ظاهرة المقاهي الثقافية تشكل – بلا شك – قيمة حضارية ومشهداً إيجابياً في المجتمعات التي ترنو إلى الارتقاء بالإنسان، وتنمية حسه بضرورة العيش المشترك وتبني القيم الجمالية والفنية.
في مصر، ثمة تقليد عريق بهذا الخصوص، إذ لديهم عشراتُ المقاهي الثقافية التي تهتم بأن يكون المقهى فضاءً مفتوحاً وحراً للنقاشات والتظاهرات الثقافية والأدبية والفنية الجادة.
ومن أشهر تلك المقاهي، مقهى ”الفيشاوي“ الذي تم تأسيسه سنة 1797، عاماً واحداً قبل حملة نابليون الشهيرة على مصر، وقد كان هذا المقهى مقصداً للعديد من الشخصيات الثقافية والسياسية البارزة، من كجون بول سارتر وسيمون دي بوفوار، ونجيب محفوظ، وعباس محمود العقاد، وعبد الحليم حافظ، وإحسان عبد القدوس، ومن قبلِ هؤلاء زاره الأفغاني ومحمد عبده وغيرهم، كما قصده سياسيون أيضاً كجمال عبد الناصر، وأنور السادات، وحتى عبد العزيز بوتفليقة.
في تونس اشتهر مقهى ”العياري“ خلال حقبة ماضية، وبعد أحداث 2011، انتشرت بعض المقاهي التي تأخذ طابعاً ثقافياً، لكنها لم تلق دعماً كافياً حسب بعض الأصوات، بسبب انشغال النخبة في تونس بالمسائل السياسية.
وفي في المغرب انتعشت في السنوات الأخيرة ظاهرة المقاهي الثقافية في عدد من المدن، ففي عام 2015 تأسست شبكة المقاهي الثقافية بالمغرب التي يرأسها حالياً ”نور الدين أقشاني“ وكانت خطتها نشر الثقافة في ما يسمى المغرب العميق، أو المدن الصغيرة الهامشية البعيدة عن المركز (الرباط) والمدن الكبرى.
وحسب بعض الأصداء تأسست مقاهٍ ثقافية في 28 مدينة، منها مدن ”جرادة“ و”تارجيست“ و”الفقيه بنصالح“ وغيرها من المدن الصغيرة التي يحاول أبناؤها احياء الحراك الثقافي.
أما في الجزائر فإن المقاهي الثقافية لم تشكل ظاهرة ثقافية مثلما هو الحال بالنسبة لمصر والعراق وسوريا مثلاً، وليست لها شعبية مثلما نجدها عند أشقائنا المغاربة، على أن الجزائر عرفت مثل هذا النشاط لكنه كان يفتقر دائما إلى الدعم والاستمرارية، على غرار مقهى الجاحطية الذي أشرف عليه الروائي الطاهر وطار واستمر لعامين بين سنتي 2003 و2015.
ومع ذلك ثمة بارقة أمل دائماً، ففي الأشهر القليلة الماضية عملت بعض الجمعيات الثقافية والفاعلين المستقلين على محاولة بعث المشهد الثقافي في الجزائر، من خلال تأسيس ما بات يعرف بالمقاهي الثقافية في بعض المدن الجزائرية، كبرج بوعريريج وأدرار وتلمسان ومعسكر وتيارت وحمام بوحجر.
وقد أخذت هذه المقاهي شعاراً أو “لوغو” مشترك قام بتصميمه “عمر دريوش” أحد مشرفي منصة النقطة الزرقاء الإلكترونية، وثمة تنسيق بين هذه المقاهي بإشراف بعض المثقفين والإعلاميين الذين يتقدمهم عبد الرزاق بوكبة، وقد أعربت وزارة الثقافة على دعمها لمثل هذه المبادرات التي تميزت بالاستقلالية والتمويل الذاتي.
إن مثل هذه المبادرات تحتاج إلى الدفع والتشجيع طالما كانت تدعو إلى إحياء المشهد الثقافي في الجزائر، وتعزيز قيم الجمال والحرية والتنوير، فمن شأن هذه المقاهي أن تخلق جواً لطرح الأسئلة الحقيقية وخوض النقاشات المفيدة والجادة والتركيز على ما يجب أن يكون بالضرورة في طليعة الاهتمام قبل غيره، فبدلاً من أن تكون المقاهي عنواناً للثرثرة والكلام الفارغ يجب أن نعمل على أن يكون المقهى كذلك رمزاً ثقافياً وفضاءً مفتوحاً على الثقافة الحرة ومنبراً لتعزيز سلطة الثقافة التنويرية في مقابل ما يتعرض له المجتمع الجزائري من تخريب في مقوماته الهوياتية من لغة وثقافة وإرث حضاري، تلك التي كانت دائماً عنواناً للانفتاح والاعتدال والوسطية.
تدقيق لغوي: محمد عيسى