“نصير كُتابا حين نكتب بإصرار وأناة دون أن نفقد إيماننا فيما نكتبه”
الكثير من القراء اليوم يعرفون رائدة الأدب البوليسي “أغاثا كريستي”، وليس الكثير منهم يسمعون بالكاتبة الغريبة المجرية “أغوتا كريستوف” [1935-2011].
تشابه الأسماء بين الكاتبتين كان قد دفع بأغوتا كريستوف لتكتب باسم مستعار في أولى كتاباتها حتى لا يقع اللبس، فكتبت تحت اسم “آيزاك “
أصدرت أول رواية لها سنة 1986 تحت عنوان “الدفتر الكبير” ولم تكن تتصور حينها بأن هذه الرواية ستحقق نجاحا يدفع بها لأن تكمل جزئين بعدها “البرهان” و”الكذبة الثالثة” ، فتكمل بذلك ثلاثية “المدينة كاف”، وصدر لها كذلك “أينك يا ماتياس” و”سيان” الذي لم يترجم بعد. أغوتا ذات قلم قصير النفس، فكل رواياتها قصيرة لا تتعدى المئتي صفحة. صدر لها أيضا رواية “أمس”، وسيرة ذاتية بعنوان “الأمية” .
نقترح الترتيب التالي لمن أراد أن يقرأ لها: “الدفتر الكبير -البرهان- الكذبة الثالثة – أمس- السيرة الذاتية الأمية”. حين نفتح الدفتر الكبير يتناهى إلى آذاننا صوت ثنائي متناغم، حتى كأنه صوتٌ واحد ووحيد، صوتٌ صغير، صوتُ طفل، ينطق حين ينطق بضمير “نحن” ويجعلنا نتساءل أين يمكن أن تغيب ال “أنا” ؟، هذه الصبغة الثنائية التي لونت بها أغوثا معالم الرواية كانت واحدة من المعالم الخاصة بها التي ميزتها ككاتبة.ذ
اختارت الكاتبة لهذا الصوت الثنائي شخصياتٍ أبطالا، شكَّلتهم في قالب طفلين توأمين، يعيشان ويلات الحرب، هما الراوي ونحن المستمع، وخلال رحلة الدفتر الكبير يجعلانِنا نرى العالم من زاوية طفلين اثنين مجتمعين في طفل واحد، وبقدر ما بعثا فينا الإيمان بأنهما واحدٌ، بثَّا فينا ما يشبه التسليم بأنهما اثنان منفصلان.
” إنهما يفكران معًا، ويتصرفان معًا، يعيشان في عالم آخر غير عالمنا. عالم لا يخصّ سواهما.
إنهما غريبا أطوار، لسنا ندري ما الذي بوسعهما التفكير فيه، يتجاوزان سنّهما بكثير، ويعرفان أكثر مما ينبغي أن يعرفا من الأمور” (اقتباس من رواية الدفتر الكبير)
إن رؤية العالم من زاوية طفل يمكن أن تعيد إلينا تساؤلاتنا الأولى التي غابت خلف ظلالِ الأعوام المتلاحقات، وظهورها أخيرا من وراء الظلال حريٌّ بأن يغير شيئا من قراءتنا للعالم، أو أن يحرك شيئًا من المشاعر الراكدة، يمتلك الأطفال عادة تلك القدرات الخارقة. كيف إذا رأينا الحرب من منظور طفل؟
“سنكتب: “نأكل الكثير من البندق”، وليس “نحب البندق”، لأن الفعل “أحب”، فعل غير مضبوط، فعل تعوزه الدقة والموضوعية. “أن نحب البندق”، و”أن نحب أمنا”،صيغتان لا تنطويان على المعنى نفسه. فالصيغة الأولى تقصد مذاقاً رائعاً في الفم، بينما تشير الثانية إلى إحساس.
الكلمات التي تصف الأحاسيس تظل مبهمة، الأحرى إذن الإعراض عنها، والإنصراف إلى وصف الأشياء، ووصف الآدميين ووصف أنفسنا، لنَقُل الانصراف إلى وصف الوقائع وصفاً أميناً” (اقتباس من رواية الدفتر الكبير).
