سوفقليس، فرويد اليونان القديمة.

يعتبر سوفقليس أحد الكُتّاب التراجيديين الثلاثة العظام في تاريخ اليونان ومع “أسخولوس ويوربيديس“. يعتبر سوفقليس أكثر الثلاثة نجاحا من حيث الجوائز، فقد فاز بأكثر من 20 جائزة لمسرحياته وفي الحالات التي لم يفز فيها كان دوماً يحصل على المركز الثاني.

ألف سوفقليس ما يقارب ال120 مسرحية ولكن مع الأسف لم يبقَ منها بشكل كامل إلا سبعٌ فقط ترجمها الدكتور عبد الرحمن البدوي جميعاً في مجلد واحد بعنوان تراجيديات سوفقليس، سنحاول التكلم عنها باختصار في هذا المقال.


إنّ الموتى هم وحدهم المُعفَونَ من الألم.


يمتاز سوفقليس عن معاصريه بتحليلاته النفسية وإبرازه للصراع الداخلي في صدور الشخصيات. فأغلب المسرحيات اليونانية عادة ما تتعامل مع الأساطير والقصص التاريخية التي يعرفها الشعب الإغريقي عن ظهر قلب. فتميز سوفقليس عن نظرائه بإظهاره للصراع النفسي والقلق والخوف الذي تعانيه هذه الشخصيات التاريخية التي اعتبرها الإغريق كما لو أنها شخصيات في أحداث تاريخية مفروغ منها. فقد أعاد الحياة لهؤلاء الأبطال والشخصيات التاريخية، لا عن طريق تصوير بطولاتهم ومعاركهم ولكن بتصويرهم كبشر يصارعون قوة تفوقهم وتتغلغل في دواخلهم وكيفية تعاملهم مع هذا النزاع بين ما يرغبون به وبين ما يحصلون عليه.


لقد قدم سوفقليس الكثير لفن المسرح. فهو نفسُه كان ممثّلاً لأغلب مسرحياته في شبابه لذلك اهتم بتصوير الشخصيات بشكل واقعي وقرر إعطاءها خلفيات مرسومة على الورق لإعطاء المشاهدين حسًّا واقعيًّا بأن ما يشاهدونه يقع حقًّا على جانب القصر أو الشاطئ أو أي خلفية أخرى. قدم سوفقليس أيضا أسلوب الحوار الثلاثي، فبدلاً مما كان شائعا من كون الحوار بين شخصيتين في الغالب، أدخل سوفقليس شخصية ثالثة، مما جعل الحبكات أكثر تعقيداً وإثارة للقارئ.

تعد مسرحيات سوفقليس مصدرا غنيا للباحثين في الميثولوجيا والأساطير الإغريقية ولقراء المسرحيات الذين يستمتعون بقراءات هادئة وشخصيات معقدة. فالمسرحيات التي تركها تعتبر عملا فنيا خالدا في تحليل الشخصيات وكشف خبايا النفس البشرية بغض النظر عن قيمتها التاريخية والدينية.

وقد بقي لنا من سوفقليس هذه المسرحيات:

1- آياس.

تتناول هذه المسرحية قصة البطل آياس، أحد أهم المحاربين في اليونان وقد كان يعتبر المحارب الثاني في جيش اليونان بعد أخيليس الشهير. بعد موت أخيليس وبعد إقامة جنازته المهيبة احتار القوم في مصير أسلحته، ففي العرف اليوناني كانت الأسلحة تسلم في العادة لابن الميت أو خليفته من الأبطال وهكذا كانت أسلحة الأبطال العظام مثل أخيليس تعدُّ شرفاً عظيماً لمن يحصل عليها. فحدث النزاع بين آياس البطل المغوار وبين أودسيوس الملك الماكر.
ولأنه كان صديقاً لملك اليونان فقد قرر الأخير منح أودسيوس أسلحة أخيليس فاستشاط آياس غضباً نتيجة لذلك وملأ الكره قلبه فقرر قتل كل من تقع عينه عليه فذهب نحو المعسكر بنية قتل اليونانيين وقادتهم، وعندما رأت الآلهة أثينا حامية أودسيوس ذلك ألقت بسحرها على آياس فدخل على حظيرة الحيوانات وعاث فيها قتلاً وذبحاً ظنّا منه أنه يقتل جنود اليونان ولم يبقِ سوى على حيوان واحد ظنا منه أنه أودسيوس الماكر لأنه أراد أن يتلذذ بقتله ببطء.

