صناعة الأدب ما بين الخيال والواقع، أدباء أرخوا عذاب الشعوب.

التاريخ يكتبه المنتصرون أما القصص فيرويها المتفرجون الصامتون، المثخنون بالجراح

ادنا أوبراين (شاعرة وروائية إيرلندية)

منذ بدأ الاحتلال الصهيوني لفلسطين ظهرت بعض الحجج التي تبرر تخاذل المجتمعات لدعم القضية الفلسطينية ومع الوقت تحولت تلك الحجج لحركات مناهضة لدعيم القضية، كلٌّ منها يصيح بقوة ليأكد زعمه. فهناك من يقول بأن الاحتلال الصهيوني جاء نتيجة إهمال الفلسطينين لأراضيهم وجشعهم، فهم قوم باعوا أرضهم لأجل المال، ليأتي آخرون بحجة مختلفة ويتهموا الفلسطينين بأنهم إرهابيون متطرفون يرغبون في سفك الدماء، ولا يريدون أية حلول سلمية مع دولة تسعى جاهدة بأن تنتهج الأساليب المتحضرة في التعامل.
ولكن بعيدا عن كل الألاعيب السياسية الشنيعة التي يروج لها الأفراد وتدعمها فئات كبيرة من الناس.

دعني أطلعك إذا عن الأحلام الأولى للإنسان العربي الواقع تحت حكم الاستعمار الاوربي

من الأمل إلى التمزق من الألم

في بداية القرن العشرين ومع تصاعد حركات التحرر من الاستعمار، نسجت الشعوب العربية أحلام التحرر من القيود الاستعمارية الوهمية التي فُرضت بين الدول العربية واستبدلوها بأحلام تعيد للإنسان العربي أصوله ومجده بعد سنوات طويلة من الاستعباد والانحطاط، ولكن مع قدوم نكسة 1948 انهدت كل تلك الآمال.


مزقت النكسة الإنسان العربي وعلى وجه الخصوص الإنسان الفلسطيني، ليس على المستوى الاقتصادي والاجتماعي فقط وإنما على المستوى النفسي الذي غفل العالم عن ذكره.

وهنا جاءت الكتابة كحركة مقاومة ضد طمس هوية الإنسان الفلسطيني، وأيضا تأكيدا لحقه في أرضه التي امتدت فيها جذوره وجذور عائلته من قبله. لذا وُجِد الأدب برقته ليُظهر الحزن الذي تحمله القلوب الفسلطينة فنرى الصورة على حقيقتها الكاملة، دون أية قوى خارجية تحاول تغيير مسار الحقيقة. حقيقة الأرض المنهوبة والشعب المقاوم لأكثر من تسعين عاما الآن.

غسان كنافي… أن تحيا لتسرد

كان الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني ( 1936-1972) من الكتاب الذين استخدموا الكتابة كنوع من المقاومة ضد الاحتلال، لم يقتصر على نوع واحد من الكتابة، فكتب مئات المقالات والعشرات من المجموعات القصصية والروايات.


كان كنفاني يمثل صورة الكاتب الملتزم المناضل ضد محو تاريخ ألم وكفاح الإنسان الفلسطيني. خصوصا كونه عاصر النكسة واللجوء الذي أجبرهم عليه المحتل. فانتقل كنفاني مع عائلته إلى لبنان ومنها إلى سوريا، ثم جعلته ظروف العمل يتنقل ما بين سوريا والكويت ولبنان مجددا.

كتابات تضج بالذكريات

في روايته القصيرة رجال الشمس، أرَّخ كنفاني حلم السعي لحياة أفضل، الذي ظل يرافق اللاجئين الفلسطينيين، ففي الرواية يذكر كلا من أسعد وأبو القيس ومروان، ثلاث شخصيات من مراحل عمرية مختلفة لكنهم جميعهم من مخيمات الشتات وثلاثتهم يسعون لدخول الكويت بشكل غير شرعي رغبة في حياة أفضل رغم أنها مغامرة قد تؤدي بحياتهم.


الرواية تستعرض حالة التيه والعجز التي شملت تلك الشخصيات الثلاث، فالسفر إلى الكويت وجني المال حسبهم هو الطريق الوحيد لإبقاء عائلاتهم على قيد الحياة.