حينها سنتساءل كيف لطفل أن يعالج مسائل من قبيل “تدريب النفس”؟، نقف أمام تدريب السكون، الجوع، والقسوة حائرين، نرقب طفلا يشق طريقًا يتعايش به مع واقع جديد،فيقفز فيه سنوات بعيدة إلى الأمام.
خارج الدفتر الكبير:
نغلق الدفتر، فيخبت صوت، ولا ينطفئ الآخر، ونجدنا فجأة أمام نغم وحيد، فيتسلل الشك إلينا أكان ما نسمعه حقا صوتا مشتركا؟ وتأخذنا أغوثا يمنة ويسرى، تسمي لنا الكتاب الثاني “البرهان”، تغير الزاوية، نكبر سنوات وترمينا بذلك مع الشخصيات وسط القصة، كأننا نتساءل كما تتساءل، وننتظر البرهان، هل كان ما كان حقيقة؟
في الكتاب الثالث، تمنحنا الحقيقة أخيرًا، ولا ينقذنا من الشك الذي أخذ ينمو طويلا، إلا معرفة “الكذبة الثالثة”.
“الأمية، سيرة كفاح مع اللغة والحرب والحكاية”
في “الأمية”، هذه السيرة التي قد تبدو مقتضبة في عدة صفحات متفرقة، فتحت الستار عن تلك القصص المحكية في رواياتها ليصبح لها بعدٌ واقعي ملموس لا مجرد حكايات من خيال، فتحدثت عن طفولتها وشدة ولعها بالقراءة، وكيف نما هذا الولع:
” أقرأ، الأمر أشبه بمرض، أقرأ كل ما تقع عليه يداي أو عيناي” (اقتباس من كتاب الأمية).
تروي قصتها مع الكتابة وتلك الرغبة التي تملكتها عندما انقطع حبل الطفولة الفضي واتصلت أيام الحرب الرمادية التي فرقتها عن عائلتها وأفقدتها حريتها، أحقا للكتابة هذا السحر الذي يبعث الروح من جديد؟ هذه الرغبة المُلحة في الكتابة والتي لا تخبو، ظاهرةٌ في كل شخصيات أبطال أغوتا.
يُقال أن الأدب هو موهبةُ أن نحكي حكاياتنا كما لو كانت تخص آخرين، وأن نحكي حكايات الآخرين كما لو كانت حكاياتنا وأدب أغوتا يشمل التعريفين، فهي تكتب قصتها وقصص من عرفتهم في زمن الحرب انطلاقا من شخصياتها، تكتب واقعها أيام الحرب، أيام المدرسة الداخلية وأيام الهجرة، والواقع الذي عاشته في سويسرا في معمل الساعات وذلك الجو الروتيني الذي صرحت مرة بأنه رغم ما يحمله من ملل، إلا أنه كان يعطيها مساحة من التفكير والحلم في الأشياء والكتابة أيضا. كما أنها كانت تؤمن بفكرة أن ما لم تعشه ربما باستطاعتك أن تشعر به، كما عبَّرت بذلك عن موضوع العودة إلى الوطن إذ قالت: “العودة إلى الوطن، حسنا.. أنا أعرفه”
“كيف يصير المرء كاتبا، وبغير لغته الأم”
لطالما كان فعل الكتابة تابعا لفعل القراءة، وغالبا ما تتوافق لغةُ كلا الفعلين إلا ما ندر، لكن أصعب شيء أن تكتب بلغة تقتل لغتك الأم، وذا حال أغوتا التي كانت من بين الكُتاب الذين كتبوا بالفرنسية ولم يكتبوا بلغة بلدهم الأصلي نظير ميلان كونديرا وصامويل بيكت.. لكن هناك فرق بينهم وهو كون أغوتا كتبت بالفرنسية لتتعلم معها كما يتعلم الطفل الصغير أي لغة، كتبت بها من الصفر، كتبت بها كتحد لامرأة أمية، وكانت متيقنة من أنها لن تكتب قطُّ بالفرنسية كما يكتبها الكتاب الفرنسيون ولادةً، بيد أنَّها كانت تملك إيمانا بأنها تستطيع الكتابة كأفضل ما يكون، ومن الطريف أن تصرِّح بأن الأمر كان مجرد لعبة، لعبة ترمي إلى معرفة إن كان في استطاعتها فعل ذلك.
