تاريخ ‘الفلم’ – الجزء الثاني: الأخوان لوميير.

اِعتمادا على ما قد سمعتَ، أو قرأت من قبل، أو عمّا ذكرناه في الموضوع السابق، من المرجح أن يكون لديك اِنطباع أن الفضل في تطور تكنولوجيا “الفلم” بكامله يرجع بالدرجة الأولى للمخترع الشهير توماس إديسون وموظّفه الأقل شهرة ويليام ديكسون، في الواقع ذلك خطأ جسيم. صحيح أنّهما معا اِبتكرا أداتين مهمتين في تاريخ تكنولوجيا “الفلم”: الكينتوغراف -أساس الكاميرا-، والكينتوسكوب -آلة عرض لشخص واحد-. ولكن كما عُرف إديسون في العديد من قضايا براءات الإختراع بنسبها إليه، التقدير الذي تَحصَّل عليه يرجع كذلك للعديد من العظماء الآخرين.

في نفس الوقت الذي كان فيه إديسون وديكسون يقومان بإنتاج الصور المتحرِّكة -أفلام- بأستوديو بلاك ماريا (Black Maria) في أمريكا، كان العديد من المخترعين الآخرين يحاولون تقديم لمستهم بتكنولوجيا “الفلم”. ففي مدينة ليون الفرنسية بالتحديد، شاهد أخوان فرنسيان جهازيْ الكينتوغراف والكينتوسكوب وقالا “يمكننا القيام بما هو أحسن من ذلك”، وكان ذلك ما قاما به فعلا. ففي خلال سنتين قاما باِختراع آلة خفيفة الوزن، آلة تقوم بالعملين معا، تصوير الفلم وعرضه كذلك، حيث اِكتشفا طريقة لاِستغلال آلية الكاميرا في عرض الفِلم المحمض الذي تم تصويره، باستعمال ضوء أبيض يمر من خلال شريط الفلم. ليعرض على حائط كامل أو شاشة، لمنح المشاهدين الفرصة في تجربة الفلم معا، وبمصادفة جميلة -أو ربما القدر- كان اسمهما العائلي “لوميير”، الذي يعني “الضوء”. وأصبحا أول من قام بعرض “الفلم”.

“السينيماتوغراف” الخاص بالأخوين لوميير

ولد الأخوان أوغوست ولويس لوميير سنة 1860 بشرق فرنسا، واِنتقلت عائلتهما سنة 1870 إلى مدينة ليون، أين فتح والدهما مصنعا صغيرا للألواح الفوتوغرافية، صِنعة الأب سرعان ما جعلت الأخوين مولعين بها. ومثلها مثل أيّ تجارة أخرى أصبحت مهدّدة بالإفلاس في وقت لاحق. ترأس الإبنان المصنع بعد ذلك واِبتكرا آلة تساعد على تشغيله بشكل آلي، بالإضافة إلى اختراعهما ألواحَ تصويرٍ أكثر تطورا.

في الوقت الذي شرع فيه الأخوان المساهمة في إثراء تكنولوجيا “الفلم”، كانت لهما خبرات عديدة في المجال العملي، الهندسة، التصنيع والتصوير. مع افتتانهما بجهازي إيديسون اكتشفا عيوبهما كذلك. الكاميرا كانت ثقيلة الوزن للغاية، أما آلة العرض فكانت ذات استعمال فردي فقط. قررا صنع نسخة أحسن للكاميرا، حيث طورا ميكانيكية تحريك شريط الفلم بداخل الكاميرا أثناء التصوير اعتمادا على مبدأ عمل آلات الخياطة  لتصبح بذلك أكثر سرعة في اِلتقاط صور -Frames- وكذلك في عرضها. من الجدير بالذكر أنَّهما لم يكونا الوحيدين الذبن كانا يعملان على إيجاد حلولٍ للمشاكل الهندسية -التقنية- للكاميرا وآلة العرض، فقد كان هناك العديد من المخترعين في أوروبا وأمريكا يعملون بشكل مستقل في سبيل تطوير ما سيصبح مستقبلا “السينما”. ففي سنة 1897،  قدم أوسكار ميستر Oskar Messter، ألماني مختص بصريات -أصبح لاحقا أحد رواد صناعة “الفلم”- تصميما مُبهرا لميكانيكية تحريك الشريط باِستعمال ما يسمى Maltese Cross أو محرك جنيف Geneva drive  الذي كان يستعمل في الساعات الميكانيكية. لازال يستعمل لحد الآن في بعض آلات العرض Projectors.

