ضمن سلسلتنا “ضيف الأسبوع”، ضيفنا السَّادس، الأستاذ محمّد خطّاب، في حوار شيّق عن الشِّعر وتجلِّياته، متبوع بمناقشة وقراءة لقصيدة “رفقة”، للشَّاعر اللبنانيّ وديع سعادة.
-ضيفنا محمد خطَّاب، الأستاذ والإنسان الشَّاعري، كيف يعرِّف لنا نفسه وكيف يراها، كإنسان ومتخصِّص؟
محمّد خطَّاب أستاذ بجامعة مستغانم، الجزائر، كلية الآداب والفنون، تخصُّص نقد معاصر والجماليات، أهتمُّ بالآداب والفنون العربيَّة والأجنبيَّة صدر لي كتاب عن دار رؤية بمصر حول استطيقا محي الدين بن عربي ومقالات مختلفة في النَّقد والأدب والتَّصوف، نشرت بمجلة كتابات معاصرة مقالات كثيرة وكذلك بمجلَّة نزوى العمانية.
–في حوارنا معك أستاذ، وأنت الشَّغوف بالشِّعر قارئا ومتذوِّقا له، كيف تعرِّف لنفسك ولنا الشِّعر والشَّاعر؟ وعلى هذا الأساس، ما الذي يحتاجه الشَّاعرُ لينظم شعرًا حقيقيًّا؟! هل هو تأثره برمزيَّات الطَّبيعة كاللَّيل طبقاً لمقولة ” اللَّيل وحي الشُّعراء” مثلا، أم هل تؤمن بموجودات ميتافيزيقيَّة كشيطانٍ للشِّعر رمز الوحي والإلهام؟
أولا الشِّعر يعرِّف بنفسه من خلال وجوده، لكن الثَّقافة في كلِّ لغة تتدخَّل للسَّيطرة على الشِّعر من خلال الأوصاف والتَّسميات والحدود وهذا ما يأباه الشِّعر بالمطلق، لأنَّه كلَّما حُدّد وقُيِّد كلَّما صار ميتا، فالحدود وضعت للشّعر فقط لمجّرد التّنبيه على خصوصيّاته الّتي تجعله مختلفا عن بقية الفنون والأشكال. صار النّقاد مثلا يتبنّون مواقف للشّعر هي خارج الشّعر وليست أصيلة فيه لذلك تجد أنّ الكثير من أسئلة الشّعر في النّقد لا علاقة لها بالشّعر أنظر مثلا العروض والقوافي لو كانت أصيلة وجوهريّة لما تخلّى عنها الشّعر في الأوقات اللاّحقة، أقول العروض والقوافي كقواعد جامدة ولا أتحدّث عن إيقاع الكلمات وموسيقى الألفاظ، ثم الشّعر قليل ونادر وهناك حسٌّ شعريٌّ مقابل قصائد كثيرة. مفهوم القصيدة قتل روح الشِّعر الآن نرى ما يسمّى بالنّصّ الشّعريّ لأنّ القصيدة تشير إلى شكل معين وقالب جامد يخصّ نوعا من الكتاب وهذا يتعارض مع الطّبيعة الحرّة للشّعر. القصيدة مفهوم ثقافي جاء بعد الشّعر حينما كان شكلا من أشكال الوجود في كلّ الجغرافيا الكونيّة حتىّ عند العرب كان هناك حسّ كبير بالشّعر بعيدا عن مفهوم القصيدة لذلك كان بعض الشعراء يقولون البيت أو البيتين ولا يعدّ ذلك قصيدة ويحرمون من الشّعر ولكنّهم في الحقيقة قد قالوا عالما بكامله في هذين البيتين وهناك أمثلة كثيرة حتّى أنّ كتب الطّبقات والشّعراء ذكروا شعراء القلّة.
