انفجرت الولايات المتّحدة الأمريكيّة منذ أكثر من ثلاثة أسابيع، ومن بعدها العالم كلُّه، وهي تسمع أنين الأمريكيّ من أصولٍ إفريقيّة “جورج فلويد” قائلًا: «لا أستطيع التّنفس».. وانطلقت مظاهرات حاشدة عنيفة في اليوم التّالي كأنّها انتظرت هذه الفرصة طويلًا لتُخرج إلى العلن قبح إنسان الألفيّة الثّالثة الذي لا تزال نفسه تتمرّغ في أوحالٍ قذرة من العنصريّة “المنتنة” الخفيّة.
وبين جموع المحتجّين، ودعوات التّظاهر.. بين تدفّق التبرعات والدّعم الماليّ، وحملات المساندة على وسائط التّواصل الاجتماعيّ، بدا أنّ السّذاجة الإنسانيّة ستضع بصمتها هاهنا أيضًا.. وانتشرت على صفحات الانترنت صور لأشخاص صبغوا وجوههم باللّون الأسود، لعلّهم حاولوا -عن جهلٍ- أن يذكّروا أنفسهم بوحدة الإنسان بكلّ أعراقه وأجناسه، واشتراكه في الأحلام والآمال، لكن اتّضح أنّ الأمر خطير؛ لم يكن عليهم أن يصبغوا وجوههم أبدًا.. واتّضح أنّ هذه الحركة رمزٌ عنصريّ بغيض، هو البلاك فيس.
أشار المؤرخ “ديل كوكريل” بأن الطبقة العاملة والفقيرة من البيض والتي أحست بأنها منبوذة سياسيا، اقتصاديا واجتماعيا من طرف الطبقة العليا، وكذا من الطبقة السفلى، اخترعت “العروض المهينة1” كطريقة للتعبير عن الظلم الذي تعرضت له كفئة من الأغلبية، خارجة عن معايير “البيض العاديين”.
تعتبر هذه المسرحيات والتي تعرض “السواد” من طرف البيض، وتبالغ في الأزياء ومساحيق الوجه جزءًا من السخرية العرقية والصور النمطية إذ أن تشويه ملامح وثقافة الأفروأمريكيين – بما في ذلك الشكل، اللغة، الرقص، السلوك والشخصية- مكن البيض الأمريكيين من تقنين “البياض” عبر الطبقات الجيوسياسية كنقيض لـ”السّواد”.
عُرضت أولى المسرحيات المهينة في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر في نيويورك من طرف مؤدين بوجوه مسودة (عادة ما استعمل الفلين المحترق أو ملمع الأحذية) وثياب ممزقة وتم تقليد الأفارقة المستبدين في المزارع الجنوبية. شخصت فيها هذه العروض السود ككسلاء، جهلة، مؤمنين بالخرافات، ميالين للسرقة والجبن.
طور “توماس دارتموث رايس” والمعروف “كأب العروض المهينة” أول شخصية “بلاك فيس” معروفة، وهي “جيم كرو” في 1830. بحلول 1845، ولّدت شهرة العروض المهينة صناعةً ترفيهية فرعية، تصنيع الأغاني، القطع الموسيقية، مساحيق التجميل، الأزياء، بالإضافة إلى مجموعة جاهزة من الصور النمطية لتأليف مسرحيات جديدة.
ولعل شخصية “داركي” تعتبر أشهر مثال على البلاك فيس -أعين كبيرة، بشرة سوداء، شفاه بيضاء، وردية أو حمراء مبالغ بها، وأسنان بيضاء ساطعة- فقد صار موضوعا شائعا في الترفيه، أدب الأطفال -سامبو الصغير الأسود-، الألعاب -بوكيمون-، الكرتون – توم وجيري، بكس باني-، المجوهرات، الأقمشة، البطاقات البريدية وحتى معلّبات الطعام.2
اشتهرت عروض البلاك فيس بصفة خاصة في الفترة ما بين نهاية الحرب الأهلية وبداية القرن التالي في المدن الشمالية والغربية الوسطى، أين كان التواصل بين البيض والسود محدودا. ثمّ نمت عداوة البيض بعد سن قانون منع الاستعباد عندما اصطدمت الصور النمطية لما بعد الحرب مع مطالب الأفروأمريكان بحقوقهم المدنية كاملة، بما في ذلك الحق في التصويت. لا يمكن المبالغة في كمية تأثير العروض المهينة والصور النمطية على المجتمع الأمريكي، فقد قادت وسائل الإعلام الجديدة العروض من المنصة، عبر الراديو والتلفزيون إلى المسرح. كما أن بعض الممثلين الأمريكيين الشعبيين أمثال “شيرلي تمبل”، “جودي غارلند” و”مايكي روني” قاموا بـ”ارتداء” البلاك فيس، جارّين العروض المهينة عبر الأجيال، وجاعلين البلاك فيس متعة عائلية.