مسنن ميستر أو ماسمي لاحقا بمحرك جنيف

آلة الأخوين العجيبة كانت عبارة عن صندوق خشبي محمول، خفيف بما يكفي لحمله من قبل شخص واحد. وكانت تشتغل بواسطة ذراع تدوير يدوي، أي أنّها لم تكن تحتاج للكهرباء. كانت تستعمل نفس نوع الشريط المستعمل في كينتغراف إديسون ذي الـ 35 مم، ولكن كانت لها ميزة أخرى وهي تحميض الفلم الذي تم تصويره، دون حاجة العودة إلى المخبر لفعل ذلك. وبمجرد أن يتم تحميضه يمكن إعادة ضبط الآلة لتصبح آلة عرض. مميّزات عدة في جهاز واحد. يمكنك حمله معك حول العالم، تقوم بالتصوير، تحميض الفلم، وعرضه على حائط أو شاشة في أي وقت، وفي أي مكان تريد.

مقارنة مع الكينتوغراف والكينتوسكوب، آلة الأخوين لوميير كانت قفزة تكنولوجية نوعية، تشبه الانتقال من أجهزة الهواتف النقالة القديمة إلى الأجهزة الذكية. رغب الأخوان في تسميتها بـ “السينيماتوغراف Cinematograph” والتي تعني “الكتابة بالحركة”. كانا رجلي أعمال لامعين تماما كإديسون، وأمّنا اِختراعهما بتسجيل براءة اختراع عالمية باسمهما. كانت لهما نظرة خاصة في قوة عرض محتوى لجمعٍ غفير. قبل الإعلان عن “السينيماتوغراف” الخاص بهم، أقاما سلسلة من حفلات العرض الخاصة أين عرضا أفلاما لمجموعة منتقاة من الضيوف، سعيا منهما لكسب الاهتمام والإشهار. بعد ذلك في باريس بتاريخ 28 ديسمبر من سنة 1895، في صالون إنديان Salon Indien الذي كان يقع بقبو الغراند كافي Le Grand Café، عرض أوغست ولويس لوميير سلسلة من الأفلام القصيرة مُغيِّرين العالم إلى لأبد.

من الأمانة أن نذكر أن السبق الأول في عرض فلم لجمع غفير لم يكن لهما في الواقع. ذلك الشرف يعود حسب علمنا إلى وودفيل  لايثم Woodville Latham، كيميائي أمريكي، أحد ملاك الكينتوسكوب، حيث عرض فلم عبارة عن “مباراة ملاكمة” بنيويورك بتاريخ ماي 1895 أي قبلهما بحوالي سبعة أشهر. ما قلب الكفة لصالح الأخوين لوميير هو الدعاية لآلتهم، بالإضافة للجودة العالية لأفلامهم المتعددة التي عرضاها مقارنة به. بالأخير تلك هي صناعة الأفلام، صاحب الدعاية الأقوى يربح دائما. لهذا فالفضل في التجربة الناجحة الأسبق تذهب إلى الأخوين لوميير.

من ضمن الأفلام التي عرضها الأخوان لوميير بتلك الليلة كان “وصول قطار لمحطة لاسيوتا The Arrival of a Train at La Ciotat Station “، فلم بسيط لدرجة أن العنوان يصفه بشكل كامل. في لقطة منفردة غير متقطِّعة، قطار يأتي باتجاه الكاميرا، يتوقف، ويبدأ المسافرون بالصعود. تقول بعض الإشاعات أنه عندما شاهده المتفرجون لأول مرة معروضا على شاشة عرض على الحائط، كان واقعيا لدرجة أنهم حاولوا الهروب من القاعة، خوفا من أن يدهسهم القطار، تم تفنيد هذه القصة من قبل المؤرخين لعدة أسباب، أولها أن مشاهدة صور معروضة على حائط لم تكن بالتجربة الجديدة لغالبية الباريسيين. فالعديد من آلات عرض الصور استُعمِلت كذلك في الدراسة والترفيه منذ القرن السابع عشر. دون أن ننسى أن غالبية جمهور الأخوين لوميير كان على الأرجح يعرف أفلام الكينتسكوب، لذا يمكن القول أنه من المستحيل أن يعتقد أحد ما بجدية أن القطار كان سيخرج من الحائط ليدهسه. ربما كانت أشبه بصرخة تلذذ بحجم ووضوح الصور المعروضة، وبأنها أصبحت حية. الفلم يعرض لنا وهم الواقع، وكمثل أي خدعة سحرية جيدة أو وهم مرئي، جزء من التشويق هو معرفة أن ما تراه ليس حقيقيا، والأكثر تشويقا هو عدم القدرة على معرفة كيف قام به الساحر.

