في إحدى الليالي، كنت عائداً إلى المنزل، كان قد مضى ثمان سنوات على وصولي، حسبت أن لدي الحق لأسمي تلك المدينة موطني بعد كل هذا الوقت، لوحت لشرطيٍّ يقود بالجوار. بعد لحظات، كنت مُكبَّلاً بالأصفاد أمام سيارته. عندما سألته لاحقاً -بخجل، بالتأكيد، فأي طريقة أخرى كانت قد تعرضني للضرب- عن سبب احتجازه لي، قال بأن تحيتي له قد أثارت الشبهة لديه. فقال مُوضِّحاً “لا أحد يلوح للشرطة” عندما أخبرت أصدقائي عن رد فعله، كان تصرفي هو ما وجدوه غير معقولٍ وليس تصرفه. قال لي أحدهم “لماذا قد تفعل أمراً أحمقاً كهذا؟”. “أنت أذكى من أن تتعامل مع الشرطة.”
بعد عدة أيام من ذهابي في زيارة إلى كنغستون، اِجتاح إعصارُ كاترينا مدينة نيو أورلينس مُسبِّباً الدمار. لم أكن قد غادرت بسبب العاصفة ولكن لأن جدتي بالتبني بيرل كانت تحتضر بسبب السرطان. لم أكن قد تجولت في هذه الشوارع لثمان سنوات منذ زيارتي الأخيرة، والآن عدت إليهم خاصة في الليل، الوقت الذي وجدت أنه الأفضل للتفكير والصلاة والبكاء. مشيت لأشعر بغربة أقل -عن نفسي، وأنا أصارع ألم رؤية جدتي تحتضر من المرض، وعن منزلي في نيو أورلينس، وهو خرب تحت المياه ومهجور على مايبدو، وعن موطني الذي يبدو الآن غريباً بالنسبة لي، خاصة بسبب حميميته الطفولية.
كنت مندهشاً، كم بدت تلك الشوارع مألوفة. هنا الزاوية التي كان يرتطم فيها أنفي برائحة طبق جيرك شيكن الجمايكي، وأنا أستمع للحديث الدافئ ورسالة السلام والحب من إذاعة “Greetings” لهالف بينت من مكبر صوت صغير لكن قوي من على مسافة نصف ميل على الأقل. وهنا كان حائط متجر الحي، مزداناً بألوان الديانة الرستفارية* الأحمر، الذهبي، الأخضر مع صورٍ لأبطال محليّين وعالميّين مثل بوب مارلي، ماركوس كارفي، هايلي سيلاسي. مجموعة من الأولاد يتكئون عليه ويتبادلون الضحكات والسخرية، وجوه مختلفة، قصص متشابهة.كما اندهشت من إحساس الأمان الذي مدتني به تلك الشوارع، مُجدداً، شخص أسود وسط العديد من السود، لم تعد هناك حاجة لتوقع الطرق العديدة التي يمكن أن يثير فيها حضوري الخوف أو أن أقوم بإيماءات جسدية مُطَمئِنة. مرور سيارات الشرطة كان مجرد أمر عادي مجدداً. قد تكون الشرطة الجمايكية عنيفة، لكن لم يكونوا يتخوفون مني مثل الشرطة الأمريكية. يمكنني أن أكون غير مرئي في جمايكا بطريقة لا يمكن أن أكونها في الولايات المتحدة. أعاد المشي إلي إمكانيات أعظم. ولم المشي؟ إن لم يكن لخلق إمكانيات جديدة؟ باِتباع السرندبية (اكتشاف الأشياء بالصدفة، دون تخطيط) *أضفت طرقاً جديدة لخرائطي الذهنية التي رسمتها من المشي الدائم في تلك المدينة من الطفولة وحتى بلوغ سن الشباب، راسما التغييرات التي طرأت على المسارات القديمة.