تبدأ المسرحية بعد ذلك بعد أن أفاق آياس من أوهامه، فمنذ أن عرف ما قام به والضلال الذي كان فيه، احتار في أمره وبدأ مناجاته الشخصية حول خياراته. فهو لا يستطيع العودة لدياره بعار خسرانه غنيمته “أسلحة أخيليس”، ولا يمكنه قتل اليونانيين الذين أهانوه لأنه يبدوا أن الآلهة تحميهم. ولا يريد أن يذهب إلى طروادة ويجندل فرسانها حتى يقتله أحدهم، لأنه لا يريد لأودسيوس أن يفرح بموته على يد العدو. فيقرر أخيراً أن يأخذ حياته بيده وينتحر.

تركز هذه المسرحية على الصراع الداخلي والمنولوج الفردي لآياس في الكثير من الأحيان. فنحن هنا أمام محارب صنديد قد أقفلت أمامه كل الطرق؛ أهينت كرامته وكبرياؤه من قبل البشر والآلهة على حد سواء. فلا مهرب لأنه لن يحتمل إهانة ثالثة، وليس هناك من طريقة لمواجهة أعدائه، فرغم قوته وثقته بنفسه إلا أنه لا يستطيع مجابهة الآلهة. فهنا نقابل حالة تقليدية من الفرد ضد العالم؛ عندما يواجه الفرد قوة تفوقه بمراحل كبيرة ولا يملك خيار القتال ولا التراجع فيبدأ الصراع النفسي ليس حول أي الطرق أفضل للفوز بل أيها أقل إهانة وذلّّا.

 2- أوديب ملكًا.

يقول تيرسياس المتنبأ مخاطباً أوديب:
“لم يطحن القدر أحدا بقسوة أشدّ مما سيفعله معك”


هل هناك شخص ما لم يسمع باسم أوديب؟ ذلك الذي خلده فرويد رغماً عنه بعقدة من أشهر عقد علم النفس. تدور هذه الأسطورة حول أوديب الذي كان والداه عقيمين فلما استشارا الوحي أنبأهما أنهما سيرزقان بطفل قريبا، لكنه سيقتل أباه ويتزوج أمه. فخوفاً من هذا المصير قام لايوس –والد أوديب وملك ثيبا- بالتعهد بأنه لن يقرب زوجته أبداً. ولكن في ليلة ما يشتد السّكر عليه فيضاجعها لتحمل بطفل. ليقررا بعد ذل التخلص منه بتسليمه لراعٍ يلقيه من أعلى الجبل أو يقتله. فيأخذه ذلك الراعي ويشفق عليه، فارتأى له مصيرا آخر؛ إذ فضل إعطاءه لراعٍ آخر من كورنثوس بشرط أن يأخذه لمكان بعيد جدا.

في تلك الفترة كان ملك كورنثوس وزوجته عاقرين فقرر الراعي أن يهديهما هذا الطفل فربّياه كما لو كان ابنهما ولم يخبراه بالحقيقة. في شبابه سمع أوديب بعض اللغط حول أصله، لكنه لم يفصل فيه، فذهب للوحي للاستشارة فأخبره أنه سيقتل أباه ويتزوج أمه. ولأنه كان يظن أن ملك وملكة كورنثوس هما والداه قرر الهرب منهما ومن هذا المصير.

في رحلته، وفي مفترق طرقٍٍ، يركب عربة مع شخص ما ويتشاجران فيقتله أوديب هو وحرّاسَه القليلين. وبعد ذلك يقابل الاسفنكس وهو وحش خرافي كان يعذب أهل ثيبا ويقتل المسافرين فهزمه بذكائه. ومكافأة على ذلك قرر شعب ثيبا تنصيبه ملكاً عليهم وتزويجه من الملكة لأن الملك قد قُتل في مفترق طرق بطريقة غامضة لا يعلم أحد أحداثها.

