شيءٌ ما لا أعلم به في عقول أحبائي/ في عقول من أشتاق إليهم دون رؤياهم/ أنا أتوق إلى مكان قبل أن يكون لي وطن/ حزينٌ قبل أن يموت لي/ أما الشيء الذي أترقبه في الدروب/ ما الذي أنتظره من المكاتيب/ من أين نفوني/ أين… هنا!..
يقول بولند أجاويد هذا في قصيدته المهاجر، وهي ليست القصيدة الوحيدة التي يعبر فيها الشاعر التركي (1957-2002) عن أحزان الغربة وقسوتها. إلاّ أنّه فضلا عن كتابته للشعر فإنّ تنظيراته في هذا الفن لها قيمتها المعرفية. فمنذ أن اشتغل بالسياسة وصولا إلى تقلده منصب رئيس حكومة أصبح يرى في الشعر لا وسيلة اتصال ولا طريقة للتعبير عن الفكر، إنما هي بتعبيره “منهاج تفكير”. ثم يبيّن أنّه “إذا أردت توجيه خطاب أو بيان للمجتمع، فلن يكون الشعر مطيتي إلى ذلك، في حين لا تخلو أشعاري من خطاب موجه أحياناً، وأحياناً أخرى تجدني أسعى لإخراج ذلك الخطاب من الشعر. لا أوجه نقداً إلى الذين يكتبون الشعر من أجل إيصال فكرة معرفية إلى المجتمع، لأن لهؤلاء فوائد تعود بالنفع على المجتمع والإنسانية جمعاء. لكن في الوقت نفسه لا أوافق من يحجم الشعر في حدود هذا الهدف. أنا أقوم بمهمتي الاجتماعية قدر المستطاع من خلال العمل السياسي، أقوم بها بتصريحاتي السياسية وبالفعل المباشر. أما الشعر فهو فعّاليتي الخاصة”
الفعالية الخاصة إذاً هي علاقة الشاعر بشعره أو المبدع بإبداعه فحتى “في الأوقات التي يكون فيها غارقاً في السياسة يمكنه أن يعيش عالمه الخاص ذاك بإحدى زوايا عقله وقلبه فيشعر بالشوق والحنين إليه”، وقد احتفظ الشاعر بمسافة مقبولة بين عمله السياسي الذي يحتم عليه الدخول في تواؤمات وقد يصل إلى تنازلات ما وهو يصرّح في واحدة من كتاباته أنّ “على رجل السياسة أن يكون في قلبه متسع للابتعاد الحر والكيفي عن مربع السياسة الضيقة عندما يتوجب عليه ذلك”.
وهو يحاول أن يؤكد أنه كان قادرا على هذا “الابتعاد الحر” عندما يعطي نموذجا شعريا كتبه بعنوان “الشاه”: في البدء تعارك المشاة/ كل منهم كالشعب/ والشاهات داخل الأسوار المحكمة/ كانوا مثل أسرى تحت الحراسة/ الوزراء والجياد والفيلة/ مستنفرة دفاعاً عن شاهها/ كل منهم أكثر حرية من الشاه/ لكن الأحرار/ يموتون سريعاً في الحروب/ بقي الشاه الفائز منتصباً/ داخل مربعه الضيق/ أما الشاه المغلوب على أمره/ فقد بعثوا به إلى المنفى/ وضعوا حداً لحكمه الشاهاني/ وضعوا حداً لأسره/ مخلفاً وراءه المربعات البيضاء والسوداء/ رحل بعيداً على أجنحة الحرية/ رحل بعيداً وحده.
عندما دخلتُ الشعر من باب الحرية -يقول أجاويد- أحسستُ بارتياح بالكتابة وبدأت أستفيد منه في بناء أفكاري وأكثر من ذلك تحررت بالشعر من أسر رجل السياسة، وأتلفت أغلب أشعاري القديمة التي أعتقد أنني كتبتها على عتبة الشعر، ولعلني تجاوزت عتبة الشعر إلى داخله حقاً عندما أصبحت رجل سياسة. ربما تجدون تناقضاً فيما أقول. لكن كما يقول لاو تسي: الحق متناقض أحياناً مع أنه لا يمكن كبت هاجس التواصل.
هكذا فإنّ الشاعر ينصح محبي الشعر، الشعراء الجدد من الشباب خاصةً بأن يفتحوا المجال لكتابة شعر يريد كتابته، لا شعرا يُراد له أن يكتبه. يقول: لهذا أنشر الأشعار التي قلت بأني كتبتها من أجل نفسي. وعندما يفكر ويكتب المرء من أجل نفسه فهو يفعل هذا من أجل الإنسان.. في البدء عليكم أن تفهموا أنفسكم كي تصلوا لفهم الآخرين، ولا يمكنكم أن تكونوا مفيدين في السياسة دون أن تفهموا ذاتكم والآخرين. وعندما لا تمارس الإنسانية حريتها في الشعر، فستخرج اللغة عن كونها وسيلة بيد الإنسان، بل سيصبح الإنسان وسيلة لها. وبهذا يصبح وسيلة الوسيلة. يخرج عن كونه فاعلاً ويصبح مفعولاً.
لعلّ الشاعر هنا لا يبتعد كثيرا عن رأي المفكر الألماني هامان Haman الذي كان يقول: الشعر هو اللغة الأم للإنسان فهو يعني هذا تماماً لأن القوة البدائية للعواطف الذاتية تكمن في جوهر الأشياء قبل تصنيفها بحسب خصائص معينة، وروايتها مادياً، وتقسيمها. ولعل المجتمع بلا شعر يبقى بعيداً عن لغة الإنسانية الأم ويكون مغترباً عن اللغة، وعن نفسه. وربما بولند أجاويد لم يكن يسعى إلاّ لأن يكون في شعره إنسانا.
إعداد: أمينة معمري