قصة صراخ المشاهدين بـ “الغراند كافي” تبين لنا القوة التي يمتلكها الفلم بخلق تجربة جماعية، صحيح أن التقنية السحرية لـ “سينيماتوغراف” كانت إبداعا بحد ذاتها، لكن أعظم إسهام للأخوين بتاريخ “الفلم” هو سيكولوجية اِرتياد السينما الجماعية الإبداعية. عندما تكون ضمن مجموعة من المتابعين لفلم ما، فأنت تحصل على تجربة شخصية مميّزة. فكِِّر بآخر فلم كوميدي هستيري شاهدته بقاعة سينما، وجرب بعدها إعادة مشاهدته بمفردك في المنزل.الشعور ليس مشابها أليس كذلك؟

الفلم هو أداة فنية إبداعية، يمكنها اتخاد معانٍ متعددة اعتمادا على متى، أين، ومع من تشاهده.

قاعة عرض لاغراند كافي

أفلام الأخوين لوميير كلها تمتلك نفس الخصائص، أفلام صامتة، أبيض/أسود، لقطات متواصلة، مدتها أقل من دقيقة. تماما كأفلام “ماريا السوداء” لإيديسون. لكن بدلا عن تصوير أداءات عروض ومونولوجات، أفلام الأخوين لوميير كانت عبارة عن وثائقيات قصيرة، عرفت بـ Actualités والتي تعني “أحداث الساعة”. صوّرا أكثر من 40 فلما مركزا على أجزاء من الحياة اليومية بفرنسا، “طفلان يتشاجران على فطور”، “مجموعة من العمال يخرجون من مصنع بعد نهاية اليوم”، بالإضافة -بالطبع- إلى “وصول القطار إلى المحطة”. أفلام نجحت في كسب إيرادات جيدة للغاية للأخوان.

مجموعة من العمال يخرجون من مصنع بعد نهاية اليوم

جديرٌ بالذكر أن أحد أفلامهما قد تم تصويره بالجزائر العاصمة، عام 1896، زمن الإحتلال الفرنسي لها، فلم صوّر حالة من التعايش السلمي بين المستعمر والسكان الأصلييين. مركزين على جمال العاصمة. منها “ساحة الحكومة” التي كان يتوسّطها مشعل “ألكسندر بروميو” وتمثال “الدوق أورليانز” الذي يعتبر أول تمثال تم تصوريه سينمائيا. إضافة إلى عدة مدن أخرى منها ولاية بسكرة وتلمسان وسيدي بلعباس. رافقهما والدهما الذي كان مُصوِّرا فوتوغرافيا، وقام بالتقاط عدة صور ملونة، بعضها تم عرضه للبيع بمزاد علني بفرنسا سنة 2016، لما تمثله من تراث فريد باعتبارها أحد أول الصور الفوتوغرافية الملونة بالتاريخ. زار الأخوان لاحقا عدة دول عربية، منها تونس سنة 1896، ومصر صاحبة النصيب الأكبر من صور الآثار وغيرها من المعالم ما بين 1897 و1907.

شارع “باب عزون” العاصمة -1986- من تصوير الأخوان لوميير
أحد أفلام الأخوين لوميير لمدينة الجزائر العاصمة

 في نفس الوقت بأمكنة مختلفة من العالم، كان العديد من المخترعين الذين ألهمهم الأخوان لوميير يبتكرون شبائهاً لـلـ “سينيماتوغراف”، بأسماء مبتكرة كـ “البيوسكوب Bioskop” و “التياثروغراف Theatrograph”. لاحظ إديسون النجاح المالي الذي حققه الأخوان وحاول تقليدهما بتخليه عن الكينتوسكوب مُتوجّها نحو آلات العرض الجماعية. بدأ إديسون -وبعض المخترعين الآخرين- محاولاتهم في تجربة صنع أفلام مدتها أطول، لكنهم عانوا من مشكلة، شرائط الأفلام المطولة تلك كانت تتقطع وتتشابك داخل آلة العرض، إلى أن جاء وودفيل ليثم -الذي ذكرناه سابقا على أنه أول من قام بعرض فلم علني في الحقيقة- وحقق براءة اختراع عن “عقدة ليثم Latham loop”، طريقة جديدة مختلفة في تمرير شريط الفلم عبر آلة العرض، تضم زوجا من العقد المرتخية لشريط الفلم -واحدة بالأعلى، والأخرى بأسفل عدسة آلة العرض- مثبتة بمكانها بواسطة تروس إضافية. ساعد هذا في حماية الشريط من الاِهتزاز الشديد، الذي لطالما كان يؤدي إلى تلفه.