وهكذا يعيش أوديب الذي قتل أباه من دون علمه ونام في فراش أمه لعدة سنوات وأنجب منها ولدين وبنتين؛ أولاده وإخوته في الوقت نفسه. وهنا تبدأ المسرحية مع لعنة تحلّ على مدينة ثيبا، فيخبره المتنبّّئ بأن الحل الوحيد لرفعها هو إيجاد قاتل الملك السابق “لايوس” وأن هذا القاتل يعيش في مدينة ثيبا.

فيبدأ أوديب بحملة للبحث عنه وبتهديده وبرمي اللعنات عليه، حتى يكتشف أنه هو هذا الشخص وأن الملكة هي أمه. بعد ذلك تنتحر أمه\زوجته بمجرد معرفتها بذلك، ويعمي أوديب نفسه عقابا لنفسه على فعلته الشنعاء تلك.

 هي مسرحية مقاومة إن صح التعبير؛ فأوديب يعيش في رخاء كملك عادل حتى تحل اللعنة وتبدأ عملية البحث عن الجاني والذي يبدو أنه هو، لكنه يقاوم هذه المعرفة فهو لا يريدها أن تكون حقيقية وكلما ظهر دليل يدل على فعلته يقاوم ويقاوم حتى يكتشف الحقيقة الكاملة؛ حقيقة أصله. فأوديب ولايوس ويوكاسته –زوجة لايوس وأوديب- كلهم حاولوا مقاومة مصيرهم وكلهم فشلوا.

يحاول سوفقليس تصوير الإنسان وهو يُجَرّ صاغراً ومقاوماً ومعانداً لكي يلبي مصيره المحتوم. فداخلهم جميعهم يعرفون ما معنى النبوءة وأنه لا يمكنهم الفرار منها فلا مهرب مما قد كتب. ولكنهم يهربون ويمكرون ويحاولون أن يخاتلوا القدر، لكنه منتظِرهم من البداية، فمقاومتهم ليست إلا جزءًا من اللعبة. إن المسألة ليست محاولة الهرب من المحتوم كما يظن البعض بل هي شيء أقرب لعدم التسليم طواعية. فإن كان هذا القدر سيأتي فهم لن يجلسوا خانعين مستلمين، بل سيحاربون حتى أخر رمق في عروقهم.

3- أنتيجونا.

يمكن عد هذه المسرحية من أول المسرحيات النسوية في التاريخ. وقد كانت من الروعة والحرفية أن أهل أثينا قد كافئوا سوفقليس عليها بأن جعلوه قائدا حربيا. هي أكثر أعمال سوفقليس تعقيدا ودرامية لكثرة الحركات والحوارات الدرامية فيها. تتناول حياةَ أنتيجونا، وهي إحدى بنات أوديب سابق الذكر . فبعد معرفته بما اقترفته يداه أعمى أوديب نفسه ونُفي وتوفي خارج ثيبا في قصة سنذكرها لاحقا، في غيابه تنازع ولداه على كرسي الحكم؛ فحكم اتيوكل الذي كان مسنودا من خاله كريون وقام بطرد أخيه فولونيقوس.

 في البداية اتفق الأخوان أن يتقاسما الحكم، فيحكم كلٌّّ منهما لمدة سنة، لكن اتيوكل رفض لاحقا وطرد أخاه من المدينة. فذهب فولونيقوس وبمساعدة من صهره قام بجمع جيش جرار ووزعهم لسبع فرق، كل فرقة يقودها بطل يتولى بابا من أبواب ثيبا -كانت سبعة أبواب- وعرفت هذه المعركة بالسبعة ضد ثيبا. بعد حصار طويل قاده فولونيقوس على مدينة أخيه، قرر الجمعان أن يُحسم الأمر بمنازلة ما بين الأخوين، فيها يقتل الأخوان بعضهما البعض فينسحب الجيش الغازي الذي كان تحت قيادة فولونيقوس. ويصبح بذلك كريون خالهم هو الحاكم الشرعي للبلاد فيأمر بإقامة التجهيزات اللازمة لدفن اتيوكل وترك جثة فولونيقوس لتأكلها الحيوانات.

