عجلة الزمن وإن كانت تقود حياتنا. لكنها تبدو على غير ذلك وكأنها ساكنة، الأحداث نفسها تتكرر والأفكار بطريقة ما تجعلنا أكثر تدمراً. غير أن ذلك لا وجود له في حياة القارئ الذي يبحث كل يوم عن مخرج جديد.
ذاك الذي يمتلئ بالحيوية والأسئلة والكلمات الأدبية. والمواعظ الفلسفية، ولا أملك لنفسي تخيرا لأبدل جحيم هذا الروتين المثقل بالهموم وإن اتسعت بي الأرض ورحبت.
منذ ذلك اليوم عرفت بأن القارئ يطل على العالم من خلال كتبه. وأنا التي أمشي حافية على قدمي. لا أطل سوى على الأشخاص والأسواق والمحلات، أما المعنى فمفقود.
مالذي قدمته لنا الكتب؟
وضحت الصورة. و صححتها من حالة غلب عليها الاختلاط. إلى صورة منظمة و متسقة، لكن الصورة الجديدة لا تغلق الإمكانية لتصحيحها مرة أخرى بالبحث والقراءة الجادة، فالكتب تعلمنا درساً ثميناً وهو أن نترك الباب مفتوحاً دون أن نعتقد بأن ما نمتلكه من معارف هو الحقيقة الوحيدة والكاملة .
علاقة القارئ بالكتاب من أقدس العلاقات، يسودها احترام وتواصل. ينفي كل الاختلافات العرقية والاجتماعية. الكتاب الحقيقي لا يخاطب شعباً أو توجهاً دون آخر. بل الإنسان أين ما كان وكيفما كان. والقارئ الحقيقي يعلو ويتعامل بتحفظ لمن يخالفه في توجهاته.
ولنسلط الضوء على سؤال يناقش آفاق وحدود هذه العلاقة الحميمة. كيف يتعامل القارئ مع الكتاب؟ مالذي يجعله مرئياً من خلال ما يقرأ؟
نشبّه العلاقة القائمة بين الكتاب والقارئ بالعلاقة الموجودة بين المعلم والطالب. فهي تأخذ طريقين:
- من جهة إن الكتاب موضوع؛ الكتاب هو عبارة عن مجموعة نصوص، فجمل و كلمات وهذه الصورة الخارجية ضرورية بالقدر الذي يكمل محتوى ومعنى النص.
2. من جهة إن الكتاب مخاطب: الكتب تهدف إلى محاورة القارئ. والذي قد يصل البعض بأن الكتاب ملقٍ جيد للأفكار. مخطئ ومن ثمة فالمنحى يتجه نحو (التعايش). فالذي يقدم لنا فحوى ثقافي أو تاريخي لا يكتفي بإبراز الجانب الخام فقط. بل يقود العقل نحو تكيف جديد مع الموضوع، المعايشة الفكرية ضرورية لبناء الخلفيات المعرفية وتطوير المهارات العقلية.
من أهم الأسئلة التي تطرح على القارئ. و المجاورة لسياق “فلسفة القراءة”، هي لماذا نقرا؟
نحددها في العناصر الذهبية التالية:
- لأننا نجهل، وجملة ‹ لا أعرف › أكبر محفز لأن نقرأ، هذا الذي قد يبدو غير مقنع للبعض من الذين يعتمدون على وسائل أخرى معتقدين في نفعها بالكيفية التي تقصر الوقت والجهد. ممن يعتمدون على الأستاذ أو شخص مثقف. أو الوسائل التواصلية المتعددة. لكن ما رأينا؟ ألم نجرب ذلك ولم نحصل على الرؤية الشاملة التي عنها نبحث؟
كل الوسائل السابقة ناقلة ومعرفة لكنها لا تفي.