أخبرني مرشد ذات مرة أن السرندبية هي طريقة لادينية لوصف النعمة، هي نعمة غير مستحقة. إذاً من وجهة نظر لاهوتية فإن المشي فعلٌ إيماني. المشي بعد كل هذا هو سقوط متقطع. نرى، نسمع، نتحدث، نثق بأن كل خطوة نخطوها لن تكون الأخيرة، لكنها ستقودنا إلى فهم أعمق لأنفسنا والعالم.
في جمايكا، شعرت مجدداً بأن الهوية الوحيدة التي تهم كانت هويتي أنا، وليس الهوية التي قيدني بها الآخرون. تجولت داخل نفسي الأفضل. قلت -كما قال كيركيغارد- ” لقد سِرتُ بنفسي نحو أفضل أفكاري”.
عندما حاولت العودة إلى نيو أورلينس من جمايكا بعد شهر، لم يكن هنالك رحلات جوية. فكرت بالطيران إلى تكساس حتى أتمكن من العودة إلى حيي حالما يعاد فتحه للسكن، لكن عمتي بالتبني، ماكسين، لم تعجبها فكرة عودتي إلى منطقة الإعصار قبل نهاية موسم الإعصار، أقنعتني بالبقاء في نيويورك بدلاً من ذلك. (ولتقوية موقفها أرسلت لي مقالة حول مواطنين من تكساس كانوا يبتاعون الأسلحة لأنهم كانو خائفين من تدفق للسود من نيو أورلينس.)
لم يقنعني هذا: أردت أن أكون في مكان حيث يمكنني أن أتجول على قدمي، بشكل دقيق أكثر، مواصلة الاستمتاع بسلوان المشي ليلاً. وكنت مُتحمِّساً لاِتباع الخطى التي سارها الكتاب والشعراء والروائيّون وهم يتجولون في المدينة قَبلي – والت وايتمان، هيرمان ميلفيلي، ألفريد كازين، إيليزابيث هاردويك. كنتُ قد زُرت المدينة من قبل، لكن في كل رحلة كنت أشعر كما لو أنَّها جولة في سيارة رياضية. رحبت بفُرصة التجوال. أردت أن أمشي إلى جانب طيف وايتمان و“أنزل إلى الأرصفة، أتحد مع الزحام، وأحدق معهم.” فغادرت كنغستون، وأصداء عبارات الوداع الجمايكية تتردد على مسامعي: “تمتع بمشيك” “رافقتك السلامة في رحلتك”، بعبارة أُخرى، حظاً موفقاً في مساعيك.
وصلت إلى مدينة نيويورك، وأنا على أهبة الاِستعداد لأنسى نفسي وسط “حشود مانهاتن وجوقتهم الموسيقية المشاغبة!” أسرتني مشاهد المدينة. مشيت نحو وسط المدينة وناطحات السحاب في الشوارع تطلق طاقتها مثل الأشخاص الحيويين في الشوارع، ثم تقدمت نحو الجانب الغربي العلوي حيث بنايات (بوزاغ – Beaux Arts) السكنية الفخمة، السكان المتأنقون، والشوارع الصاخبة. قُدُماً نحو مرتفعات واشنطن، فاضت الأرصفة بأفواج مندفعة من السكان اليهود والدومينيكان الأمريكيين، مروراً بإنوود “Inwood” المورقة، حيث الحدائق التي ارتقى مستواها ليكشف عن جمال مشاهد نهر هودسون، حتى بيتي في كنغسبريدج في بلدة برونكس، والبنايات السكنية القريبة من الأرصفة الصاخبة لبرودوي فضلاً عن الرقعة الفسيحة لحديقة فان كورتلاندت.