“لم أختر هذه اللغة، لقد فرضتها علي الصدفة، فرضها القدر، فرضتها الظروف أنا مجبرة على الكتابة بالفرنسية، إنها تحدٍّ، تحدٍّ تخوضه امرأة أُميَّة”
بدأت أولا بكتابة بعض المسرحيات ومن ثمَّ كتابة نصوص قصيرة عن ذكريات طفولتها لتصير بعدها دفترا كبيرا قابلاً للنشر بعد التنقيح وما قبل الطباعة. وأكملت بعدها باقي السلسلة بجزئين مكملين للقصة “البرهان” و”الكذبة الثالثة”، فكأن الصدفة والأناة جعلتا من أغوتا كاتبة وأديبة رغم غربتها إلا أنها سطَّرت اسمها على صفحات الأدب.
“أغوتا بين الوطن والغربة”
كثيرا ما فرضت الحرب على الكثيرين هجرة الوطن والغربة. تصف أغوتا لحظة وصولها إلى سويسرا بعد مشقَّة عبور الحدود، بأنها كانت كصحراء، صحراء اجتماعية وثقافية، فلم تكن تتوقع حياة روتينية كئيبة في العمل، ومآسي صامتة وحربا نفسية مع التأقلم، فكان شعور الغربة طاغيا عليها وما كان سبب أحزانها كان هو نفسه مبلغ الأمان الذي وصلت إليه.
“كيف كانت لتكون حياتي لو أنني لم أهجر بلدي؟ أحسب أنها كانت ستكون أشد قساوة وأكثر فقرا، لكنها ستكون أيضا أقلَّ عزلة وأقلَّ تمزقا، ولربما كانت لتكون حياة سعيدة”
وهذا الشعور يبدو جليّا في روايتي “أمس” و”البرهان”، كلا الشخصيتين كانتا تتطلعان للعودة للوطن وتنشدان السكينة بين ظلاله برغم ما فيه من مآسي وآلام الحرب وما بعدها.
“أغوتا بين الانتحار والحياة”
الذي يقرأ روايات أغوتا الأربع يجد أن لدى كثير من شخصياتها مصير واحد : الانتحار!. ولأن ما تكتبه أغوتا فيه كثير من الذاتية وجانب من العدمية فقد يتبادر إلى ذهن أي قارئ بأنها لطالما حملت فكرة الانتحار في بالها أو فكرت بها نظرا لما مرت به في خضم الحرب التي شهدتها والتشرد والروتين القاتل أيضا.
يسألها الصحفي: “هل تحسين نفسك قريبة من الانتحار؟ فتجيب أغوتا: كلا كلا ليست لدي رغبة انتحارية، لأنني أجد الحياة قصيرة جدا، بعد الحياة سنكون ميتين طيلة الوقت، بإمكاننا إذا أن ننتظر الموت حتى يحين وقته”.
هذا التسامح مع الحياة رغم تبنيها فلسفة العدم وفكرة السيان جعل من أغوتا شخصية محببة .
إن كانت صبغة الثنائية التي لونت بها أغوتا الرواية واحدة من معالم طابع الكاتبة وروحها، فإن الصبغة الأولى التي تميزها تتجلى في ملامح العدمية الرمادية لأدبها، عدميةٌ يرسمُ تقاسيمَها الفقر وبؤس الحرب التي تحاصر الأحداث.