2. امتلاك شغف المعرفة، الجهل لا يوقظ أحدا من السبات. فالكثير ممن يعلم بلا درايته ويشعر بالأسف لذلك. خاصة حينما يتصادم مع أشخاص مثقفين. ولكن لا يعني ذلك أنه سيبذل جهده لتحصيل ما يجهله.
امتلاك الشغف ضروري لممارسة فعل القراءة “الحق شغفك ولا تأسف على ما تجهل”
3.التفاني، مقدمات الإرادة والحب مطلوبة لحصول التفاني حينما يلقي القارئ بنفسه بين أوراق الكتب الصفراء. في الوقت الذي تتحطم فيه آثامه الجهلوتية وتترأس أنواراً هادئة توقد ما كان مظلماً و بارد.
رغبة عارمة في احتدام النص والغوص في معانيه ومداولته.
القارئ لا يمل من الكتب إلا في حالتين:
إذ لم يتمكن من فهم ما يقرأ.
إذ لم تكن الكتب التي يقرؤها تستحق القراءة.
الحكمة من هذا العنصر “تجبر داخل المعاني المنطوقة بلسان الفكر”
4. لنمتلك حسا نقدياً، العلاقة التي حددناها بين الكتب والقارئ علاقة مجاورة لا تجاوز. فالقارئ الحقيقي هو الذي لا يعجب فقط بل يثار و يناقش. ويفتح الباب لهوامش أخرى. ولا قيمة للقراءة إلا بالنقد ولذلك فالقارئ مطالب بتقييم الكتاب من حيث أنه يمتلك وعياً به.
للنقد قيمة توسعية فالذي ناقشه الكاتب يمكن أن يوسعه القارئ من خلال قراءته المتعددة في الموضوع نفسه أو من خلال قراءته المحيطة بالموضوع نفسه. و النقد الذي يخرج من الجهلوتية أو الذاتية إلى الموضوعية هو النقد الأكثر احترافية.
القراءات الأيديولوجية تخرج عن هذا السياق. ما الذي نقصده بالقراءات الأيديولوجية؟
القراءات التي تنزع بضرورة إلى تغليب موقفها تجاه المُعارض. الماركسي مثلا يقرأ الرأسمالية من أجل أن يقيم دعوى تقدمية تطيح بذلك الاتجاه. كالبحث عن المَواطن التي لم يغطيها جيداُ. ومن ثمة فهذا النوع يخرج عن المحددات السابقة.
من أهم الأسئلة التي تطرح على القارئ _وهو يطرحها على نفسه أحياناً:
هل تحجب الكتب عنا رؤية العالم أو الذات؟ وهنا نقدم إجابتين:
1.إجابة تفنيدية: لا يمكن لغير المجرب أن يقيم حجته على أن الكتب تحجب عن القارئ رؤية الجوع والفقر والمجاعة والبطالة… وما إلى ذلك. بينما يمتلك القارئ وعياً بكل ذلك لكنه لا يثار إثارة الذهول.
2. إجابة تبريرية لما تمت معارضته: وهو أن الكتب تختزل الشئ الكثير المبعثر إلى القليل الكلي المنظم.
إن الكتب تحدث اتصالاً بين أزمنة متباعدة وتربط ماهو حاضر بما هو ماض ومستقبلي أفقي.
إن الكتب تقدم استيعاباً هائلاً للقارئ من التجارب السابقة.
القراءة ليست استغفالاً عن الذات. و الذي يقرأ يمارس فن الذات قبل أن يمارس فن القراءة. وهو في حالة أكثر حميمية مع ذاته من الآخرين.
قراءة الكتب من قراءة الذات لأن كل قراءة هي فهم جديد لتفكير إنسان آخر.
تمنح الكتب القارئ حياة ثانية. خلافاً للحياة الاعتيادية فهي من نوع خاص شبيه بالعبادة. سنظل نتعلم من الكتب ولا تكفي التجارب، والذي يقرأ بوجوده لا بنصه هو الذي يعيش في قلب الدفع.