-بدايةً، كيف يحب سنان أنطون أن يعرف نفسه؟
هذا سؤال قد يبدو بسيطاً، لكن الإجابات قد تطول أو تقصر. شاعر وروائي من العراق. هذا التعريف الأقصر والأهم. قد تطول الإجابة إذا تطرّقت إلى اهتماماتي وانشغالاتي الأخرى وعملي. فأضيف أكاديمي متخصص بالأدب العربي، الشعر بالذات، ومترجم أدبي. ولد في بغداد عام ١٩٦٧، درس في بغداد وهاجر بعد حرب ١٩٩١. يعمل أستاذا في جامعة نيويورك ويعمل على إكمال روايته الخامسة
وسيصدر ديوانه الثاني هذا الشهر، بعنوان “كما في السماء”.
– العلاقة بين الكاتب والكتابة خاصة، أو لها طابع خاص يختلف باختلاف الذات الكاتبة، فكيف تعرف سنان أنطون على هذه الذات الأديبة والشاعرة الخاصة به؟ ومالذي بإمكانه أن يحدثنا عنه في علاقته بالكتابة؟ وكيف تطور وعيه بها؟
لا شك أن هذه العلاقة تعتمد على ظروف كل إنسان وعلى الصدفة. كان لدي وعي وحساسية مبكرة باللغة. بدأت القراءة في وقت مبكر جداً وكنت أجد متعة في التعبير عن نفسي. وولدت لدي الرغبة بالكتابة في عمر مبكر. في سنين المراهقة. وكنت قد بدأت بقراءة الروايات والشعر. في سنين الدراسة الثانوية بدأت أعي أهمية الكتابة وأتعمق في معانيها وتبعاتها. وجربت الكتابة بأجناس مختلفة. وبالرغم من نزق تلك الكتابات إلا أنها، عندما أسترجعها الآن، كانت تدل على تمكّن من اللغة وقدرة على التلاعب بمستوياتها وفي سنين الجامعة وأثناء الحرب العراقية الإيرانية نضجت رؤيتي من خلال القراءة ومعايشة أهمية الثقافة والكتابة في أي مجتمع.
الحقيقة الأكثر تأثيراً على رؤيتي هو أن الأدب الذي كان مجيّراً، بغالبيته الساحقة، لما سمي بـ«الأدب التعبوي»، لم يكن يصوّر حقيقة المعاناة اليومية. فأدركت أن هناك حكايات يتم إسكاتها أو تهميشها وهذه السرديات/الأصوات هي التي أحاول أن أركّز عليها.
الذات الأدبية، في نهاية الأمر، تعود لمواطن يعيش في مجتمع وهو متورط ومرتبط بعلاقات القوة فيه وأتوقع من الذات الأدبية أن تشتبك بهذا الواقع وبتاريخ المجتمع. ولكن دون التضحية بالشروط الجمالية طبعاً.
– هل تعتقد أن التغيير ليس من مهام الجماهير بل مهمة النخبة ومسؤولية المثقفين؟ وأين ترى أو تحصر إذا دور المثقف في توجيه العقل الجمعي وكيف يكون ذلك؟
التغيير عملية معقدة، تدخل فيها شبكة من القوى والعلاقات وتتطلب الظروف المواتية. ونحن نعيش في عالم معقد مترابط بشكل لم يسبق له مثيل. التغيير مهمة الجميع، إذا استطاعوا إليه السبيل، طبعا. لا أؤمن بالنخب. فالنخب متورطة مع قوى اقتصادية وسياسية وهذه مرتبطة بالنظام المهيمن. الحديث عن «المثقف» أيضاً يتم بعمومية. سلطة الدولة والنخب المسيطرة تدجّن المثقفين ليكونوا ضمن ترسانتها. ولكن هناك المثقف الذي يقف مع المهمّشين والمستضعفين ولا يساوم ويوظّف قدراته أو أفكاره لإعادة إنتاج الوضع السائد. المثقف هو مواطن، كما ذكرت، وعليه أن يدافع عن حق الإنسان/المواطن في الحياة الكريمة ويقف في خندق الناس وليس في خندق النظام أو الجيش أو الشركات.