وهنا جانب مهم فرغم التشديد العظيم الذي نملكه في ثقافتنا الإسلامية وحتى المسيحية على دفن الموتى حتى لو كانوا أعداء، إلا أنه لا يوازي الأهمية التي يملكها اليونان لهذا الطقس المهم. فدفن الميت ليس فقط تهدئة لروحه، بل إن الشخص الذي لا يدفن بشكل صحيح عندهم لا يمكن لروحه أن تخرج إلى محطتها الأخيرة، فهي تبقى أسيرة هذا الجسد المتفسخ. والآلهة لا تسامح أي شخص يمنع أو يعارض دفن الموتى.

تمثل أنتيجونا هنا الطبيعة البشرية مقابل الطبيعة السياسية لكريون. فكريون يرى في فولونيقوس مجرد (مواطن)خائن قد أحضر جيشا أجنبيا لغزو مدينته، أما أنتيجونا فترى أنه (إنسان) وأنه أخوها ومهما فعل فهو يستحق دفناً لائقاً.

تتناول المسرحية محاولة أنتيجونا معارضة أوامر الملك ودفن أخيها بنفسها رغم ضعف موضعها؛ فهي أوّلا مواطن ضعيف أمام ملك قوي وثانياً امرأة أمام رجل. وعلى الرغم من ثقافة الإغريق إلا أن رجعية أفكارهم بخصوص مكانة المرأة تساوي رجعية أفكارنا الحالية في المجتمع العربي وربّّّّّّّّما أسوأ.  ولكن رغم هذا ورغم وحدتها وضعفها تسير في خطتها لمنح أخيها الدفن الذي يليق به.

فالمسرحية تصوّّر ذلك الصراع ما بين طبيعتنا البشرية وطبيعتنا السياسية فأيهم أولى وأقدم؟ من جانب، هناك كريون الحاكم الذي لا يرى سوى مصلحته ومصلحة بلده المادية وهناك أنتيجونا التي يحركها دافعها الأخوي والديني لدفن هذه الجثة.

أنتيجونا: أنا من أولئك الذين يحبون، لا من أولئك الذين يكرهون.
كريون: إذن ما دام لا بد لك أن تحبي، فاذهبي تحت التراب لتحبي الموتى أما أنا، فطالما كنت حيًّا فلن أجعل امرأة تسن لي القوانين.

 4- الكترا.

الكترا، ابنة أجاممنون قائد الجيوش اليونانية ضد طروادة والذي قتلته زوجته وعشيقها إيجيست. تتناول هذه المسرحية ذات البطولة النسائية شخصية الكترا الصابرة والعنيدة التي اضطرت للعيش في قصر أبيها مع الشخصين اللذان قتلاه واللذان يذيقانها مرّ الأهانات والتنكيل، لكن رغم كل ذلك ترفض أن تنكسر، بل تحافظ على أنفتها وشموخها منتظرة اليوم الذي يعود فيه أخوها أورست لينتقم لأبيها ويعيد الحق لأصحابه.

تتناول هذه المسرحية عودة أورست ولمّ شمله بأخته وكيفية تخطيطهم معاً لقتل أمهم وزوجها الفاجر. على الرغم من البطولة النسائية إلا أن هناك اختلافاً بين شخصيتي الكترا وأنتيجونا، لأن الثانية شخصية قوية ومقدامة وتدافع عن حقها بنفسها وتفعل ما تشاء حتى لو عرضها ذلك للموت. ولكن الأولى رغم أنفتها ومعارضتها لوالدتها وعشيقها إلا أنها لا تقوم بأي فعل مباشر، بل هي شخصية سالبة وخاملة تنتظر عودة أخيها الذي سيقوم هو بالانتقام أما هي فستوفر الدعم النفسي فقط.

ربما تشكل هذه مفارقة من نوع ما، فالكترا على عكس أنتيجونا تشكل البطلة المثالية في الفكر الذكوري، سواء أكان ذلك في اليونان أو في الحضارة العربية أو الأوربية، فهي شخصية ذات شموخ وكبرياء وقيم عالية لكنها لا تقوم بأي فعل مباشر ومادي بل توفر الدفء العاطفي والدعم النفسي. فهي الأميرة التي تنتظر الأمير المقدام الذي سينقذها ويحملها على حصانه الأبيض. أما أنتيجونا على النقيض من ذلك؛ شخصية شرسة وقوية وترد الكلمة بألف والصاع بعشرة. ليست قوية جسديا لكنها لا تنتظر من أحد أن يساعدها أو يعطف عليها، فرغم امتلاكها لخطيب إلا أنها لا تطلب مساعدته في دفن أخيها لأنها مشكلتها وستحلها بنفسها حتى لو كلفها هذا الشيء موتَها.