ذهبت إلى مرتفعات جاكسون في كوينز لرؤية الناس الذين يتواصلون حول ساحات الحدائق بالأردية، الكورية، الإسبانية، الروسية، والهندية. وعندما أردت أن أشعر أنني في وطني، توجهت إلى بروكلين في كراون هايتس لتناول الطعام والاِستمتاع بالموسيقى الجامايكية والفكاهة الممزوجة بنكهة مدينة نيويورك. كانت المدينة ساحة اللعب خاصتي. لقد استكشفت المدينة مع الأصدقاء، ثم مع امرأة كنت قد بدأت مواعدتها. كانت تتجوّل معي بلا هوادة، مستمتعة بملذات مدينة نيويورك الوافرة. تُفتَح المقاهي حتى الفجر، حدائق خضراء بأركان وفيرة، طعام وموسيقى من جميع أنحاء العالم، الأحياء الغريبة مع سكانها الأكثر غرابة. تجسدت انطباعاتي عن المدينة أثناء المشي معها. كما هو الحال مع العلاقة، كانت الأشهر القليلة الأولى من الاستكشاف العمراني كلها رومانسية. كانت المدينة مخادعة ومبهجة ونابضة بالحياة. لكن لم يمضِ وقتٌ طويل قبل أن يذكّرني الواقع بأنني لم أكن مُحصّنا من الخطر، خاصة عندما تَسكَّعتُ بمفردي.
في إحدى الليالي في القرية الشرقية، كنت أركض لتناول العشاء عندما استدار رجل أبيض أمامي ولكمني بقوة على صدري حتى اعتقدتُ أن أضلاعي قد ضُفِرت حول عمودي الفقري. ظننت أنه كان مخمورا أو أخطأ وظن أنني عدوُّ قديمُ له، ولكن اكتشفت بعد لحظات أنه افترض أنني مجرم بسبب لون بشرتي. عندما اكتشف أنني لم أكن ما تصوره، قال لي أن اعتداءه كان خطئي لأنني كنت أركض خلفه. لقد تجاهلت هذا الحادث ظنّا مني أنّه كان عملا بلطجيًّا، لكن كان من المستحيل تجاهل انعدام الثقة المتبادل بيني وبين الشرطة. شعرت بالعنصرية. سأدخل منصة مِترو الأنفاق، سألاحظهم، (وسألاحظ جميع الرجال السود الآخرين يسجلون حضورهم أيضا، بينما يظل الجميع غافلين عنهم). سوف يحملقون وسأشعر بالتوتر والوهلة، سوف يراقبونني بثبات وسأشعر بعدم الارتياح. سوف أراقبهم مرة أخرى، قلقًا من أنني بدوت مشبوها، سوف تزيد شكوكهم. سنواصل الحوار الصامت وغير المستقِّر حتى يصل مترو الأنفاق وننفصل في النهاية.
عدت إلى القواعد القديمة التي كنت قد وضعتها لنفسي في نيو أورلينز مع بعض التغييرات. الركض ممنوع (وخاصة في الليل)، لا حركات مفاجئة، لا قلنسوات (هوديز)، لا أشياء -لا سيما الأشياء اللامعة- في متناول اليد، عدم اِنتظار الأصدقاء في زوايا الشوارع حتى لا يُظن بي أنني تاجر مخدرات، لا وقوف بالقرب من زاوية على الهاتف الخلوي (نفس السبب). عندما بدأت أشعر بالراحة، بدأت حتمًا في كسر بعض تلك القواعد، أعادني صدام حماسيّ إليهم، بعد أن علمت أن أي شيء أقل من الحذر كان إهمالا.
بعد عشاء إيطالي فخم ومشروبات مع الأصدقاء، كنت أركض إلى مترو الأنفاق في كولومبوس سيركل – كنت سأتأخر عن مقابلة مجموعة أخرى من الأصدقاء في حفلة موسيقية وسط المدينة. سمعت أحدهم يصرخ ونظرت لأرى ضابط شرطة يقترب بمسدسه موجها إياه نحوي. “مقابل السيارة!” في لمح البصر، كان ستة من رجال الشرطة على جانبي، وهم يرمونني على السيارة ويُقيّدوني بشدة. “لماذا كنتَ تركض؟” “إلى أين تذهب؟” “من أين أتيت؟” “قلت، لماذا كنت تركض؟!” نظرًا لأنني لم أستطع الرد على الجميع دفعة واحدة ، فقد قررت الرد أولاً على الشخص الذي يبدو أنه من المحتمل أن يضربني. كنت محاطا بسربٍ وحاولت التركيز على واحد فقط دون زيادة حدة الآخرين عن غير قصد.