– هل تجد أن النقاد العرب المتواجدين في الساحة الثقافية يبتعدون عن النقد الجاد انحيازا للأصوات التي تحدث ضجة بسبب أفكارها أو ميولها السياسي أو تواجدها الإعلامي؟
طبعا، هناك تدهور في حقل النقد منذ سنوات، وهذا يعود لعدة أسباب، منها تدهور التعليم والأكاديميا في معظم بلدان العالم العربي. وكذلك تدهور واندثار المجلات الثقافية والملاحق وصفحات النقد الأدبي الرصين. وهناك من جهة أخرى انفجار وسائل التواصل الاجتماعي التي يمكن أن تكون أحياناً فسحة للتخلص من المافيات الثقافية ومن ينصبون أنفسهم حراساً لأسوار وقلاع النخبة. لكنها، من ناحية أخرى أصبحت، في معظم الأحايين وباستثناءات قليلة، مساحة للفوضى. بالعودة إلى السؤال، الكثير من هؤلاء النقاد ينجرّون إلى الضجيج الإعلامي ويقودهم الكسل، أو الارتباط بمؤسسات ومصالح لها توجهات معينة، إلى ممارسات لا علاقة لها بالنقد الجدّي.
– إذا اعتبرنا أن النص هو اشتباك مع الواقع، ينعكس في النص من خلال عناصره المختلفة: أحداث، شخصيات، أماكن… إلخ، قد يجد القارئ في نصك بعض الكآبة والتشاؤم، هل هذا انعكاس للأدب الواقعي في كتاباتك؟
هناك مقولة للرسام البريطاني فرانسيس باكون عن أن الشوارع مليئة بالدموع هم يريدوني أن أرسم الورود. الروايات التي كتبتها إلى الآن كلها عن العراق في العقود الأربعة الأخيرة. وهي كانت عموماً حقبة مليئة بالحروب وبتدمير النسيج الاجتماعي. بالذات بعد حرب ١٩٩١ والحصار الذي أعقبها وغزو واحتلال عام ٢٠٠٣ والحرب الأهلية. لقد مات مليون عراقي وهناك مليون أرملة وملايين الأيتام. الواقع اليومي في كوكبنا لا يدعو إلى التفاؤل. طبعاً هناك فسح من الفرحة. لكنني أستعير من الكاتب الفلسطيني العظيم، إميل حبيبي، مفردة «المتشائل». التفاؤل الكامل في عالم كهذا مليء بالحروب والمذابح والمجاعات هو سذاجة في أحسن الأحوال. أنا أكتب عن الحقائق اليومية المعاشة. وكما يقول محمد الماغوط: الفرح ليس مهنتي.
-ما نظرتك لدور الأدب في صنع الوعي؟ وهل ترى أنه يجب أن يحمل بعض الأمل في ظل سوداوية الواقع؟ أم أنه ينبغي أن يكون مرآة حيادية تظهر الصورة على ما هي عليه؟
الإنسان يستوعب الوجود والعالم من خلال سرديات (أستخدم المفردة بمعناها الأشمل والأوسع). سرديات تضع الأحداث الكبيرة والصغيرة والذوات في بنية ما. وبالتالي فإن السرديات، على اختلاف أنواعها، أساسية لطريقة فهمنا للعالم والتاريخ وذواتنا الفردية والجمعية ولوعينا وللأيديولوجيات التي نؤمن بها، بوعي أو بدونه. فلا يوجد حياد. كل إنسان ينطلق من موقع ما في العالم، تحكمه علاقات قوة وتراتبية ما. موقع يتأثر بجنس الفرد وطبقته وخلفيته وبأمور أخرى بحسب المجتمع. الأدب يستخدم السرديات التي تشتبك وتتقاطع مع السرديات الكبرى في العالم. وهو بذلك يساهم في صياغة الوعي الفردي والجمعي لأنه يصور العالم بكل تناقضاته وتعقيداته من منظار معين. بالنسبة لشق السؤال حول الأمل، يجب أن نفكّر أيضاً بوقع النص على المتلقي، وليس فقط المحتوى. قد يكون العمل الأدبي حزيناً لكنه قد يشحذ همّة القارئ وقد يضئ له أو لها ما كان معتماً. أنا شخصياً لا أؤمن بوجود مرآة حيادية أو بإمكانية الحياد أصلاً. هناك لامساواة مخيفة في العالم وهناك أقوياء وضعفاء، وأغنياء وفقراء، وقاتل ومقتول، ومتجبر ومستضعف. الصورة تختلف من منظار إلى آخر وتعتمد على موقع الذات من هذا العالم.