وهنا مفارقة ثانية؛ وهي أن أنتيجونا التي تخالف -الطبيعة- اليونانية بكونها امرأة تقوم بفعل مادي ومباشر ينتهي أمرها بالموت، أما الكترا التي تأخذ دور المرأة المثالية فينتهي أمرها بموت أعدائها وعيشها في رغد وسعادة. الفكرة أن أنتيجونا خالفت طبيعة ذلك المجتمع على الرغم من أن ما فعلته صحيح، لتصبح كياناً لا يمكن للمجتمع أن يتقبله في وسطه.

وهذا الشيء واضح في جميع الحضارات والثقافات. فمتى ما قررت المرأة أو أي فرد من المجتمع أن يكسر قيوده ويخرج من الإطار المرسوم له فله أن يتوقع أن ينبذ بشكل ضمني أو حرفي مثل جرائم القتل التي تطال النساء في جميع الأنحاء والتي تحصل بموافقة ضمنية من غالبية المجتمع. فعملية القتل هذه تمثل عملية (تصفية) للعناصر المختلفة أو غير النظامية في المجتمع الذي يقوم بسحب العضوية من المرأة الحرة وبذلك يسلبها من حقها في العيش، فكيانُها يختلف تماماً عن كيان هذا المجتمع.

وهكذا يبين سوفقليس في مسرحية أنتيجونا أنه لم يكن هناك أي أمل لها فحتى لو أصاب مرض ما كريون وقتله في مكانه فهي يجب أن تموت لأنها خالفت دورها كمواطن وكامرأة عندما قررت أن يكون لها رأيها الخاص وأن تسير وفق حريتها وما يمليه عليه ضميرها وليس ما تم إخبارها بأن تفعله وبذلك تصبح كيانا جديدا مجهولا وغير معرفٍ في قاعدة بيانات المجتمع، وهذا الشيء يخيفه فليس -هناك شيء أكثر رعباً من المجهول- ولا يجد المجتمع حلا سوى قتل هذا الكيان الجديد أو نبذه، فأكثر ما يخيف المجتمعات المحافظة هو ولادة أفراد لا يخضعون لوصايتهم الأبوية أو الدينية أو السياسية.

5- أوديب في كولون.

تتناول هذه المسرحية حياة أوديب بعد أن نُفي من مدينته وانتشرت قصته في جميع أراضي اليونان، زمانها: قبل المعركة ما بين أولاده. يصل أوديب إلى حواف مدينة أثينا برفقة ابنته أنتيجونا التي كانت ترافقه، ويطالب القوم بالتكلم مع ملكهم، ثيسيوس الذي قد صوره سوفقليس على شكل البطل اليوناني المثالي؛ فهو شاب قوي وطموح ومتهور قليلاً لكنه شهم ومقدام.

يلتقي أوديب بثيسيوس خارج أسوار أثينا حيث يخبره أنه سيموت هنا وأن دفنه في هذا المكان سيجلب بركات كثيرة لأهل هذه المدينة. وعند ذلك يصله نبأ النزاع ما بين ابنيه. ويأتي صهره كريون الذي طرده من ثيبا ويحاول استمالته بالكلام المعسول وإعادته للمدينة ولكن أوديب يدرك الغرض من هذا الشيء وهو منح بعض الشرعية لابنه اتيوكل ضد أخيه فيرفض. ويكشف أمام الناس الخداع والمكر في خطاب كريون وفي كلامه المعسول المملوء بالسم ومحاولة دفع أوديب لاختيار أحد أولاده على الآخر. وعند رفضه دعم اتيوكل يقوم كريون بخطف أنتيجونا وأختها أسمينا ويهدد أوديب بهما.

في تلك اللحظة يعود الملك ثيسيوس للقاء أوديب بعد أن تركه لقضاء بعض المهام وبمعرفته بعملية الخطف يقبض على كريون ويقرر حجزه حتى يتم تحرير بنات أوديب ويقود بنفسه حملة مقدامة لاستعادة الفتاتين وينجح بذلك. ليطلق سراح كريون بعدها.