“بالنسبة لرجل أسود، أن تدافع عن كرامتك أمام الشرطة، يعني أن تخاطر بتعريض نفسك للاِعتداء”
لم يفلح الأمر! عندما أجبت على ذلك السؤال، شعر الآخرون بالإحباط لأنني لم أجب عليهم بالسرعة الكافية وصرخوا في وجهي. سأل أحدهم سؤالا كان أقرب ما يكون لاِتهام وهو يُفتِّش جيوبي التي أُفرغت بالفعل، ما إذا كانت لدي أية أسلحة. وآخر ظل يسألني من أين أتيت وكأنني سأخبره بالإجابة التي يبحث عنها بعد طرح السؤال للمرة الخامسة عشرة. على الرغم من أنني ظللت أقول -بهدوء بالطبع، مما يعني محاولة إدارة نغمة تتجاهل دقات قلبي المتسارعة وصراخهم المليء بالبصاق في وجهي- إنني تركت الأصدقاء على بعد مبنيين من الطريق، والذين كانوا جميعًا لا يزالون هناك ويمكنهم أن يشهدوا لي، لمقابلة الأصدقاء الآخرين الذين يمكن لرسائلهم النصية على هاتفي إثبات ذلك، نعم، سيدي، نعم، نعم أيها الضابط، بالطبع، نعم، لم يحدث فرق. بالنسبة لرجل أسود، أن تدافع عن كرامتك أمام الشرطة، يعني أن تخاطر بتعريض نفسك للاِعتداء. في الواقع، كانت كرامة السود تعني لهم أقل، وهذا هو السبب في أنني شعرت دائمًا بأنني أكثر أمانًا حين يتم إيقافي أمام الشهود البيض من الشهود السود. كان رجال الشرطة يعطون أهمية أقل لشهود وتوسلات المتفرجين السود، في حين أن قلق الشهود البيض عادة ما تكون مسجلة عليهم. الشاهد الأسود الذي يطرح سؤالًا أو يثير اِعتراضًا بأدب يمكن أن يصبح زميلًا للمعتقل بسرعة. إذن، الاِحترام للشرطة هو شرط لا بد منه للقاء آمن.
تجاهل رجال الشرطة شروحاتي واقتراحاتي واستمروا في الصراخ في وجهي. كلهم باستثناء واحد منهم، ولقد كان الكابتن. وضع يده على ظهري، وقال لأحد رجاله: “لو كان يركض لفترة طويلة لكان سيتعرق.” ثم أمر بإزالة الأصفاد. قال لي أن رَجلاً أسود قام بطعن شخص على بعد مبنيين أو ثلاث مبانٍ وكانوا يبحثون عنه. شعرت أن الدماء قد جفت في عروقي، وأخبرت زملاءَه الضباط بمكان تواجدي وكيفية التحقّق من دليل براءتي – لم أكن أعلم أنه دليل براءة، حيث لم يخبرني أحد عن سبب القبض علي، وبالطبع، لم أجرؤ على السؤال. مما رأيته، فإن أي شيء يتجاوز الانفعال يفسر على أنه عدوان.
قال الكابتن إنني أستطيع الذهاب. لم يرَ أيّ من رجال الشرطة الذين احتجزوني أن الاِعتذار كان ضروريا. مثل البلطجي الذي لكمني في القرية الشرقية، بدا أنَّهم يعتقدون أن ذلك كان خطئي في الجري.