–بمعنى أنّك تنحو أستاذ نحوًا ينظر للشّعر من زاوية المعنى والخلق والتّشكيل الإبداعي أكثر ممّا ينحو للنّظر إليه من زاوية الشّكل الخارجيّ والقواعد ربّما…لكن ألا تخشى بهذه الطّريقة أن يتماهى مفهوم الشّعر مع ضروب فنيّة أخرى نظير الموسيقى أو النّحت بوصفها تجربة شعريّة أصيلة؟
أنا أتحدّث عن التّسميات الّتي جاءت بعد الشّعر لأنّنا نتحدّث مبدئيّا عن الشّعر، إذا تحدّثنا عن الأوصاف والتّقسيمات فهناك جانبان في القضيّة وهما الجانب الّذي ساهم فيه الشّعراء حينما كتبوا عن الشّعر والجانب الّذي ساهم فيه غيرُ الشّعراء كالنقّاد وحتّى الفقهاء والمؤرّخين، فالجانب الثّاني يهمّه في الشّعر ما يعنيه الفقيه مثلا يعلي من شأن المعاني الأخلاقيّة واللّغة الفصحى المعياريّة والبلاغة بينما المؤرّخ فتعنيه في الشّعر ما يتعلّق بالأحداث بينما الشّاعر يعنيه في الشّعر الخصائص الّتي تجعله مختلفا عن بقية الفنون وهذا ما تمّ إنجازه مثلا على يد أبي تمام. في عصرنا الحديث يمكن أن نفرّق بين مقولات النقّاد الّتي امتلأت بهم السّاحة وبين بعض بصائر الشّعراء خذ مثلا بعض كتب أدونيس فهو شاعر يتحدّث داخل الشّعر فلا بدّ أن تكون الخصائص المعنيّة شعريّة بالأساس حتّى لو كانت عروضا وقافية، بالنسبة للتّماهي مع الموسيقى والفنون البصريّة فهو واقع يتجلّى في زمن الحداثة الّذي لم يفهم في سياقه أبدا. الفنون الأخرى تتقاطع مع الشّعر ويجب أن نضع أنفسنا حيث يوجد التقاطع وهناك تمييزات كثيرة بين الفنون وبين الشّعر وهذا لا ينفي ما يوحّد الشّعر بها حينما تتجلّى بعض المعاني الّتي تشترك فيها فنون القول وفنون الأداء مثل المسرح والموسيقى والغناء.. ألا ترى بأنّ ما ينجزه غير الشّعراء نطلق أحيانا عليه تسمية الشّعر، المعالم الّتي صممتها زهى حديد المهندسة المعماريّة العراقيّة نطلق عليها صفة المعالم الشاعريّة الّتي يتوفرّ فيها الجانب الفنّيّ المعقّد الّذي يتعلّق بجوهر الوجود، تصميم الحدائق وفنون النّحت والموسيقى كلّها الآن ترى في الشّعر منفذا وبوّابة لفهم الحياة.
– تطوَّر الشِّعرُ العربيُّ على مَرِّ العصور، من الشِّعر الجاهليِّ إلى شعر اليوم الَّذي يتباين بين شعر العمود وشعر محدث يتجلَّى في الشِّعر الحرٍّ، فنجد الكثير من النُّقَّاد لا ينكفُّون عن وسم الشِّعر بالحداثة أو القدم، وعلى تصنيف الشُّعراء بين مجدِّد وتقليديٍّ، فكيف ترى الشِّعر ضمن هذه الثُّنائيَّتين، العموديِّ والحرِّ، القديم والحديث/المحدث؟
التّسميات سادت بسيادة سلطة المعرفة، وإلّا فإنّ بعض الشّعراء وقلّة من النقّاد من كان لا يأبه للتّسمية قديم أو محدث أو حديث، ابن قتيبة بحسّه الشّعري وهو الفقيه خرج من ورطة ما قام به بعض النّقاد المتعصّبون للزمنيّة القاتلة ثمّ ما معنى أن يكون الشّعر مخلصا للزمن؟ فالقديم لا يستمرّ قديما ولا الجديد أيضًا هذه كلّها تسميات وضعتها سلطة نقديّة كتبت فائضًا من الكلام كان يجب أن يتوفَّر في المسائل المهمّة ويمكن للقارئ الذَّكيّ أن يقرأ كثيرا من النّصوص لكي يجد نفسه من دون فكرة واضحة. نحن نعيش زمنا مختلفا فهناك شعر وهناك لا شعر التّقسيم الّذي يمكن أن يكون مخرجا من ورطة التّصنيفات الزّمنية.. الشّعراء المحدثون ثورة حقيقيّة طبعا كانت هناك بوادر حقيقيّة أصيلة في الشّعر الجاهليّ أي منذ انبثاقاته الأولى في اللّسان العربيّ إذا استثنينا الأساطير الّتي تؤسّس للقول الشعريّ. ثورة الشّعراء صارت قاعدة في بناء التّحوّلات والإيمان بالشّعر هو الإيمان بتحوّلاته وإمكاناته اللاّنهائيّة.