بعد ذلك يصل فولونيقوس ويحاول أيضاً أن يستميل والده لصالحه لكن أوديب الذي قد أهين من قِبل كلا ولديه قبل طرده من ثيبا يؤنب فولونيقوس ويغضب من قيامه بجلب جيش أجنبي لغزو مدينته. وفي النهاية يذهب مع ثيسيوس حيث سيكون مأواه الأخير بشكل سري.

لقد كتبت هذه المسرحية في نهايات حياة سوفقليس، فنجد فيها الكورس وهم شيوخ أثينا الطاعنون بالسن بالإضافة مع أوديب في لحظاته الأخيرة. المسرحية مليئة بحكم الحياة وآلام العيش والتسليم النهائي لكبار السن بقرب الموت ومحاولة تقبله. كما نجد حكمة نهاية الحياة والنظرة الغيورة والتبجيلية للشباب المتمثل بملك أثينا وما يمثله من قوة وشجاعة يفتقدها كل من أوديب والشيوخ. وكذلك مسألة نقل الحكمة والبركة والتي على الشيوخ القيام بها؛ فبعد الهرم تنتفي قيمة الرجل من الناحية الجسدية فيتحول نحو النصح وإسداء الحكم للشبيبة المندفعة. وهذا يمثل دور أوديب والشيوخ في هذه المسرحية فهم يوفرون الحكمة التي يفتقدها الشباب.

6- نساء تراخس.

تتناول هذه المسرحية النهاية المأساوية لأشهر بطل في التاريخ وهو هرقليس، الذي غاص في أعماق الجحيم وخرج منه سالما معافى، لكنه قُتل بسبب الحب.

مغامرات هرقليس كثيرة تخلّّّّدها أساطير وقصص عديدة، لكن هذه المسرحية تتناول مغامرته الأخيرة. كان هرقليس متزوجا من ديانيرا، وأثناء سفرهم في أحد الأيام وجدا نهرا فائضا وظهر هناك القنطور نيسوس واقترح أن يحمل ديانيرا إلى الضفة الأخرى على ظهره، لكنه كان يكره هرقليس أشد الكره وينتظر الفرصة للانتقام منه على قتله أفراد قبيلته في الماضي، لذا أثناء حمله ديانيرا حاول أن يغتصبها فصرخت منادية زوجها، الذي قام بتوجيه أحد سهامه السامة، والتي لا تخطئ، نحو نيسوس فقتله. كمحاولة أخيرة قبل موته، خدع نيسوس ديانيرا فأخبرها بأنه نادم على فعلته وتكفيرا عن ذنبه سيخبرها بسر: وهو أنه في حال أحست في يوم من الأيام بأن حب هرقليس قد قلّ تجاهها فما عليها إلا أن تأخذ بعضا من دمه –نيسوس- وتدهنه على قميص هرقليس فيعود لحبها من جديد. فصدقته ديانيرا وأخذت القليل من دمه وخبأته في قارورة.

تبدأ المسرحية بعد عدة سنوات من هذه الحادثة حيث ديانيرا تعيش لوحدها في القصر ولا تعرف شيئاً عن زوجها الذي اختفى منذ 15 شهراً. بعد ذلك يدخل ليخاس رفيق زوجها ليخبرها بأن هرقليس سالم ومعافى وأنه قد عوقب من قبل أحد الآلهة بأن بيع كعبد لمدة سنة، ومنذ أن تحرر من نير العبودية قرر هرقليس أن ينتقم من مدينة تراخس التي كان عبداً فيها يتلقى الإهانات، فشنّ حربا عليها وأسر الكثير، من بينهم فتيات، سرعان ما تكتشف ديانيرا أن الحرب على مدينة تراخس لم تكن بسبب الإهانات التي تعرض لها هرقليس، بل بسبب الحب الذي يملكه لإحدى الأسيرات ورغبته في الحصول عليها.

عند ذلك تقرر ديانيرا استخدام سلاحها السري، فتدهن الدم على قميص هرقليس وترسله بيد الرسول كهدية لانتصاره. ما إن يلبسه حتى يلتصق بجسده ويبدأ جلده بالاحتراق بشكل مرعب، فيبدأ بالصراخ والعويل بشكل مفزع حتى أن أحداً لم يتجرأ على الاقتراب منه. وبعد معرفتها بما اقترفت يداها تقتل ديانيرا نفسها. وبعدها يصل هرقليس محمولاً على لوائح خشبية بالكاد يتنفس، فيطلب من ابنه أن يبني له محرقة ويرميه في النار فيقبل الابن القيام بذلك ولكنه يرفض أن يشعل النار بيده فهو لا يمكن أن يقتل أباه مهما حدث.