كأدباء كثيرين أغوتا هي الأخرى توقفت لفترة عند ثيمة الموت، هل يمكن أن نقول أنها في النهاية قد صورته من خلف نظارات العدمية الخاصة والمميزة لها؟ أم أنها كانت تتساءل عن مفهوم الموت وألقت بتساؤلاتها غير معلنة بين طيات الروايات؟
إن الموت حين يُتساءل بشأنه تكون الحياة قد تسللت لتسترق السمع من مكان قريب، سرعان ما يحين دورها، هما ثنائية تكاد لا تنفصل، وسؤال المعنى حيالهما يتحول لشبح يطارد العدمية حين تهم أن تهيمن بحضورها على حضورهما، هذا الصراع بين الثلاثة لا تخفيه لا الأحداث ولا اللغة ولا النظرة في أدب أغوتا، وكما يفعل الأدب يضعك وجهًا لوجه أمام الحقائق المتسترة بأحجبها، يحاول أن يكشف لنا عن وجهها، ولكن هل تملك الحقائق وجها واحدا؟ وهل يحمل أي وجه من وجوهها حلا لصراع ثنائية الحياة والموت مع سؤال المعنى والعدمية؟
لعل ما يضفي بريقا على عدمية أغوتا حضورُ مواضيع براقة تجسد سؤال المعنى ويشتد عند صراعه مع سؤال العدمية، وتهتف الحياة التي تتفاخر فجأة برعايتها لتلك الثيمات كاللغة، إن حضور اللغة التي تفرض سحرها الخاص أينما تواجدت يمكن أن يلون الصورة أمامك لفترة بلون غير الرمادي، وهي حاضرة في الثلاثية وفي “أمس”، وفي سيرتها ستتحدث عن خلفيتها وهاجس اللغة الذي رافقها.
الكتابة تكاد ترتبط باللغة في ثنائية خاصة في أدب أغوتا، وهي الأخرى تظهر كأنها مناضلة في صف الحياة، يلح السؤال مجددا، ويكاد ينطق فيقول: إن لم يكن في الحياة غير الكتابة لكفت، إن سر الحياة في الكتابة، وإن على كل امرئ أن يكتب كتابا واحدا في حياته على الأقل، وكأن أغوتا عندها تظهر في المشهد، تومئ رأسها موافقة ثم تختفي. لهذا تكتب كثيرا، تكتب هي على لسان الطفل والشاب والكهل.
الحب يحضر في أدب أغوتا غريبًا، كغرابة الشخصيات، لا يسلم من حوادث وظروف الحكاية، هل كان مشوها؟ وما هو شكله الأصيل لو كان مشوها؟ وكأنه لا يفوتها أن تضيف لتساؤلاتها أمام وجوه الحقائق سؤال الحب.
الموت كونه النهاية التي يتفق عليها البشر، هل يمكن أن نعتبره إجابة لصالح العدمية في الصراع الذي عايشناه في روايات الكاتبة؟ أم يمكن أن نتساءل حياله هو الآخر ونقول أنه رمز مناسب لنهاية صراع قديم كذلك الصراع؟ رمز لا يحمل معه الإجابة، الموت كما يقتل الحقائق ويخطفها، يختطف الإجابة في نهاية الرواية.
“أعمال أغوتا كريستوف، هل هي سيرة ذاتية مطولة؟”
أمام ترابط الأماكن والأحداث والشخصيات أو تشابهها حتى لتكاد تقدِّمُ لنا أنماطا خاصة بأدب أغوتا تشتركُ مع كثيرٍ من تجارب الكاتبة الشخصية التي تحدثت عنها في “الأمية”، أمام كل ذلك قد يبيح أحدنا لنفسه أن يتساءل في لحظة ما، إن كان في مقدوره أن يعتبر أدب الكاتبة أدب سيرة كلَّه، مختلفا بعض الشيء، مُحوَّرًا.. أو ربما شيئًا ما بين ذلك، مختلفًا.
تقول الكاتبة في واحد من الحوارات التي أُجريت معها:
“حقيقةً لقد حاولت كتابة قصتي وفي كل مرة أنتهي إلى كتابةِ شيء آخر، لذا أسمي ذلك أكذوبات، لكنني لم أتعمدها، هي تأتي هكذا..”*
ربما يمكن أن نقول أنَّ الأمر كان محاولة لكتابة سيرة مطولة، كان يعترضُ الخيال طريقها في كل مرة، وكأن الكاتبة لم تقْوَ على مقاومة سحر الاحتمالات المنبثقة أمام منعطفات الأحداث، حين يتاح لك أن تكتب قصتك، قد يدفعك الفضول لتندفع وراء المسارات التي لم تسر فيها في حياتك، ألم نتساءل لمرة كيف كان سيكون الأمر لو؟ .
إعداد : منال بوخزنة و قيس العايب
تدقيق لغوي: بشرى بوخالفي