– الشِّعر موجود بتعدد الثَّقافات وبمختلف اللُّغات، هلَّا يُحدِّثنا الأستاذ -أولا- عن رؤيته لتجلِّي الشِّعر بلغاتٍ مختلفة؟ فهل الشِّعر العربيّ هو نفسه الشِّعر الأوروبيُّ مثلا، أم هي نفس التَّسمية لشيئين مختلفين؟
ما يخصّ الشّعر في لغات الآخرين الجمال كله والحكمة كلها أن الشّعر واحد في جميع اللغات لذلك تسقط الأوصاف الثقافيّة في مأزق التصنيف والتبويب والتقسيم. أين ذهبت كل تلك التقسيمات للشّعر؟ لا أحد الآن يحاول تذكرها مثلها مثل فكرة الأغراض الشعريّة هل صار الشعراء يكتبون بحسب الغرض؟ ماتت تلك التسميات وبقي الشّعر. هناك شعر جميل في العالم تتقاسمه جميع اللّغات إنّه يصل إلى الفهم العميق حتى لو ترجم بلغات وسيطة لغة أو لغتين أو حتى ثلاث لغات، الشعر يبقى شعرا ولو تعددت الترجمة. الشعر أقوى من الترجمة حتى لو كانت الترجمة عملا أدنى من الكتابة، فالشعر يتسلل عبرها ويمتد ويحدث التحولات الكبرى. الشعري في ألف ليلة وليلة مع كل ترجمة نزداد غنى وثروة في الفهم وتأثيرا في اللغة التي تنتقل إليها. أنا مثلا قرأت شعر بورخيس في لغتي العربيّة مترجما عن الفرنسيّة وليس حتى عن الإسبانيّة اللغة الأصل وأحسست أن الشعر قادني إلى حيث هو براقا ولامعا وقويا. ماذا حدث للحداثة الشعريّة العربيّة لولا تلك الترجمات أو قل ذلك الشعر الذي وصل من ضفاف مختلفة حتى شعر القبائل المنسيّة أو الشّعر الذي يهاجر من مكان إلى مكان. الشّعر يؤمن بالترحال الدائم مهما كانت اللغة التي يكون فيها إنّه يفرض نفسه على القارئ الذّكي الذي يعرف كيف يحوّل الشّعر إلى حياة…
– وبالحديثِ عن اللغات والثقافات، هل تجد أن الشِّعر يرتبط باللُّغة الأمِّ لناظمه، نعرف مثلا أن جلال الدِّين الرُّومي كتب مقدِّمة المثنويِّ بالعربيَّة ولكنَّه نظَمَه شعرا بلغته الأُمِّ الفارسيَّة، فما رأيك هنا بالشِّعر العاميِّ، أو الزَّجل، الَّذي يستعمل اللُّغة الدَّارجة الَّتي هي اللُّغة الأمُّ للكثير من الزَّاجلين وناظمي الشِّعر بالفصحى على حدٍّ سواء؟
طبعا الشّعر وليد لغة أصيلة فهي أمّه. الشّعر وليد أمومة لغويّة خاصّة، لا يمكن لشاعر شرب من أصل لغته أن يبدع في لغة أخرى لم تتأسّس بينه وبينها علاقة أمومة حقيقيّة، أتحدّث عن الأمومة الطبيعيّة التي يمكن قياسها على أمومة الشّعر. فاللّغة الأم هي الحاضنة لمعاني وتجربة الشاعر الأصيلة. الفارسيّة مثلا بالنسبة لجلال الدين الروميّ أو فريد الدين العطّار ولكنّها العربيّة بالنسبة لأبي نواس الفارسيّ الأصل. اللغة الأم هي اللغة الشعريّة بامتياز الكلمة الأمّ التي تحتضن الشاعر ويرى فيها تاريخه كله. هنا يمكن أن نتحدّث عن العلاقة بالكلمات، العلاقة ليست واحدة، الكلمات كائنات تملك نفس الحس كما عند الإنسان. الشعر بالنسبة للغة نقطة تتمركز حول الدائرة. بعض الأصدقاء الشّعراء كانوا يرون في كتاب لسان العرب كتابا شعريّا لأنه مؤلّف من الكلمات التي ينتمون إليها انتماء الوليد لأمه وبعضهم كان يعد كتابا مثل المزهر للسيوطيّ كتابا في التمارين الشعريّة وبخاصة فقه اللغة حيث المشجر والأضداد وغيرها من الظواهر اللغويّة التي توجد في كل اللغات.