تركز هذه المسرحية مثل آياس على مفهوم الندم والحوار الداخلي للشخصيات فالحدث الرئيسي في هذه المسرحية هو معرفة ديانيرا بمصاب زوجها، وأنها هي التي جلبت هذا الشيء عليه من فرط حبها له. فكيف يمكنها التعامل مع كونها قاتلة زوجها وحبيبها؟ غيرتُُُهاه واتّباعُها لنصائح غير حكيمة هي ما أوصلها إلى هذا المكان. وبهذا كانت هذه المسرحية مثالاً على مساوئ الإفراط، سواءً في الحب أو في الكره.

7- فيلوكتيت.

الحرب لا تهلك أي شرير عن طيب خاطر، أما الأفاضل، فعلى العكس من ذلك تهلكهم الحرب في كل ضربة.

بعد أن أصيب هرقليس بإصابة قاتلة قام ابنه ببناء محرقة من خشب لكي يموت عليها وينهي ألمه، ولأن الابن لم يستطع قتل والده ترك هذه المهمة لشخص آخر. لكن لم يجرأ أحد على الاقتراب من هرقليس الذي كان يفور من الألم وكانت صرخاته تهز الأرض وترعب كل من يحاول الاقتراب، حتى وصل فيلوكتيت وأشعل النيران وقتل هرقليس وأنهى معاناته، كمكافأة على ذلك منحه هرقليس قوسه وسهامه التي كانت معروفة بأنها سامة ولا تخطئ الهدف.

 فيلوكتيت هذا كان أحد القادة الذين شاركوا في الحرب اليونانية ضد طروادة وفي الطريق نحو طروادة أثناء نزول الجيش في إحدى الجزر تعرض لعضة أفعى سامة. لم يقتله السم لكنه كان يصرخ من الألم صراخاً أرعب الجيش اليوناني بأكمله بالإضافة إلى أن الجرح كان يبعث برائحة كريهة لا يمكن احتمالها، مما ولّد تذمرا كبيرا في صفوف الجيش.

اقترح أودسيوس الماكر بأن يترك الجيشُ فيلوكتيت لوحده على هذه الجزيرة ويكملوا رحلتهم، وهو بالضبط ما فعلوه. بعد عشر سنوات وأثناء الحرب ضد طروادة وبعد أن ألقى اليونانيون القبض على عرّاف طروادة وأجبروه على تبيين الطريقة التي تمكنهم من فتحها. أنبأهم العراف بأنها لا يمكن أن تُفتح دون حضور فيلوكتيت وقوسه.

يتعهد أودسيوس بإعادته للجيش، وهنا تبدأ المسرحية مع وصول أودسيوس للجزيرة المهجورة برفقة نيوبتوليم ابن أخيليس شائع الصيت. لأن أودسيوس يعرف مقدار الكره الذي يملكه فيلوكتيت نحوه فيطلب من نيوبتوليم هذا الشاب اليافع الذي وصل إلى الحرب مؤخرا بعد موت والده أن يخدع فيلوكتيت بإيهامه بأنه قد أتى لأخذه إلى بلده.

فيذهب نيوبتوليم ويعثر على فيلوكتيت وينبئه بنسبه الشريف ويخبره بأنه قد وصل إلى الحرب بعد موت والده ولكن أجاممنون ومنلاوس وأودسيوس قد أهانوه واحتقروه ولذلك قرر العودة لوطنه وسيأخذ فيلوكتيت معه. يفرح فيلوكتيت بذلك ويسلم قوسه للشاب ويسير معه ولكن نيوبتوليم لا يتحمل الخديعة فيكشف سره لفيلوكتيت. ويبدأ صراع محتدم بين أودسيوس ونيوبتوليم وفيلوكتيت حول ذهاب الأخير أو لا. في النهاية ينزل هرقليس لينبئ فيلوكتيت بأن عليه أن يذهب معهم لأن طروادة ستفتح على يده هو وهناك سيجد من يشافي قدمه المصابة.

