كيف أزيد من سرعتي في القراءة؟ هذا سؤالٌ يُطرح كثيرًا في أيامنا هذه وستجد الكثير من المقالات بشتى اللغات التي تحاول أن تعلمك كيفية القيام بذلك؛ كيفية قراءة خمسمائة وستمائة كلمة في الدقيقة. لكن يبقى السؤال لماذا؟
لماذا نقراأ الأعمال الأدبية العظيمة لتشيخوف وشكسبير ودوستويفسكي؟ هل لكي نعرف عمّا تدور القصة؟ لكن المشكلة أن الأدب والفن سواء أكان سردًا أو غيره لم يُصنع لكي نعرف القصّة ببساطة، لقد صُنع لكي نعيشه. فدوستويفسكي لم يكتب الجريمة والعقاب لكي يخبرك بأن شابًّا قتل امرأة عجوزا وأحسّ بالذنب. لقد كتب لكي يُخبرك بمعاناة البشر، أراد أن يصرخ من الألم الذي يسبّبه ذلك الشيء المسمى ضمير. إن القصص والروايات وكلَّ عمل يستحق القراءة لم يُكتب لأجل أن يُقرأ بعجالة، بسرعة ستمائة كلمة في الدقيقة، بل كُتب ليُقرأ بسرعة عودتك للقراءة بعد كل صدمة ودمعة وضحكة ونشوة تحسّها وأنت تقرأ. فكيف يمكنك أن تقرأ بسرعة خمسمائة ورقة في الدقيقة وأنت تقضي خمس عشرة دقيقة من الضحك من شدة الحزن وأنت تقرأ لتشيخوف؟
ويمكن فهم هذا المفهوم من المتعة لأجل المتعة القراءة لأجل القراءة ذاتها فيما دعا إليه المخرجان مارتن سكورسيزي وتيري جيليام من عدم مشاهدة الأفلام باستخدام الهاتف المحمول. فالفلم هو تجربة عيش حياة أخرى والتعمق بها. إنّها تجربة نراها عن طريق عين المخرج والمصور. لذلك من المستحيل النّظر إلى عالم جديد بالكامل، عالم من الغرائب ومتعة باستخدام نافذة أصغر من كف اليد. فإن أردت الحياة فعشها بعمق وإن أردت رؤيتها فانظر إليها بملءِ بصرك وإن أردت أن تقرأ عنها فاقرأها بكل جوارحك.
الفنّ خلق للمتعة، فهو تعبير الفنان عن ذاته بالطريقة التي أرادها هو، أو ما شاءته الظّروف القاهرة أحيانا، لكن على كل حال فهو ليس قصّةً تسمعها أو نقدًا تحفظه. فلا يهم ما الرسالة الاجتماعية التي يحاول تشارلز ديكنز إرسالُها أو الأفكار السّياسيّة التي يحاول جورج أوريل إيصالَها إذا لم تستطع أنت القارئ أن تستمتع بقراءتك لأعمالهما. إن لم تستطع رؤية ما يصفانه وشم رائحة النسيم الذي يتكلمان عنه والعيش هناك في العالم الذي خلقاه فأنت لا تقرأ عمل فنّيًّا بل جريدة الصباح.
والشيء نفسُه ينطبق على الفكر. نعم البعض يرى أن ميدان الفكر هو الحقيقة والمنطق، فلا يهمّ جمال الأسلوب ما دمت على صواب. ولذلك هناك قول روماني: “سقراط وأفلاطون أصدقائي ولكني أقدّر الحقيقة أكثر منهما” وفيه تمثيل لفكرنا عن المنطق والحقيقة حيث أنه شيء لا يقبل المجاملة والمداهنة. لكنّ شيشرو له رأي آخر حيث يقول: “أفضّل أن أخطِئ مع أفلاطون على أن أصيب مع غيره من الفلاسفة” فأفلاطون بغضّ النظر عن صحة أفكاره أو خطئها إلا أن التفكير معه شيء ممتع. وهذا شيء لا يأخذ حيّزَه المناسب من التقدير في عصرنا الحالي. أي التفكير لأجل المتعة. فالمتعة الناتجة من التفكير وعصر الذهن والذهاب إلى عوالم مجردة من الأفكار هي واحدة من أعظم متع الحياة التي دمرها الفكر الأرستقراطي الحديث.
هذا النوع من التفكير باحثٌ عن الفائدة والمنفعة في كل شيء؛ فالفكر يجب أن يكون منتجًا وذا فائدةٍ للمجتمع والقصصُ يجب أن تحوي معنًى وتساعد في تعليمنا درسًا أخلاقيًّا أو شيئًا من هذا القبيل. وعصرُنا الاستهلاكي الذي لم يكتفِ بخلق سوق جديدة من الترفيه المبنيّ على المتع اللحظية الزائلة فقط ولكنه يلجأ أيضاً إلى الفن الرفيع والأدب الكلاسيكي في محاولة لتسليعه وتحويله إلى منتج حديث و”كول” يناسب متطلبات عصرنا السريع. لذلك ستجد نسخا مختصرة من الحرب والسلم، وملخصات لملاحم هوميروس، وكذلك نسخا تمت إعادة تعديلها لأعمال برنارد شو وشكسبير لكي تناسب ذائقتنا العصرية. فكم شخصًا في عصرنا الحالي يجلس لساعة أو أكثر مستمعًا لمعزوفة من معزوفات موزارت أو بيتهوفن؟ ليس لأن عليه معرفتَها لكي يكون “مثقفا” بل لأنه حقا يستمتع بها ويستمتع بالعالم الذي تنقله إليه هذه الموسيقى.
في النهاية الحياة وُجدت لكي نعيشها ونستمتع بها. الفن، الأدب، الرسم، الشعر، الحب والصداقة ليست طريقةً لكي نحقق أهدافَنا بل هي الهدف الذي يجب أن نسعى إليه، ولذلك لا معنى لحياتنا إن لم نستطع أن نعيشها ولا معنى للفن إن لم نستطع أن نستمتع به. نعم الفن سيعلمك الكثير وسيهذبك كثيرا لكنها جميعها فوائد جانبية، فمن يريد التعلم عليه بقراءة الكتب المدرسية التي تسبب الانتحار.
يقول هنري ديفيد ثورو:
لقد غصتُ في أعماق الغابة،
لأني أردت أن أعيشَ متعمدا.
لقد أردت أن أعيشَ بعمق،
أن أرضع لُبَّ الحياة…
لكي أسحقَ كل ما ليس بحياة؛
ولكي لا أكتشفَ عند موتي،
أني لم أعش حياتي.
تدقيق لغوي: كرنيف ربيحة.
وهو ما كنت أظنه فعلا ،فقبل انخراطي في مجموعات للقراءة ،كان لدي اعتقاد ذاته فالقصص والروايات مثلا تنتبه إلى تفاصيل دقيقة لن تجد لها ذكرا في مصادر أخرى،وكنت اغرق في قراءتها ويستغرق ذلك وقتا طويلا ،ولكن بعد انفتاحي علىعالم القراء وما اطلعت عليه بصحبتهم من طرائق عديدة للقراءة اصطدمت بالقراءة السريعة وأثرها السلبي على متعتي القديمة