في إحدى المشاهد الأخيرة من المسلسل التاريخي التّركي “جنود كوت العمارة”، وبينما يستعدّ الفدائيّون للدّفاع عن مدينة الكوت ضدّ الاستيلاء البريطاني في ربيع عام 1915م… يقف الفدائيّ سعيد بجانب قائده أمام الموت وبشرى الاستشهاد، وقد تلقّى للتّو خبر إمكانية ترقيته إلى رتبة نقيب… ” الشّهيد النّقيب، سعيد بن خسرف، يبدو لقبًا فخمًا يا قائدي!” يصرح سعيد، بلهجة فخورة متعطّشة للقاء مرتبة الشّهادة…
«نجد أن أعظم شخصيّة في الإسلام هي شخصيّة الشّهيد المجاهد في سبيل الله… فهو راهب وجنديّ في شخصٍ واحد. فما انقسم في المسيحيّة إلى مبدإ للرهبانية ومبدإ للفروسيّة، اتّحد في الإسلام في شخصيّة الشّهيد. إنها وحدة العقل والدم، وهما مبدآن ينتميان إلى عالمين مختلفين.»
كتاب الإسلام بين الشّرق والغرب – (علي عزّت بيغوفيتش*)
بين هذين العالمين المختلفين، بين الشّرق والغرب، بين المادّة والرّوح… في مكان ما في المنتصف بين هذين القطبين، وضع (علي عزّت بيغوفيتش) كتابه، ليشرح لماذا حُوصر الإسلام بين خصمين متعاديين، بين اليهوديّة والمسيحيّة، كيف رفضه هؤلاء وأولئك، تماما كما حاربه “شيوعيّو الشّرق” و”ليبراليّو الغرب”.
-1-
لا يتعلّق الأمر بتفاصيل تشريعيّة تورّط الجميع في نقاشات بعيدة عن الجوهر، ولا بمرويّات تاريخيّة تتفاوت وتتشابه بمقدار أمانة الرّواة وتوفّر المصادر… لكنه يقبع هناك في ركنٍ خفيّ يغطّى بالشّراشف السّميكة ويُنسى كما لو أنه لم يكن قطّ! في بقعة لا تُضاء… في فرقٍ جوهريّ بين “الثّقافة”و”الحضارة”، وكيف سبق الإسلام لجمع أدوات هذين المجالين في رؤيته وفكره ومبادئه.
«حامل الثّقافة هو الإنسان، وحامل الحضارة هو المجتمع (…)»
كتاب الإسلام بين الشّرق والغرب – (علي عزّت بيغوفيتش)
لا يبدو الأمر واضحًا للغاية، فلنحاول مجدّدا!
لماذا لا يمكن للإنسان(الفرد) أن يحمل “الحضارة” ؟ سيكون ذلك حملًا ثقيلًا… لأنّ “الحضارة” هي تأثير “العقل(الذّكاء)” الإنسانيّ الجمعيّ على الطبيعة، وهي تعني العمل،السّيطرة ،صناعة الأشياء وإعمار الدول، كاستمرارٍ وتراكم للعناصر الآلية والتقدم التقني البيولوجي… ولا يمكن للتّراكم أن يتزفر عبر فردٌ واحد.كما لا يستطيع هذا الفرد الواحد أن يدّعي “التّحضرّ” بمعزل عن مجتمعه وعلاقاته الإنتاجية والاستهلاكيّة…
وحين ننتقل إلى الجهة المقابلة، ونعرّف “الثّقافة” أنّها : “أثر الدّين والفنّ وحياة الإنسان الدّاخلية على نفسه،” نفهم لماذا نستطيع أن نتصوّر “مثقّفا” منعزلاً، قد يحتسي القهوة وهو ينظّف زجاج نظارته السميك. “الثقافة” جزءٌ من التّاريخ الدّرامي للإنسانية ببداياته السّماوية وغلبة نزعة الحريّة والثورة فيه…
فحين فهم الإنسان الأوّل القيمة العمليّة لأدوات الخشب والحجارة، وتذوّق لأوّل مرّة طعم اللّحم “المطهوّ” على النّار… بدأ يخطو بثبات نحو “الحضارة”؛ لكنّه حين توقّف فجأة وترنّح بعد إصابته بذلك “الدّوار الميتافيزيقي**”، وتماسك بصعوبة قبل أن يقرّر أن يُسبغ على تلك الحجارة دون غيرها قيمة مختلفة عمّا تفيده به عمليّا، وأن يضحّي من أجل نزول المطر… كان قد انغمس بشكلٍ كلّي في الثّقافة وسيبقى عالقًا فيها مهما حاول تجاهل ذلك.