لقد تعرضت للإذلال، وحاولت عدم إجراء اتصال بصري مع المتفرِّجين على الرصيف، وكُنت متردداً حول المرور من طريقهم. عرض الكابتن علي أن يوصلني إلى محطة مترو الأنفاق، فربما قد لاحظ شعوري بالخزي. عندما أنزلني وشكرته على مساعدته قال، “تركناك تذهب لأنك كنت مهذبا، لو أسأت التصرف لكان الأمر مختلفا”. أومأت برأسي ولم أقل شيئا.
أدركت أن أقل شيء أعجبني في المشي في مدينة نيويورك لم يكن مجرد معرفة قواعد التجول والتنشئة الاجتماعية الجديدة – لكل مدينة خصوصياتها. لقد كانت اِعتباطية الظروف هي التي جعلتني أشعر بأنني طفل مرة أخرى، اِعتباطية جعلتني أشعر بالرضا. عندما نتعلم المشي لأول مرة، يُهدِّدنا العالم من حولنا بالاِصطدام بنا. كل خطوة محفوفة بالمخاطر. نحن نُدرِّب أنفسنا على المشي دون الاِصطدام من خلال الانتباه إلى تحركاتنا، والانتباه إلى العالم من حولنا. كبالغين نسير بدون تفكير. ولكن كشخص بالغ، غالبًا ما أعود إلى تلك اللحظة من طفولتي حين كنت أتعلم المشي. أنا مرة أخرى في حالة يقظة وتأهب قصوى. في بعض الأحيان عندما أسأم من اعتباري شخصا مثيرا للشغب عندما تتم ملاحظتي، أطلق نكتة بأنه في المرة الأخيرة التي كان فيها شرطي سعيدًا برؤية رجل أسود يمشي كان ذلك عندما كان ذلك الأسود طفلًا يخطو خطواته الأولى.
في العديد من المسيرات، أطلب من أصدقائي البيض أن يرافقوني، فقط لتجنب معاملتي كتهديد يمشي في مدينة نيويورك، هذا هو؛ في نيو أورليانز، تجذب امرأة بيضاء في رفقتي في بعض الأحيان المزيد من العداء. (ولم يغب عني أن أصدقائي الإناث هن اللاتي يفهمن محنتي على أفضل وجه؛ لقد طوّرن يقظتهن الخاصة في بيئة يتم معاملتهن فيها باستمرار كأهداف للاِهتمام الجنسي). الكثير من المشي هو كما وصفته صديقتي ريبيكا ذات مرة: مسرحية بانتوميم* تهدف إلى تجنب تصميم الرقصات الإجرامية.
إن المشي وأنت أسود البشرة يُقيِّد تجربة المشي، ويجعل من الصعب الوصول إلى التجربة الرومانسية الكلاسيكية للمشي وحده. يجبرني على أن أكون في علاقة مستمرة مع الآخرين، غيرُ قادرٍ على الانضمام إلى طيور متسكعي نيويورك الذين قرأت عنهم ولطالما تمنيت الانضمام إليهم. بدلاً من التسكع بلا هدف على خطى ويتمان، ميلفيل، كازين، وفيفيان جورنيك، شعرت في كثير من الأحيان أنني كنت أسير في تلميح بالدوين – بالدوين الذي كتب في عام 1960، “في الواقع، نادرًا، هو مواطن هارلم، من أكثر أعضاء الكنيسة حذرًا إلى أكثر المراهقين كسلا، الذين ليس لديهم حكاية طويلة لتخبرهم عن عدم كفاءة، ظلم، أو وحشية الشرطة. لقد شاهدت ذلك بنفسي وتحملت أكثر من مرة “.