– وانطلاقا من هذا التَّنوُّعِ، الَّذي تحدَّثنا عنه، تختلف القراءة الشِّعريَّة، ربَّما حسب الخلفيَّاتِ أو الأذواق، فكيف يرى الأستاذ خطَّاب مسألة اختلاف القراءة الشِّعريَّة؟ وأين توجد الجمالية في الشِّعر؟
تكاد كل الثّقافات تتّفق على أن جماليّة الشّعر في صدقه وعفويّته وفي ابتعاده عن التكلّف والبلاغة الزائدة. الجمال في إمكانات الشّعر وتحولاته وهذا لا تتيحه اللغة المعياريّة الصارمة بل اللغة البسيطة التي تنقل العالم كما هو بحسّ شعريّ متميّز. الشّعر الذي ينسجم مع الطبيعة البشريّة. جماليات الشعر في كونه قليل ونادر في كل اللغات والثقافات. لا نعثر على الشّعر كل يوم وفي كل قراءة بينما نعثر على الشعريّ في التراكم الذي يحدث، الشّعر العربيّ ليس كلّه شعر بل القليل القليل ما يسمى بالشّعر. بالنسبة للقراءة الشعريّة فهي معقدة ساهمت فيها سلطة الثّقافة التي توجّه القراءة نحو غرض معين، مثل القراءات المدرسيّة التي تزخر بنصوص تهيّئ التلميذ لمعنى مقصود بعيد عن الشّعر وهكذا ينشأ جيل على معرفة متوهّمة وليس حقيقيّة عن الشّعر. قراءة الشّعر مفتوحة مثل الطبيعة والإنسان والحياة. وبدون تعقيد ماذا نحتاج من الشّاعر؟ وماذا نريد من النّص الشّعريّ؟ القراءة الحقيقيّة تنشأ بالأخطاء منذ البدء، وأعني بذلك أن القارئ يتوهّم أنّه يعرف كيف يقرأ الشّعر ومع الانتباه والذّكاء الذي توفره الطبيعة والوجود والتجارب يبدأ هذا القارئ نفسه في تغيير مساره فيقول هذه قراءة خاطئة للشّعر، كنت مخطئا في تقدير النّص ويبدأ بالبحث عن أفق آخر وهكذا حتى يصل إلى ضفة يكون فيها النّص مفتوحا على المتعدّد والكثرة. حيث لا يمكن تعيين معنى واحد لما نقرأ. والقارئ الذكيّ يقرأ النّصّ بأعين مختلفة وفي كل مرة تبدو له التّجربة في صورة جديدة.
–الانفتاح الذي تَشهَدُه البشريّة، أنتج الكثير من علاقات التأثير والتأثُّر، فصِرنا نرى مثلا محاولاتٍ للهايكو الياباني باللغة العربيّة، وصرنا نقرأ أشعار دانتي وشكسبير ودوفو وبابلو نيرودا بالعربية أيضا، فهل هذا الحِراك الذي يُخرج النوع الشعريّ من حدوده الجغرافية يبقي للشعر جماليته؟
طبعا الشعر يؤمن بالرّحلة حتى بالنسبة للشّاعر نفسه. الشّاعر الذي لا يغير من طبيعة كتابته ويستقرّ على شكل واحد هو شاعر يؤمن بالثّابت الذي يقتل روح الإبداع. مسألة الانتقال هذه للأشكال الأدبيّة مثل الهايكو أراها أنها انتقلت شكلا وبقيت روحا لأن الهايكو من إنتاج بيئة معيّنة محكومة بخصائصها الثّقافية وإرثها التاريخيّ. كان يمكن للشعريّة العربيّة أن تعيد إنتاج ما يسمى بالشذرة أو الحكمة والغريب ألاّ يكون الشّاعر محكوما بالصّفة يحبّ أن يكتب شعرا ويسميه هايكو لأنه معني بالهايكو كشكل وفاته الشعر وهناك من انتصر للشّعر بغضّ النّظر إن كانت التّسمية هايكو أو غيرها. علاقة التأثير والتأثّر بين النّصوص والثّقافات أنتجت حساسيّة جديدة نبّهت الشّعراء بأن الشّعر لا يقيم في جغرافيا واحدة هو فوق الجغرافيا يعبر للإنسان تعبيرا ووصفا وتمثيلا. تحرّر الشّعر العربيّ في الآونة الأخيرة من قيد الأشكال التقليديّة وهذا باعتبار ما حدث من تنام على مستوى الكتابة. الكتابة الذكيّة هي التي تخلص للشعر بعيدا عن مسمى الأشكال. هناك عبارة مهمة لبيسوا لخّصت كل إرهاقات الثّقافة العربيّة البائسة قال أنا أكتب “نثر شعريّ”، وبعض النّقاد لا يزالون يناقشون في التّسمية شعر منثور – نثر شعري – قصيدة النثر – شعر حر – شعر التفعيلة ، هذه أضحوكة ثقافيّة عربيّة ومأساة حقيقيّة. الشّعر شعر حيث يكون وهذا ما علمه الشّعر العظيم حينما يتبادل التّحية.