 إن أسطورة فيلوكتيت شهيرة ما عدا أن مسألة إدخال نيوبتوليم كانت شيئاً تفرد به سوفقليس وحده. فهي أيضا من أعماله الأخيرة ونجد هذا واضحاً في الحوارات ما بين فيلوكتيت العجوز الذي عاش في بؤس وشقاء وما بين نيوبتوليم الشاب المتحمس للحياة وللمجد الذي ينتظره.

كذلك نجد هنا مثل مسرحية أنتيجونا التعارض ما بين الواجب الأخلاقي الفردي والواجب السياسي. فأنتيجونا قد أُمرت بعدم دفن أخيها كرسالة ورد على الخيانة السياسية التي اقترفها أخوها ولكنها استجابت لواجبها الأخلاقي المتمثل بدفن الميت أيا كانت فعلته. هنا أيضاً نجد نيوبتوليم مترددا في بداية المسرحية من مسألة الخداع والمخاتلة والكذب فهو ابن أخيليس المقدام الذي لم يستعمل الخداع في قتاله، فهو إنسان شريف وصريح ومقدام ولكن على الطرف الآخر هو جندي وعليه العمل لمصلحة جيشه الذي يحتاج إلى جلب فيلوكتيت بأي طريقة. نيوبتوليم أيضاً يختار الخيار الأخلاقي بأن يكف عن خداعه ويخبر فيلوكتيت بالحقيقة ويحاول إقناعه بالقدوم  معه بقوة المنطق والحوار فقط.

وعلى الرغم من كل شيء أيها الأمير، فإني أفضّل أن أخفق لأني تصرفت بأمانة على أن أنتصر نتيجة استخدامي للسفالة.

في هذه المسرحية يقدم سوفقليس وضعا دراميا قويا ما بين أودسيوس الذي لا يهتم بشيء سوى الانتصار بالحرب وجر فيلوكتيت معه بأي طريقة ممكنه، وبين نيوبتوليم الذي يريد أيضاً الفوز بالحرب ولكن ليس على حساب شرفه وصدقه ويحاول إقناع فيلوكتيت بالمنطق والعقل، وبين فيلوكتيت الذي ملأ قلبه بكراهية وحقد دام عشر سنوات نحو الجيش اليوناني وملوكه الذين تركوه للموت وحيداً على هذه الجزيرة المقفرة. وهنا نجد شيئاً فريداً من نوعه فلا القوة ولا الصدق والكره ينتصر في النهاية، بل الآلهة.

فمن يحزم صراع القوم هو هرقليس الذي ينزل من السماء حسب الأسطورة، فهذه إضافة رائعة من سوفقليس المتدين وهي أنه لا يمكن للبشر أن يحلوا كل شيء لوحدهم فالقوة والصدق والمنطق والكره والحب وغيرها الكثير كلها اختراعات بشرية لكنها ليست كلية فلا يمكننا تطبيقها على جميع البشر بل نحتاج لسلطة كونية من خارج الكيان البشري لكي تقرر نيابة عنا وتقودنا. ولهذه الفكرة حضور قوي في الفكر اليوناني حتى أنه كان هناك تقليد في الكثير من مدن اليونان بأن يطلبوا من شخص غريب أن يأتي إليهم وأن يكتب لهم الدستور. لأن الغريب يملك سلطة خارجية فوق المدينة وهي سلطة لا يملكها أي عضو باعتباره جزءا من المدينة وبذلك لا يمكنه فرض آراءه على الكل المجتمع.

بالنسبة إلى الإنسان لا توجد مهمة أنبل من مساعدة الآخرين بقدر طاقته ووسائله.

في النهاية، كان سوفقليس محلّلاً عظيماً في تاريخ الأدب وكان على البشرية أن تنتظر ما يقارب الألفيتين حتى ولادة شكسبير لكي يأتي بأعمال توازي العمق الذي يسبغه سوفقليس على شخصياته وعلى صراعاتهم الداخلية. ورغم قدمها إلا أن أعماله تعتبر من أهم الآثار الأدبية في التاريخ.

كاتب

الصورة الافتراضية
Sajjad Thaier
المقالات: 0

اترك ردّاً