-للأدب دور في طرح الأسئلة وإعطاء الصوت ربما للأقلية المهمشة، خاصة في فن الرواية باعتبارها متعددة الأصوات. والعراق يحمل تراثا غنيا ومتنوعا من الناحية العرقية والدينية المذهبية، لكن لأسباب معينة انقلب هذا الاختلاف الغني إلى فواجع طائفية، هل ترى أن الأدب العراقي (والرواية العراقية) خصوصا متمكن من طرح الأسئلة الصحيحة والتعبير عن الأصوات وانشغالاتها بدقة؟
موضوع الأقليّات معقّد وقد يكون الاشتباك معه إشكالياً. السبب في هذه الفواجع هو الأنظمة الاستبدادية من ناحية، والحروب والاحتلال العسكري من ناحية أخرى. هناك من يكتب ليفكّك تاريخ «التطييف» وتحول الهويّات من هويات جامعة متعددة إلى هويات ضيقة/إقصائية. لكن هناك من يكتب ما يرسخ هذه الانقسامات والتفتتات، حتى عن حسن نيّة. الحروب الأهلية تدمّر التنوّع والسيولة النسبية في الهويّات وترسم حدوداً واضحة وتبني أسواراً بين الجماعات. وبالإضافة إلى الموت والدمار، يتم إسقاط إشكاليات الحاضر على الماضي البعيد فيما يؤدي إلى إلغاء التاريخ وترسيخ سرديّات مظلومية عابرة للتاريخ. ما أحاول أن أفعله أنا شخصياً هو تفكيك كل هذا وعدم تبسيط الأمور بهذه الطريقة وعدم إسقاط الحاضر على الماضي. الإشكالية الأخرى في الكتابة عن «الأقليات» هو أنها قد تصبح استعارة لماض متخيّل. أو أن تكون الكتابة عن الأقليّات بطريقة سطحية سياحية مؤمثلة. هناك إنتاج غزير في الرواية العراقية وهناك أسئلة كثيرة تطرح وستطرح.
-كل أعمالك تقريبا مرتبطة بالعراق، فهل نفهم أن سنان يشجع الهوية الوطنية الجامعة ضد الهويات الفرعية المفرقة التي تملك تاريخا مشتركا داخل الجغرافية الواحدة/الوطن؟ وأين يعرف سنان نفسه وسط الهويات؟
الهوية نفسها، في أي مجتمع، ساحة صراع. ولا توجد هوية واحدة لا تتغير. فهناك هوية تحاول الدولة ترسيخها وفرضها، وهناك طبعاً من يقاومها بشتى الطرق وهناك من يؤمن بهوية جامعة منفتحة، لا إقصائية. أنا أفضل المواطنة، كمنطلق، أي أن لكل مواطن نفس الحقوق بغض النظر عن الجنس والعرق والانتماء الإثني والديني والطائفي. وبإمكان الإنسان والمجتمع أن ينتج ويستوعب هويات جامعة منفتحة، لا تقصي ولا تشيطن الآخر، أيا كان. الأنظمة في بلادنا قمعت بعض الجماعات العرقية والثقافية وهمشتها وهذا خطأ لا بد من إصلاحه وتفاديه في المستقبل طبعاً. لا بد من ترسيخ مفهوم ثقافة وطنية منفتحة على الجميع. لكنني، شخصياً، لا أعتقد أن ترسيخ الهويات الطائفية والعرقية وخطابات «السكان الأصليين» وما شابه سيصب في صالح البلاد. أما بالنسبة لي شخصياً، أنا أممي التفكير والنزعات. أحاول أن أركّز على ما يجمعنا كبشر لا على ما يفرقنا. هذا لا يمنع أنني كفرد ولدت في العراق وعشت فيه ٢٣ سنة. ثقافتي ولغتي الأم هي العربية. وهناك حبل سرّي يربطني بالعراق وبالمنطقة التي أعيش همومها عن بعد.