– تعرف الساحة الأدبية العربية عموماً، هجرة الأدباء لنظم الشعر -خاصة العموديّ منه-، مقابل توجههم لفن الرواية والقصص القصيرة، أيمكن اعتبار غياب الوعي الشعريّ سببا لهذا النزوح أم هو رضوخٌ لتوجهات القرّاء الذين يفضلون الروايات أكثر من غيرها؟ أو أنَّ محمد خطَّاب يرى أن لهذا أسبابا أخرى؟
أولا هناك تأثير السّوق الذي يتنافى مع الإبداع والنّاس تماهت مع فكرة الانتشار والتّسويق. صار الشعر بضاعة كاسدة ولكن الرّواية فهي محل تبارز ومنافسة للحصول على الجوائز والهبات. مع العلم أن الرواية الحقيقيّة تحتضن الشّعر حينما تصل إلى نقطة متمركزة جدا في الحديث عن الحياة وتعقيداتها وعن الوجود ورموزه. دويستويفسكي كتب كثيرا من المقاطع الشعريّة نثرا حينما نقرأ ونعيد القراءة نشعر بأنّنا حقا إزاء شكل الرواية ولكنها ليست رواية بالمعنى الحقيقيّ هناك امتزاج للأشكال. بعض الكتّاب لا يزال مخلصا لنوع من الكتابة يفرضها المزاج والغريزة والموهبة. ولكن الشعريّ يتسلل بمحض طبيعته. هرمان هيسه الكاتب الألماني الذي كتب روايته الشهيرة ذئب البوادي أو إغواء المسيح لكازنتزاكي اليونانيّ أو فرجيل جيورجيو الذي كتب الساعة الخامسة والعشرون والأمثلة كثيرة كلها روايات بأنفاس الشعر. لم يكن هناك سوق يحكم الكتابة كان هناك إبداع يتخلّق في الصّمت والعزلة. لم يكن الشّعر يوما سببا في نزوح بعض الكتّاب للرّواية والقصّة القصيرة جدا. الكتابة الموضة هي السّائدة الآن ولكنها ميتة مع الوقت، أنا أعود باستمرار للكتابات الكلاسيكيّة أرى إلى كاتب كبير هو إيتالو كالفينو الإيطاليّ الذي كتب كتابا جميلا هو “لماذا نقرأ الكلاسيكيّين” لأنّي أجد في الكتابات القديمة التي لا ننتهي منها وجودنا في كامل تعقيداته وتعدده. فكرة الأجناس فكرة مرنة مع الكتابة تحتاج إلى ذكاء من الكاتب وثقافة متميزة ترتفع به نحو أفق الإبداع أما إذا كانت الكتابة ذات الزخم الكبير تابعة للسّوق الذي يعجّ بالعوام فهذا يتنافى مع فكرة الإبداع ذاتها.
– يُقال: ما الكتابةُ سوى اِنخراطٍ عنيفٍ في الانصات لدواخل المرء المشبّعة بالحلم، بالجرح وبالأمل، هي تعرية واضحة لتضاعيف الذَّاكرة بشعلة القصيدة، على ضوء ما سبق، هل يؤمن محمَّد خطَّاب أنّٓ الشِّعر اليوم قادرٌ على تغيير العالم إلى ما هو أفضل في كنف السِّلم والسَّلام، بعيدًا عن العنف، الحروب والصِّراعات الَّتي نتخبَّط فيها اليوم؟ أم أن هذا الادعاء يحمّل الشعر ما لا يحتمل، وقد يسقطه في خانة الأيديولوجيا؟
الشعر والتغيير المعادلة فيها التباس كبير، وهو هل الشّعر معني بالدّرجة الأولى بالتغيير؟ يعني هل التغيير مهمته الأولى؟ التغيير حدث يراد به التّحول من صفة إلى صفة مغايرة ومن حال إلى حال. الشّعر أكبر من الحدث هو طبيعة موجودة للبحث عن سبل أرقى للحياة. أن تظلّ الحياة تؤدي معناها النّبيل على رغم التّحولات. في خضم التغيير هناك حالات نادرة في تاريخ العالم صار الشّعر قائدا لهذه التحوّلات، الشّعر العربيّ في العصر العباسيّ قاد المعرفة إلى وجهة جديدة وأثمر في الفقه والفلسفة والتاريخ والعقائد والحياة أيضا. حينما يسود الشّعر في بيئة سيادة النحت مثلا في إيطاليا زمن النّهضة حيث كان كل بيت لا يخلو من نحّات هكذا تقريبا يمكن أن نقول أنّ كل بيت في بغداد مثلا لا يخلو من شاعر ثمّة نتحدث عن ثقافة “عصر” والتّحول كله يصبح بسيادة ذلك النّوع. لكن دور الشعر الآن في زمن مختلف كما كتب هايدجر عن الشّاعر ريلكه الشّعر في زمن المحن. أصبح الشّاعر يكتب لأنه يدرك بأنه وحيد في هذا العالم الذي لا يملك فيه إرادة التغيير لكن التغيير ذاته يتراكم ليشكل عصرا كاملا إن توفرت الكتابة الشعريّة الحقيقيّة.