تصميم “عقدة ليثام”

سنة 1895، استعمل تشارلز فرانسيس جينكينز Charles Francis Jenkins  و توماس آرمات Thomas Armat -وهما مبتكران لامعان آخران-  “عقدة ليثم” في آلة عرض من تصميمهما وأطلقا عليها اسم “فيتاسكوب Vitascope”.  بعد أن شاهد إديسون اِختراعهما، قام بشرائه بشكل كامل عليهما، وأصدره تحت اسم “فيتاسكوب إيديسون”، متجاهلا بشكل تام فضل المخترعين الأصليين، هكذا كان أسلوب إديسون.

خلال كل هذه التجارب، ظن أغلب الناس أن الأفلام مجرد موضة ستختفي بعد سنوات قليلة، تماما كعدة أمور سبقتها. فحتى الأخوان لوميير اِبتعدا عن مجال صناعة الأفلام سنة 1905، لأنهما لم يريا مستقبلا للفلم.كان معهما حق نسبيا، فحتى عروض الخمسين ثانية لفودفيل Vaudeville و”أحداث الساعة Actualités” لن تمتع المشاهدين لفترة طويلة. لكن الفلم كان ينمو ليصبح شيئا أكبر -قاعدة تواصل جماهيري-  وشيئا لا غنى عنه في المستقبل.

“السينما اِختراع لا مستقبل له” -لويس لوميير

بمرور الزمن، أخد صنّاع الأفلام “السينيماتوغراف” إلى أماكن متعددة حول العالم، مصورين أفلاما لحوض الأمازون، أهرامات الجيزة، روما القديمة…. بشكل مفاجئ، أصبح بإمكانك الدخول لقاعة عرض في مدينتك لتشاهد أناسا بعيدين عنك كالسكان الأصليين لهضبة التبت. بشكل ما، هذه النوعية من الأفلام جعلت من العالم متقاربا، كاشفة للناس معالمَ لم يكونوا يقدرون على تجربتها في الحياة الواقعية، يمكنك مقارنة تاريخ الفلم مع الأيام الأولى لليوتيوب. فيديو “أنا بحديقة الحيوان me at the zoo” لجواد Jawed، وفيديوهات القطط والأطفال، لكن تلك كانت أشبه بخدش سطح وسط سيجعلنا نخلق عدة أشياء غريبة وجميلة ومهمة، غيرت من طريقة رؤيتنا لأنفسنا وللعالم الذي يحيط بنا.

في هذا الجزء قدمنا قصة الأخوين لوميير وآلتهما “السينيماتوغراف” -الكاميرا التي جمعت كل المميزات من آلة تصوير، مخبر تحميض أفلام وآلة عرض-، تعلمنا عن أول عرض فلم علني، وكيف بدأ الناس بتجربة مشاهدة الأفلام بشكل جماعي. ناقشنا “أحداث الساعة Actualités” التي كانت عبارة عن مقتطفات للحياة اليومية، وكيف أن بعض صناع الأفلام بدؤوا في استكشاف العالم وصنع أفلام أطول.

في الجزء القادم سنتحدث عن أول فلم يحكي قصة، مستعملا التحرير Editing والمؤثرات الخاصة Special effects للتلاعب بالواقع بشكل حماسي جديد.

تدقيق لغوي: عمر دريوش

المصادر:

The Lumiere Brothers: Crash Course Film History
الأخوان لوميير.. 132 عاما على ميلاد السينما العالمية في الجزائر-
-Lights! Camera! Action! How the Lumière brothers invented the movies
-A window on infinity: rediscovering the short films of the Lumière brothers
-Inventors and artists: The Lumière Brothers
-April 21, 1895: First US Movie Projector Demonstrated
-the Father of the German Film Industry’
-Fleet French filch film glory

كاتب

الصورة الافتراضية
BELBEKRI Nasreddine
المقالات: 0

تعليق واحد

اترك ردّاً