استمرّ البلاك فيس وتدوين السواد -لغة، حركة، سلوك وشخصية- ككاريكاتير عبر وسائل الإعلام الجماهيرية وفي العروض الشعبية اليوم. وبالإضافة إلى تزايد شعبية أزياء الهالوين “السوداء”، لازالت الجامعة، عبر التّراب الأمريكيّ، تحارب عروض البلاك فيس بمشاركة التلاميذ والأساتذة، وفي كل مرة تتمّ مواجهتهم يصرون بأنهم لم يقصد أي أذى أو كره عرقي.
لا يبدو أنّ كلّ هذا بقي في الماضي، وإن كان ذلك المراهق الأمريكيّ الغرّ منذ خمسة عشر عامًا قد وقع في فخّ البلاك فيس، وهو ينشر صورته بصبغة سوداء، ولم يتوقّع أن خصومه سينبشون هذه الصّورة من الأنقاض حين يتولّى مقعدا نيابيّا3، فلن يصبح من المستبعد أن مظاهر هذا التّرميز العنصريّ لا تزال حاضرة بين مشاهير اليوم، الذين يفترض أن يكونوا أكثر حذرًا وهم ينشرون صورًا وتصريحاتٍ عشوائيّة.
مغنّو الكيبوب الشّباب يصبغون شفاههم ووجوههم، ويعلّق أحدهم أنّه يبدو شبيهًا بشخصيّة كارتونية ذات إيحاء عنصريّ واضح4، وينشر آخر5 صورته مدمجة مع صورة مغنٍّ أفرو-أمريكيّ وهو يتمنّى للعالم سنة قردٍ سعيدة6. وهناك، في الجهة الأخرى من العالم، حين تقمّص الممثّل الكوميديّ الأبيض شخصيّة سوداء وابتذل عرضه7، ارتسمت صدمةٌ عميقة مؤلمة على وجوه كبار مشاهير أمريكا، وعبثًا حاولوا هضم النكتة سيّئة الطّعم. لا بدّ أنّهم تساءلوا إلى متى سيدوم هذا..
للأسف، يبدو أنّه سيدوم طويلًا.. وأنّ آمالنا في رقيّ حضارتنا سيتوجّب عليها الصّبر أكثر، وإلّا فما معنى أن نشهد إلى الآن إعلانات عنصريّة، ومنتوجات موضة من أقنعة تزلّج8 وأحذية وأدوات زينة9 شبيهة جدّا بما احتواه متحف جيم كرو من آثار ذلك الزّمن المؤلم10؟
المصدر الرّئيسي للمقال:
Blackface: The Birth of An American Stereotype
الهوامش:
(*): عنوان المقال مستوحًى من كتاب لـ ليندا دونالد بنفس العنوان، تتحدّث فيه تعليم الأطفال المفاهيم العنصريّة وكيفيّة التعامل مع كلّ الأعراق بشكلٍ راقٍ وصحيح.
(1): العروض المهينة، ترجمة مقترحة لكلمة Minstrelsies وهي عروض مسرحية قصيرة، هزلية، موسيقية غالبا كان يلون فيها الممثلون البيض وجوههم وأجسامهم باللون الأسود ليلعبوا دور سود والذين تم تمثيلهم بصورة أشخاص أغبياء، كسالى، مؤمنين بالخرافات ويحبون الرقص والغناء.
(2): Anti-Black Imagery
(3): State Rep. Anthony Sabatini under fire for wearing blackface in 2005 photograph
(4): K-pop Idols And Blackface: It’s Not Okay!
(5):Taeyang mixes a black face with his own, wishes a ‘happy monkey new year’
(6): سنة القرد هي السّنة السّابعة في التقويم الصّيني ذي الأساس الاثني عشريّ والذي يعتمد على دورة كلّ من الشّمس والقمر.
(7): The Trouble With Jimmy Fallon
(8): Blackface shoes and Holocaust T-shirts: Fashion brands’ most controversial designs
(9): Is Fashion Finally Ready to Face Its Blackface Problem?
(10): عصر جيم كرو، هي الفترة الممتدّة من 1876 إلى غاية 1965 حين كانت قوانين التّمييز العنصريّ ضدّ السّود مطبّقة في الولايات الجنوبيّة الأمريكيّة تحت حكم الدّيمقراطيّين. (ويكيبيديا)