– تعدَّدت وظائف الشعر بمرور الزمن، من البُكاء على الأطلال، الهِجاء، الغزل، إلى الشعر الصوفي والفلسفي، إلى نَظمِ المُتون، وقد ارتبطَ أحيانا كثيرة بقضايا وطنية أو دينية، فما سرُ تلك العلاقة بين الشِّعر والقضيَّة؟ هل تسمو طبيعة وصِفة الشعر بالقضية؟ أم تسمو القضية بالشِّعر؟ القضايا الثورية مثلا، وهل تكفي القضية لصناعة شاعر؟
غالبا ما نجد شعر القضايا بالمعنى الفنيّ شعرا رديئا إلا ما ندر حيث تكون القضيّة تابعة للشّعر وليس العكس مثل الشابيّ عكس مفدي زكرياء أو محمد العيد آل خليفة كانت السيادة للقضيّة الشّعر كان يلعب دورا ثانويا. حينما تنعكس القاعدة ويصبح الشّعر هو الذي يغلف الوجود تصير القضايا ذات معنى، محمود درويش اعتذر عن شعره السياسيّ لأنه اكتشف ذاته في شعر آخر مختلف ولم تغب قضيته فيه، في الدّواوين الأخيرة حضرت فلسطين متكتّمة ولكن بصورة مختلفة لأن الشعر كان هو الأول أما القضية فداخل التّجربة الكبرى. الشّعر غير معني بالقضايا المصيريّة، يتحول إلى لعبة لغويّة تستهوي الآذان، شعر أحمد مطر لا يبق منه سوى لحظة إنشاده كما يحلو للبعض. أحمد مطر يكتب لحظة ثم ينتهي سركون بولص يكتب وهو يستدعي كل الأزمنة. هذا هو الفرق بين شعر القضية وقضية الشعر.
– لا شكَّ أنَّ الشِّعر هو رسمٌ فنيٌّ للحروف في الذِّهن، كما أنَّ الكتابة هي رسم للحروف على الورق، وقد تطوَّر الخطُّ العربيُّ لأشكالٍ أكثر فنيَّة، كيف يرى محمَّد خطَّاب الخطَّاط من هذا المنظور، العلاقة بين الفنِّ والحرف والخطِّ؟
تجربة الخطّ صارت من الماضي وهي تجربة كانت تريد أن تعرف ما هو مدى الشعر؟ لاحظت بأن الحرف فيه طبيعة خلاقّة تمتاز بالمرونة فهو يستطيع أن ينقل الحالة الشّعرية بطريقة ما. وهذا يجده البعض بابا من أبواب التلقيّ الجديد للشعر حيث صار يكتب باليد وبالخطوط التقليدية حتى ينتبه القارئ بأنه ازاء فن له تقاليده وأصوله من جهة العين وما تبصر. إمتاع العين كان هدفا مزدوجا للشّعر والخطّ فحيث يشكل المعنى داخل النص عقدة معينة يجليه الحرف وهكذا وجدت بأنّي أمزج بين فنّين تجريديّين الشّعر والحرف. والتّجريد هو الفّن في حالته المستعصيّة ومع ذلك صار المعنى متبادلا للدّور بين الخطّ والشعر.
عن قصيدة رفقة، للشاعر اللبناني “وديع سعادة”.
النقاش دام ساعة من الزمن، نقلنا منه بعض مقتطفات من كلام الضيف و أخر من انطباعات الأعضاء.
نص القصيدة:
كان لا يخرج إلاَّ في الأيام المشمسة ليكون له رفيق:
ظلُّه الذي يتبعه دائمًا.
ينظر وراءه ليتحدَّث إليه، ليبتسم له.
يلتفت بخفَّةٍ لئلا يغافله على دَرَج ويتسلَّل إلى بيت
يخبره حكايات مشوِّقة لئلا يضجر منه هذا
الظلّ ويهرب،
في الصباح يُعِدُّ كوبين من الحليب، على الغداء يُعِدُّ صحنين،
وكان يعود إلى بيته عند غياب الشمس
يقعد على حجر
ويبكي حتى الصباح.