 أبو القيس صاحب أشجار الزيتون الذي ينتظر سنة تلو الاخرى ليعود مجددا إلى أشجاره، لكن العمر يجري منه وهو ينتظر حتى يضعه القدر أمام مفترق طرق، مجبرا فيه على الاختيار بين قطع صلته بالماضي حتى يضمن لعائلته أن تستمر، فيمضي قدما في الطرق المجهولة لأجل رغيف خبز آخر. أو انتظار حلم الرجوع، فاتحا الطريق على مصراعيه لشبح الشيخوخة حتى يزحف إليه بهدوء، سارقا منه الصحة وأحلام العمر.


أما مروان المراهق المحب للعلم، الذي حرمه الفقر من أحلامه وقرر أنه أنسب وقت لقذفه في مقلاة العالم ليشقى ويكسب المال بالكثير من العرق. وبالتالي التخلي عن حلمه في أن يصبح طبيبا.

حالة الشتات والعجز التي عانتها الشخصيات الثلاث ترجع لنفس السبب، النفي من الوطن ومحاولة فهم العالم الغريب الذي رُموا فيه فجأة، ومحاولتهم ليلتمسوا الطريق برؤيتهم الضبابية حول المستقبل، ولكنها الوحيدة التي يتكئون عليها.

الرواية ليست من نسج الخيال، ففي الواقع نشرت إحدى الجرائد وقتها أنه قد تم العثور على ثلاث جثث في مكب نفايات المدينة، وقد قيل أنهم قد رُحِّلُوا داخل خزان سيارة لتهريبهم بطريقة غير شرعية عبر الحدود إلى الكويت.


ومنها نسج غسان قصة الثلاثة المنسيين، الذين يمثلو شريحة كبيرة من لاجئي الشتات الذين يسعون للحياة. يصف كنفاني حالة التشرد والنفي التي عانى منها اللاجئون على لسان الطفل في مجموعته القصصية أرض البرتقال الحزين الذي قال:

“وعندما وصلنا صيدا عصرا صارنا لاجيئين.”

من حلم العودة إلى تجربة العودة

من رام الله عاد سعيد وصفية إلى حيفا، حيث اختبروا يوم التهجير الإجباري، يوم قذفت السماء بنارها فوق روؤسهم، سعيد وصفية العرسان الجدد ورضعيهما. عائلتهم الصغيرة التي بنوها بسعادة وبطئ، تنهار سريعا أمام عيونهم وتلقي بهم بعيدا عنها، فمن أين أتى حلم عودتهم إلى البيت مجددا ؟


لعله بحث جديد عن الطفل الضائع الذي عادوا لأجله عشرات المرات ولم يجدوه، أو للبيت الذي لم يتبدل وريشات الطاووس التي نقصت واحدة.والابن الذي سُرق وتحول.


تلك هي فلسطين الجديدة… المسروقة وأولئك هم أبناؤها القليلون المدافعون عن وطنيتهم والباقون على العهد. تلك الحالة التي اختبرها سعيد وصفية لم تقتصر عليهما فقط، آلاف العائلات تشتت وضاع أطفالهم مع أعمال العنف والتهجير، كل هذا ليعلمنا غسان في النهاية بأن الوطن يعني أن لا يحدث كل هذا.

المرأة الفلسطينة في كتابات كنفاني

في كتابات كنفاني كانت صورة المرأة دائما تأتي في هيئة ثكلى حزينة مسلمة لليأس والواقع، تنتظر ولا تتساءل سوى على قوت اليوم. قصة القميص المسروق كمثال، حيث الزوجة تنظر بنظرات محملة بالشكوى والمعاني لتقع تلك النظرات كالسهام في قلب زوجها، فتمزقه وتذكره بالعجز الواقع عليهم.


شملت حالة من الحزن والانكسار الساكن في النساء كتاباته وكأنك تسطيع أن ترى اللون الأسود الذين يلتحفن به. نساء صامتات لا يشتكينن لا يثرن، نساء يقعن في خلفية الحكاية، ينبعث منهن الصمت والدفئ.