– “يا مريم” كانت عملا تناول البعد الطائفي، ممثَلا في مفهوم الاختلاف داخل البيت الصغير (أسرة مسيحية/أقلية عراقية) حول الاختلاف في البيت الكبير (الوطن)، وقد حمل لنقل نظرة تشاؤلية بين الماضي الخالي من الطائفية والحاضر المؤلم، بين هذا وذاك، في رأيك كيف سينجو العراق؟
ما حاولت سرده في مريم هو هذا التحول الكبير في الهويّات وكيف تكاد تنقرض هوية العراقي المسيحي الذي لا يجد شرخاً داخل هويته، وكيف تتحول الهويّات إلى ما يشبه مها، أي الفرد الذي لا يشعر أن وطنه يريده/ا. الحروب تضيّق مساحة الهوية/ات وتسقط ألوانها لتحول الأمور إلى صراع ثنائي بين الأبيض والأسود. العراق في منطقة هي ساحة صراع لتيارات إقليمية وعالمية ومحاور تستخدم الطائفية كسلاح سياسي. لا أعرف كيف سينجو العراق. لكن المظاهرات الأخيرة في البصرة وفي مدن أخرى أظهرت الوعي الرائع لدى الشباب الذين لم تنجح الأحزاب الطائفية وإعلامها الأخطبوطي في محو هويتهم العراقية. وهم يعرفون الآن أن كل الشعارات والخطابات الطائفية كانت وسائل للسرقة والنهب. الوعي موجود والشعور الوطني موجود، لكن على الجانب الآخر هناك طبقة فاسدة تحميها ميليشيات مرتبطة بالدول المجاورة. إنها معركة طويلة الأمد.
-نجد في رواية “يا مريم” حضورًا واضحًا للعامية العراقية ولغة الشارع، كما احتوت بعض الأسطر على صلوات بالآرامية. ما الغرض من توظيف أو استعمال لغات مختلفة (فصيحة/عامية/آرامية)؟ ثم ألا ترى أن استعمال لهجة معينة قد يحد من شمولية توجيه الرواية لعرب آخرين لا يفهمون بالكلية غير العربية الفصيحة؟ وكيف ترى التأثير المتبادل في العلاقة الملزمة بين (اللغة/التفكير/الإبداع أو الجماليات)؟ وما فلسفة اللغة لدى سنان أنطون؟
المحكيّة هي واقع حياتي معاش في كل بلداننا وفي كل العالم. الحوارات ليست بالفصحى في الحياة، فلماذا نترجمها إلى الفصحى؟ الأدب بالنسبة لي هو عن الواقع. أصر على استخدام المحكية في الحوار لعدة أسباب. أولاً، أنا أحب التنوّع في المحكيات العراقية والعربية. حتي داخل البلد الواحد لهجة مدينة أو منطقة تختلف عن أخرى. استخدام الفصحى يمحو الخصوصية الموجودة في الشخصية من حيث المنطقة، الخلفية، الطبقة وأمور أخرى. معظم القراء العرب الذين يتواصلون معي (من المغرب وتونس واليمن والسودان ومصر وبلدان أخرى) يفرحون بالتعرّف على المحكية العراقية ويفهمون معظم ما أكتبه. نحن أساساً نعيش في زمن الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي ولم نعد معزولين عن المحكيات الأخرى. بالنسبة لاستخدام الصلوات بالآرامية، هذا هو الواقع. الكنيسة التي ذهبت إليها طفلاً كنت أسمع فيها الصلوات بالعربية والآرامية والطقوس لا زالت باللغتين إلي يومنا هذا. اللغة حيّز مهم جداً والسؤال عن فلسفة اللغة يتطلب مساحة أوسع.