إن المشي كرجل أسود جعلني أشعر في وقت واحد بأنني مبعدٌ أكثر عن المدينة، مدركاً بأنه يُنظر إلي كمشتبه به، وأكثر ارتباطًا به، في الانتباه الكامل الذي تتطلبه يقظتي. لقد جعلني أمشي بشكل هادف في المدينة، وأصبح جزءًا من تدفقها، بدلاً من المراقبة والوقوف بشكل منفصل. لكن هذا يعني أيضًا أنني ما زلت أحاول الوصول إلى مدينة ليست ملكي تمامًا. أحد تعريفات الوطن هو مكان يمكن أن نكون فيه أنفسنا. والمشي هو أكثر الحالات التي نكون فيها أنفسنا، تلك الحالة الطبيعية التي نكرر فيها إحدى أولى الأشياء التي تعلمناها! المشي – الفعل البسيط الرتيب بوضع قدم قبل الأخرى لمنع السقوط – تبين أنه ليس بهذه البساطة إذا كنت أسودًا. المشي بمفردي لم يكن فعلا رتيبا بالنسبة لي؛ الرتابة صفة فخمة. قدم ترتفع، قدم تهبط، ويمنحنا شوقنا زخما من الراحة إلى الراحة. نتطلع إلى النظر والتفكير والتحدث والابتعاد. ولكن، نتوق إلى أن نكون أحرارًا أكثر من أي شيء آخر. نريد حرية ومتعة المشي بدون خوف -بدون خوف الآخرين- أينما نختار.
لقد عشت في مدينة نيويورك منذ ما يقرب عقد من الزمان ولم أتوقف عن المشي في شوارعها الرائعة. ولم أتوقف عن الشوق لأجد العزاء الذي وجدته عندما كنت طفلاً في شوارع كينغستون. كما أن التعرف على شوارع مدينة نيويورك جعلني أقرب إلى الوطن، فإن المدينة تحجب نفسها عني عبر تلك الشوارع. أمشيهم، بتناوب غير مرئي وبارز للغاية. لذلك أمشي بين الذاكرة والنسيان، بين الذاكرة والغفران.
هوامش:
–توم سوير: شخصيةٌ خياليةٌ في مسلسل الرسوم المتحركة الذي يحمل اسمه. صبيٌ يعيشُ برفقة أصدقائه طفولةً تملؤها الشقاوة والمرح والأحلام الوردية.
–ساسكواتش: بيغ فوت أو ذو القدم الكبيرة هو الاسم الذي يطلق على كائن مجهول يشبه القرد، ويقال أنه يسكن الغابات في شمال غرب المحيط الهادئ. وعادة ما يوصف بيغ فوت في فلكلور أمريكا الشمالية على أنه كائن شبه بشري كبير ومشعر ويمشي على قدمين. أتى مصطلح ساسكواتش من كلمة sásq’ets من لغة هالكوميليم.
–الرستفارية، راستا، أو الحركة الرستفارية، (بالإنجليزية: Rastafari movement) هي الديانة التي تقبل الإمبراطور هيلا سيلاسي الأول، الإمبراطور السابق لأثيوبيا، كتجسيد للرب والذي يطلقون عليه اسم جاه (بالإنجليزية: Jah). كما يراه متبعو تلك الديانة كجزء من الثالوث المقدس بوصفه المسيح المذكور في الإنجيل.
–السرندبية: تعني “حادث سعيد” أو “مفاجأة سارة”، عند العثور على شيء جيد أو مفيد دون قصد. وقد تم التصويت على هذه الكلمة باعتبارها واحدة من أصعب عشر كلمات في الإنجليزية يصعب ترجمتها في حزيران / يونيو 2004 من قبل شركة بريطانية للترجمة.
–بانتونيم (فن الحركات الإيحائية): هو نوع من فن التمثيل الصامت المؤدى من قبل فنان أو مجموعة فنانين على خشبة المسرح، بغرض التعبير عن الأفكار والمشاعر والآراء عن طريق الحركة الايحائية للجسم فقط.
تدقيق لغوي: عمر دريوش.