ويمكن أن نؤاخذ كنفاني على هذا، ولكن قد ينبع ذلك من الظروف الاجتماعية الفلسطينية التي تفرض على النساء دورا معينا دون الرجال.
و لكن رغم ذلك كانت هناك أم السعد التي تعلم منها كنفاني، كيف تخرج الجمال والبساطة من قلب المواقف العنيفة والقاسية. فأم السعد امرأة لا تفوح منها رائحة البؤس والحزن الذي زرعته فيها المخيمات والأعمال المنزلية الشاقة فقط وإنما امرأة صامدة، تعمل وتجد وتؤمن بأن الأرض التي تركتها غصبا سيأتي اليوم لترجع إليها، وستسترد حقها ذات يوم.


أم السعد المرأة الأربعينية التي اهترأ عمرها في الكدح متوشحة بعبارة الشاعر فؤاد حداد (إيدك تكون أخشن وقلبك أرق) كأنها ثوب يلتف حول جسدها المرهق من العالم. لم تكن أم السعد وزوجها المدعوس الذي يعاني من نوبات غضب متكررة من وحي خيال الكاتب. بل أشخاصا عاشوا واختبروا مشقة الحياة، وكانت الكتابة هي الطريقة الوحيدة لجعلنا نراهم ونشعر بهم ونؤمن بقضيتهم.

هل تتقاطع كتابة الخيال مع الواقع؟

نعم ولا..

معظم قصص وروايات غسان كنفاني كانت من قلب الواقع. أحداث حقيقية تصاحبها مشاعر حقيقة، ارتعاشات حقيقة مرت بأرواح كثيرة، حوادث وقعت بالفعل، إلا أن الخيال كان موجودا أيضا. لم يكن خيالا بمعنى اختلاق شيئ غير حقيقي وإنما استخدم خياله ليختبر المشاعر النفسية لأبطال قصصه المختلفة. فمرة طفل، ومرة معتقل ومرة فدائي، وأخرى هارب وأخرى خائن نتن، ومرات شيخ.


كان كنفاني كلَّهم وكانوا كلهم الشعب لذا عل عكس كتابات كونديرا التي كانت تتسم بالسخرية المرة وقلب التاريخ، كانت كتابات كنفاني واضحة، تصرح بصوت عالٍ لتعلن عن هدفها.

الكتابة كحركة لمقاومة العنف

الوحدة تدفع الإنسان ليدافع عن حياته وعالمه الصغير بوحشية مؤلمة، فالغربة والوحدة تخلقان براثن قبيحة، لكن الكتابة تبدد تلك الوحدة وتشكل الألفة والدعم.


كانت كتابات كنفاني الوسيلة الأولى لتأريخ تفاصيل الإنسان الفلسطيني الذي خاض في مئات الأشياء لينجو، قاوم وهاجر إلى الجبال وأضرب عن العمل وغمر نفسه بالعمل الفدائي وهاجر وتعلم اللغات وحارب وكتب وصرخ وثار.


لم يكن كنفاني وحده من كتب عن أزمة شعب. فكذلك الكاتبة البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش التي كتبت عن حادثة تشرنوبل والمعاناة التي خاضها العمال والمشاركون في تلك الحادثة الكارثية. رغم أن أحداثا كثيرة غطتها الحكومة الروسية ولم تصرح إلا بالقليل. وبالمقابل كتبت سفيتلانا شهادات الناجين وأهالي الضحايا وأرَّخت الألم والصراخ الذي طمسته الحكومة.

الأدب ليس مجرد ركن ثقافي هش، وإنما قوة يمكن أن نستمد منها قدرتنا على المقاومة. يمكن أن نجد أنفسنا بين كلماته، لترشدنا نحو النور. يمكن للأدب أن يكون وسيلتنا لسرد مآسينا وكوارثنا ليقف العالم بجوارنا وحتى إن لم يقف، فيكفي أن نكتشف بأننا لسنا وحدنا في مصيبتنا وأن هناك آخرين في أماكن أخرى يصيبهم ما يصبنا.

فالكتَّاب المثخنون بالجراح هم وحدهم من ينتجون أدبا حقيقيا.

كاتب

الصورة الافتراضية
Mostafa sarah
المقالات: 0

اترك ردّاً