روايتي الأولى، إعجام، ركّزت على اللغة كحيز لإنتاج السلطة وأيضاً كحيز لمقاومة السلطة واحتكارها للمعنى والانتصار عليها، بالخيال على الأقل.
– بالحديث عن اختلاف اللغة في النص، كيف ترى اختلاف “لغة النص” أو “الترجمة” وأنت الذي ترجمت عديد الأعمال نثرية وشعرية منها أكثر من ثلاث مائة وخمسين قصيدة لمحمود درويش وسركون بولص وسعدي يوسف، وروايتك (وحدها شجرة الرمان) للإنجليزية. هل تبقي الترجمة على روح العمل؟ أو بعبارة أخرى كيف تحفظ الترجمة البعد الجمالي للنص؟ خاصة في تجربتك التي ترجم فيها إلى لغة ليست لغتك الأم!
الترجمة مغامرة، والترجمة الممتازة تبقى على روح العمل بكل تأكيد. طبعاً هناك ما لا يمكن ترجمته. مثلاً بعض التعابير بالمحكية، أو إشارات معينة إلى سياق شعبي أو تراثي. ستحتاج إلى ملاحظة وهامش لتفسير معناها. لكننا دائماً نترجم. حتى عندما نتحدث لغتنا الأم فنحن نترجم مشاعر ورغبات إلى كلمات. وأحياناً يخوننا التعبير. أي لا نفلح بأفضل ترجمة. الترجمة تحافظ على البعد الجمالي حين يمتلك المترجم حساسية ومعرفة باللغة التي يترجم إليها.
وسأضيف أن الأمر بحاجة إلى ممارسة مستمرة وأنا لم أترجم إلا بعد سنين طويلة من إتقان اللغة الإنكليزية.
– سنان أنطون أستاذ الأدب العربي في جامعة نيويورك، كيف تلاحظ انعكاس وقع ترجمة أعمال عربية على الساحة الثقافية الغربية؟ وأنت على احتكاك بها. هل يتم النظر إليها ودراستها باعتبارها فنا وأدبا حقيقيا، معبّرا وقائما بكل مقوماته؟ أم لا زالت النظرة حبيسة ظاهرة الاستشراق؟
الترجمة إلى اللغات الأجنبية محكومة بسوق النشر ومعايير الربح والخسارة لدى دور النشر الكبيرة. وفي هذا السياق ما زالت النظرة الاستشراقية مهيمنة عموماً. طبعا هناك دور نشر مستقلة صغيرة وجامعية أكثر اهتماماً بالقيمة الأدبية وأكثر حرصا ودقة في اختياراتها، فنجد لديها الكثير من الأعمال المهمة في تاريخ الأدب العربي الحديث. دور النشر الكبيرة تركّز، في معظم الوقت، على الأعمال التي يمكن تسويقها بسهولة والترويج لها. وهذه قد لا تكون دائماً أفضل الأعمال أدبياً، بل تساهم، بقصد أو بدونه، في ترسيخ بعض الصور النمطية، وتركّز على ثيمات معيّنة دون غيرها.