عن القصيدة:
أولا وديع سعادة يكتب بشكل متحرر من الأشكال السّابقة وهذا النّص يعد من قصيدة النثر بالمعنى الحيويّ للكلمة، الإنسان بصوتين هو والظل، لكن يجب أن ننتبه لا إلى الشكل وحده بل إلى بنية القصيدة بالكامل لنلاحظ كيف تبدأ وكيف تنتهي، بدأت بالحضور وانتهت بالغياب بدأت بالرفقة وانتهت بالوحدة ما الذي يمثله الظل إذن بالنسبة للإنسان؟
…متلازمات النّص تحتاج إلى بنية ذهنيّة، هناك نصوص فلسفيّة تتحدّث عن معنى الظّل وهي نصوص خطيرة وملغمة، الشاعر ليس غريبا عن ثقافة عاش في كنفها حتى لو لم يقرأ النصوص كاملة فله حدسه الذي يسوقه إلى حيث العمق.
التوحيديّ يقول لكل شخص ظلّ وأحيانا شخص ولا ظل المسألة متعلقة باليقين والشك بالموجود والظلال.
يجب أن ننتبه إلى الحكاية في النص، في النّص الظّل هو الحقيقة والإنسان يحكي حكايات لكيلا يضجر الظل، صار للظل معنى أقوى من هذا الإنسان الذي لا يخرج إلا في زمن تحقّق الظّل وينتهي به الأمر على رغم حكاياته ومخاتلته إلى البكاء صار للظّل قوة المعنى الإنسان هشّ أمام ما يتّصل به وهو الظّل، مع النّص نشعر بأننا نحن المتناقشون لم نختبر ظلالنا بعد، لم نفكر في الظّل حتى، لم نطرح أسئلة عنه ولا تمليناه في لحظة استفاقة والشّعر ينبهنا ويقول لنا قفوا قليلا مع أنفسكم ومع الأشياء البسيطة، مثلا ظلكم!
الغروب مصدر حزن الإنسان، لا نعرف أين تختفي ظلالنا ثم نلقاه في الصباح أو مع الضوء.
هناك معنى دراميّ في المثنى صحنين كوبين: فالإنسان يحاول أن يهزم الوحدة بالظل.
النّص يخاطب القارئ حينما يغيب عنه العالم ويجد نفسه وحيدا مع نفسه يأتي دور القصيدة وتعلن عن نفسها هذه الصور وهذا الحضور وهذه الأشياء كما قلت سابقا الشعر ينبه للحالة التي يغفل عنها الباقي. فقط لمجرد التذكير يقول لك الشعر هل فكرت يوما في كونك لا تطيق أن يهرب منك ظلك لأنك تحاول السيطرة وظننت نفسك أعلى من الأشياء وربما فكرت بكبرياء أنك الأقوى، ها هو ظلك يهرب منك هذا يعني نهايتك فأنت جسد ميت ولا ظل لك في قبر الحياة من دون معنى أنت إنسان بظلك ولست شيئا بدونه فعليك بمؤانسته ومخاتلته إن أمكن.
وعن الفرق بين قصيدة النثر والشعر الحر، قال الأستاذ خطاب: قصيدة النثر متحررة من الإيقاع الذي يساهم فيه الوزن الحر، حيث الجملة لا تتقيد بنمط إيقاعي معين وأثناء القراءة لا يشعر القارئ أنه إزاء رتابة موسيقية معينة. الموسيقى قتلت الشعر أصبحت هي الغاية ولكن قصيدة النثر أعطت الأولوية للتجربة وأساس ذلك اللغة والصورة التي تأتي مبنية على أساس مخيلة ذكية وبناء عام.
الشعر الحر هو شعر مقيد من ناحية أخرى تابع لنمط موسيقي غنائي خاص. لذلك صارت قصيدة التفعيلة لا تتحمل قوة الصورة التي تخرج بالشعر إلى نهايات لا تعرف. في قصيدة النثر يفقد القارئ حس الإيقاع ويدخل حس الصورة والمخيلة التي تبني التجربة.
وهذه بعض انطباعات للأعضاء أثناء النقاش حول معاني القصيدة:
عمر دريوش: حتى لا أخفيكم، لم أقرأ من قبل لوديع سعادة، لكن انطباعي الأول وهو لبناني، وعندما قرأت القصيدة، خطر على بالي شعر المهجر، ورمزية الطبيعة ( الشمس )، لكن جعلني ( الشاعر ) أفكر في تلك العلاقة العليّة، بين الانسان ونفسه، والانسان وغيره، لا بد لكل ظل من نور/شمس، كذلك قد تكون علاقة الانسان بنفسه وغيره عليّة بشكل ما، إذا انتفت العلة انتفت العلاقة.