-2-
«في عالمٍ خبا فيه الوهم فجأة وانطفأ الضّياء يشعر الإنسان بالاغتراب، إنه الطّرد الذي لا فكاك منه ولا مهرب، فلا توجد ذكريات عن وطن مفقود ولا أمل في الوصول إلى أرض موعودة… لو أنني شجرة بين الشّجر، فقد يصبح لهذه الحياة معنى، ولعلها تصبح أفضل (…) كل شيء جائز طالما أن الله غير موجود وأن الإنسان يموت.»
رواية الغريب -( ألبير كامو***)
يصرّ (بيغوفيتش) أنّ كلام الفيلسوف الفرنسي (كامو) ليس إلحادًا بقدر ما هو اعترافٌ متألم عن بحثٍ دينيّ مخيّب الرّجاء في الخلاص، وأنّه لا يمكن للإلحاد أن يتناسق مع احتواءٍ لعناصر الثّقافة من دين وفنّ، من موسيقى وأدب، من مسرح ومعمار… بينما يتناسق بشكلٍ تامٍ مع حضارة الاستهلاك والإسراف، وأنظمة الرّقابة المبرمجة والمقيّدة لتحرّك الأفراد وأنفاسهم.
وحين تكون “الثقافة” تعبيرًا عن الحياة الدّاخلية الخصبة ذات الإيقاع البطيء والرّزين، تنبثق من الجهة الأخرى من المرآة ظاهرة الفنّ “المُبدع والصّادق” الذي يعكس نظام الكون ودقّته دون أن يسائله أو يستفسر عنه، والذي يتحرّر من الوظيفيّة والمصلحة النّفعية المادّية. بينما حين يصف العلم -وهو أبرز نتائج الحضارة- قطعة فنّية، فهو يتقيّد بفيزياء العمل الفنّي ونفسيّة الفنّان… وينتج عن ذلك منطق تفكيكيّ يجرّد القطعة ممّا تحمله من أشجان وآمال صُبّت فيها عبر مراحل تشكيلها…
فالجمع بين نتاج التّاريخين، الحضاريّ والثّقافي، لا يكون بإقحام كلّ منهما في الآخر والحصول على كائنٍ هجين مفكّك؛ لكنّ الجمع تحديدًا يكونُ في التّفريق بينهما، في تبنّي منهجٍ ثنائيّ القطب**** يسمو ويصهر النّتاجين في إناءٍ واحدٍ يحقّق للإنسان كفايته وغايته.
الهوامش:
(*) : (علي عزت بيغوفيتش): أول رئيس جمهوري لجمهورية البوسنة والهرسك بعد انتهاء حرب البوسنة والهرسك. هو ناشط سياسي بوسني وفيلسوف إسلامي، مؤلف لعدة كتب أهمها “الإسلام بين الشرق والغرب”.
(**): يقصد (بيغوفيتش) بالدوّار الميتافيزيقي، ظاهرة تطلع الإنسان الأوّل إلى السّماء، كناية عن نزعته نحو التسامي عن المادة والتطلع نحو عالمٍ آخر حقيقيّا كان أم متخيّلا كفرقٍ أساسيّ في جوهره.
(***):( ألبير كامو): فيلسوف وجودي ، كاتب مسرحي و روائي فرنسي الجنسية جزائري المولد.كانت مسرحياته ورواياته عرضا أمينا لفلسفته في الوجود،الحب،الموت،الثورة،المقاومة والحرية، وكانت فلسفته تعايش عصرها، وأهلته لجائزة (نوبل) فكان ثاني أصغر من نالها من الأدباء .
(****): أورد (علي عزّت بيغوفيتش) القسم الثّاني من كتابه بعنوان “الإسلام: وحدة ثنائيّة القطب” لتفصيل المنهج الذي أسّسته رسالة الإسلام في منطقة متسامية تجمع بين قطبي: المادّة/العلم/الطّوبيا/الحضارة والرّوح/الفنّ/الدّراما/الثّقافة.
تدقيق لغوي: ريشان سارة