– أسلوبك السردي يعتمد على المشهديات الدائرية والمتنقلة بين الفترات الزمنية، بعيدا عن السرد المتسلسل الخطي، هل هناك علاقة لهذه التفاصيل السردية المشهدية بتجربتك السينمائية المبكرة؟ هل ستكررها؟
مررت بفترة أثناء الدراسة الثانوية كنت أحلم فيها أن أكون مخرجاً. أحب السينما كثيراً وتعلمت الكثير من النصوص السينمائية. لا أعتقد أن التجربة السينمائية ستتكرر لأن الموضوع بحاجة إلى رأسمال! تحويل «وحدها شجرة الرمان» إلى فلم هو حلم قد يتحقق في يوم ما. سنرى.
أنا مغرم بالبنى الدائرية والحلقات المتداخلة والأمر يعود للتأثر بألف ليلة وليلة وبأعمال روائية أخرى لا تلتزم الخطية وتحاول أن تبتكر بنية مختلفة. موضوع النهايات المفتوحة أو اللانهايات يستهويني كثيراً. ويكتسب الموضوع أهمية فرية أو فلسفية وهذا ما عملت عليه في روايتي الأخيرة «فهرس» فأين تبدأ الرواية (الفردية أو الجمعية والتاريخية) وأين تنتهي، هو قرار له تبعات جمالية، ولكن تبعات سياسية أيضاً. فالبداية في نقطة ما تلغي أو تهمّش ما جاء قبلها وهكذا.
– كانت رواية “يا مريم” ضمن القائمة القصيرة للبوكر عام 2013، وقد كان يرى البعض أحقيتها بالفوز بالجائزة، ما كانت ردة فعلك تجاه ذلك؟ وما دور الجوائز والمسابقات الإبداعية في مسيرة الأديب؟ فهل تصنع الجوائز الكاتب؟ وهل يمكننا الحكم على مكانة الأديب من تقييم الجوائز التي حصل عليها؟
الجوائز ليست، بالضرورة، أفضل مقياس للجودة الأدبية. فالأمر يعتمد على الذوق الأدبي وتكوين لجان التحكيم وأجندات المؤسسات المانحة للجائزة. الدخول في أي معترك يعني إمكانية الخسارة/أو الفوز. إذ لا ضمانة للوصول إلى القوائم الطويلة والقصيرة يساعد في وصول العمل إلى قراء جدد. الصديق سعود السنعوسي روائي رائع وهنأته بالفوز بالجائزة التي استحقها. رواية «وحدها شجرة الرمّان» التي أعتز بها، لم تصل حتى إلى القائمة الطويلة في البوكر العربية، لكنها الأنجح من بين أعمالي عربياً وعالمياً.
– معظم الشعراء مهما اكتسبوا من صفات سواء أدبيًا أو علميًا أو عمليًا يُفضِل أن يحتفظ بصفةِ (شاعر)، هل يزعجك أن صفة سنان الروائي طغت على صفة سنان الشاعر؟ وهل تعتبر الكتابة بشكلها الشعري أصعب من شكلها السردي؟
لا يزعجني الأمر. لكنني بدأت كشاعر، وما زال الشعر، بالنسبة لي، قراءة وكتابة وترجمة، طقساً يومياً مهماً. وكتابة نص شعري جيد تغمرني بسعادة كبيرة. وللشعر فضل كبير على كتاباتي الروائية. الكتابة صعبة جداً، سواء كان النص قصيدة أم رواية. الرواية تتطلب نفساً طويلاً والتزاماً يطول لمدة. لكن الشعر أيضاً يتطلب تركيزاً وصفاء ذهنياً وروحياً. وأحياناً تظل الصورة أو الفكرة تختمر لفترة طويلة قبل أن تكتمل. أنا أشبّه الأمر بعزف الموسيقى على آلتين مختلفتين. وفي روايتي الأخيرة «فهرس» كانت هناك مقاطع كثيرة يمكن أن تقف لوحدها كقصائد نثر. وهذا ما ذكره عدد من النقاد والقراء.