منال بوخزنة: رفقة معنى لطيف، عن حاجةِ الإنسانِ للأنس، حتَّى في عزلته ووحدته، حتَّى لو كان ظِلًّاّ أو جمادًا، يبدو أنَّ الإنسان قادرٌ على اِلتماس الحياة والرُّوحِ فيما يحيطُ به.. الإنسان في النَّصِّ يبكي حين يغيب عنه الظِّلُّ، كما لو أنَّ ظلَّه هذا هو معرفتهُ أو ذاك الكيان القريبُ منه كذاتهِ، وكذلك السَّعادة هي ربَّما اللَّحظات الَّتي يتعرَّف فيها على ما يمكن أن يكون قريبا من ذاته -الظِّل- أو يُعرِّفه عنها، ويدخل في الحزن الإنسانيِّ العميق عند الغروب! عندما يغيبُ عنه الظِّلُّ! سعادة الإنسان في إدراك معناه، في استفاقته..
سلمى بوقرعة: قصيدة شاعرية تعزف حروفها لحنا روحيا يمزج الأمل مع الألم، تحدث فيها عن الظل كصديق، كذات، كخبايا نفس لا تظهر إلا بإشراقة شمس اليقين و الحقيقة التي تتناوب في شروقها وغروبها على حياتنا نحن البشر.. تخبرنا أن لحظات صدقنا مع ذواتنا تستلزم نورا يوضح التفاصيل الصغيرة التي تفقدنا زحمة الحياة القدرة على ملاحظتها… تخبرنا أن الاستماع إلى أفكارنا في عزلة هادئة، مريح لنا دائما.. وأن الأمر لا يحصل دائما… وأن أفضل مستمع لنا هو ذواتنا…
زين العابدين لطرش: أول ما تبادر إلى ذهني بعد قراءتها عدة مرات: لماذا “رفقة”؟ لم لم تكن “وحدة” مثلا؟ أي مفارقة عجيبة فيه هذه القصيدة تجعل من الأضداد شيئا واحدا، فهو وحيد لأن ليس معه سوى ظله، ولأن ظله معه فهو ليس بوحيد…
تغوص بنا “رفقة” إلى أعمق نقطة من محيط التساؤلات، حاثة إيانا بعد كل قراءة على إعادة التفكير في تعريف ما كنا نحسبه مسلما لا يحتاج إلى تعريف…كثير من الأسئلة، كثير من التخمين…ولأنه شعر حقيقي، لا إجابات جاهزة.
مصطفى بوخالفة: حينما قرأت الأعمال الكاملة منذ سنة تقريبا لوديع سعادة، الذي أعجبني في شعره أن اليومي يستحيل مادة للإبداع، بمعنى النظر للشعر كأفق للمعنى، شعره ليس تكلفا على صعيد شكل القصيدة أو روحها، هو بسيط وصادق ومبدع وخلاق، يلتفت لليومي ويعجنه في رؤية شعرية، قد تكون لحظة فارقة في حياة الانسان لو استبصرها جيدا كما أشرت أستاذ محمد في قراءتك لهذه الشذرة…يذكرني بمواطنه السوري رياض الصالح حسين كذلك.
بشرى بوخالفي: توجَّب عليّ قراءة القصيدة مرات عدة لسبر أغوارها، وهي التي تخفي خلف المعنى الجلي، معان أعمق. وديع سعادة في رفقة، يكتب للوحدة أكثر، لوحدة عانى منها في بلاد المهجر، فلم يجد غير الظل أنيسا له ولو لفترة من الزمن، أنيس يُنسينا ربما وحدتنا نهارا ليُذكرنا بأنّها ليلا، وحدة نخشاها لكنا نرجوها، فوديع نفسه كتب في ديوانه” قل للعابر أن يعود” : « وإن أردت رفيقا، فأي رفيق أعز من وحدتك » .في رفقة، لم يكن الظل مجرد صديق للذات وفقط، بل هو دلالة على حاجتنا للنور، لضوء الشمس ذاك، لينير دواخلنا المظلمة، ليعرينا أمام أنفسنا، فنرى ما أخفاه عنا الظلام، فنتصادق وذواتنا، نتقبل نقائصنا ونناقش أفكارنا، فمهما بدت لنا وحدتنا قاسية علينا، الا أنَّا نحتاجها، فلا أحد يجيد الانصات لمكنوناتنا غير ذواتنا.