آشور بانيبال ومكتبة الخلود.. أولى مكتبات التاريخ

المكتبة بطبيعة الحال هي نتيجة لاختراع الكتابة. وبما أن سكان بلاد الرافدين القدماء كانوا السبّاقين لاختراع الكتابة، فلابد أن أول مكتبة قد أُنشأت في أرضهم، وبالتحديد في أوروك عاصمة السومريين. هذا في حال افترضنا أن المكتبة تطلق على أي مجموعة كتب، أو أرشيف قانوني، أو تجاري.

أما إذا تحدثنا عن المكتبة بمعنى يقارب تعريفها في عصرنا، فإن مكتبة الملك الآشوري “آشور بانيبال” هي أولى مكتبات التاريخ. بل إن تاريخ حرق المكتبات بدأ بحرقها بعد موت “بانيبال” بأربعة عشر عام من قبل تحالف معاد. وهذا ما يدلل على أهمية ما جاء في المكتبة من آثار للتعريف بالآشوريين. فحرق مكتبة أو حتى كتاب يعني إقصاء الآخر وتدميره.

 هذا ما يدفعنا إلى التساؤل عن ماهية هذه المكتبة، وأسباب إنشائها وحرقها؟

معروف أن العراقيين القدماء كانوا مولعين بفكرة الخلود، وهذا واضح بشكل جلي في ملحمة كلكامش الساعي إلى الخلود، إذ أن الموت رحلة كما هي الحياة. ثم أن اختراعهم الكتابة ونحت انتصاراتهم العسكرية دليل آخر على اهتمامهم بمسألة الخلود. بالإضافة إلى استحداث آلهة العالم السفلي وفكرة الأرواح الشريرة التي كان يعزون إليها التسبب بالأمراض.كما أنهم كانوا يعتقدون بأن السماء كتاب مفتوح ينبغي على الإنسان أن يقرأه، وربما لذلك وضعوا تفاسير وشروحات للشمس والنجوم.

إذن، ليس بالأمر الغريب إنشاء مكتبة لتخليد انجازات أسرة “سرجون” الحاكمة للإمبراطورية الآشورية. وهذا بناء على وصية الملك “اسرحدون” والد “آشور بانيبال” وواحد من أعظم ملوك آشور القديمة الذي انتصر على فرعون مصر.

“لقد وَضعتُ هذه الألواح الطينية للمستقبل في المكتبة في نينوى من أجل حياتي ورفاهية روحي. للحفاظ على أسس اسمي الملكي”

كما كان “بانيبال” مولعاً بالمعرفة هو الآخر، وعلى معرفة بعدة لغات، إذ زعم أنه ترجم الألواح الناجية من الطوفان العظيم. كما أنه قادر على قراءة الكتابة المسمارية باللغتين الأكادية والسومرية. ووفقًا للمؤرخ “بول كريوازك”: (ذهب آشور بانيبال إلى أبعد من مجرد القدرة على القراءة وادعى التمكن الكامل لجميع فنون الكتابة). حتى أنه يظهر في منحوتات جدران قصره وفي جيبه قلم.

وفي كلماته الخاصة، ادعى “آشور بانيبال“:

أنا أشور بانيبال. داخل القصر، فهمت حكمة نابو [إله التعلم]، كل فنون الكتابة من كل نوع، جعلت من نفسي سيد كل منهم. قرأت الألواح الماكرة لسومر واللغة الأكدية السوداء التي يصعب استخدامها بشكل صحيح. استمتعت بقراءة الأحجار المنقوشة قبل الطوفان، أفضل ما في فن الكتابة، مثل الأعمال التي لم يتعلمها أي من الملوك قبلي، العلاجات من أعلى الرأس إلى أظافر القدم، التحديدات غير القانونية، التعاليم الذكية،كل ما يتعلق بالإتقان الطبي. [الآلهة] نينورتا وجالا، كتبت على الألواح الطينية، وفحصت ورتّبت، وأودعت داخل قصري من أجل الإطلاع والقراءة.

نقش جداري يوضح الملك آشور بانيبال يصارع الأسد وفي جيبه قلم
الملك آشور بانيبال يصارع الأسد وفي جيبه قلم

كما يعتقد “كريوازك” أن الألواح الموقعة باسم “آشور بانيبال، ملك آشور” دليل صريح على قدرة “بانيبال” على الكتابة باللغة السومرية. ويضيف كريوازك بأن “آشور بانيبال” لم يكن مهتمًا فقط بتجميع أكبر مجموعة ممكنة، ولكن لضمان أن لديه نسخًا من كل عمل مهم في قانون بلاد ما بين النهرين. وفي رسالته [إلى والي بورسيبا] يتابع في سرد الصلوات والتعاويذ والنصوص الأخرى، كما كان معتادًا في العصور القديمة، من خلال كلماتها الأولى.

وبالفعل قد نجح “آشور بانيبال” بجمع المؤلفات من رعاياه بدليل نطاق مكتبته الهائل، التي تضم كما يُعتقد نصف مليون من اللوحات الصغيرة المكتوبة وحوالي خمسة آلاف كتاب. ومن بين أهم الأعمال التي ضمتها المكتبة كان أقدم عمل أدبي في التاريخ: قصة بلاد ما بين النهرين الأصلية عن الطوفان العظيم، والتي تسبق القصة في الكتاب المقدس (قبل العثور على هذا الكتاب كان الكتاب المقدس يعتبر أقدم كتاب في العالم وأن قصصه ليس لها سابقة)، وملحمة الخلق البابلية، وغير ذلك من الآثار الأدبية وتدوينات الانتصارات العسكرية والقانونية.

علاوة على ذلك، يعد الهيكل التنظيمي للمكتبة أقرب إلى هيكل المكتبة اليوم، إذ كانت الألواح الطينية مرتبة في غرف مختلفة مع إدراج أسماء النصوص. لكنها لم تكن مكتبة عامة تماما ربما لأنه لم يكن الجميع آنذاك يعرف القراءة بعد.

في الواقع لا أبالغ إن قلت بأن “آشور بانيبال” أول من استحدث عادة اتخاذ مكتبة في قصره. فاليوم لا يخلو مكتب قائد سياسي من واحدة.

بعد انهيار إمبراطورية آشور، تم حرق مكتبة “آشور بانيبال” في العام 612 قبل الميلاد، كاحتفال وحشي من قبل الجيوش المنتصرة أو نزعة قومية لدفن آثار الآخر. ولكن كونها ألواح من الطين فقد صمدت وربما النار طبختها جيدا، إلا أنها دفنت لأكثر من 2000 عام. وفي القرن التاسع عشر ومن خلال أعمال التنقيب في مدينة الموصل العراقية، عُثر على المكتبة من قبل “السير أوستن هنري لايارد، هرمزد رسام” لتكشف الكثير عن سكان آشور. إذ عُثر على ما يقارب 30000 لوح طيني، وهي الآن موزعة في متاحف فرنسا وبريطانيا. وبذلك تحقق لآشور بانيبال ما كان يطمح اليه وأن معرفته كانت أقوى من انتصاراته العسكرية.

تدقيق لغوي: كوثر بوساحية

المصادر:

  1. كتب تحترق – تاريخ حرق المكتبات: لوسيان بولاسترون – الطبعة الأولى 
  2. Ancient history: ENCYCLOPEDIA
  3. The british museum :A library fit for a king
  4. Assyrian Cultural Foundation:Ashurbanipal Library

كاتب

الصورة الافتراضية
Zahraa Majid
المقالات: 0

اترك ردّاً