في فلسفة التجريبيين يوجد قول مأثور: “الطفل صفحة بيضاء، تكتب فيه التجربة ما تشاء”، وعليه فإنه من بين الروايات التي شهد القراء تأثيرها عليهم وتركت فيهم شعورا بالفرح تارة وبالأسى في أخرى هي تلك التي تكون على لسان الأطفال، وتدور مجرياتها حول عالمهم البريء وتساؤلاتهم الطفولية ووجودهم الصغير، ذلك أنها تعطي بعدا وجوديا ونفسيا عميقا يحيي الطفل في القارئ، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الكاتب الذي يكتب بروح الطفل يعطي لروايته مجالا متّسِعا للتفكير وطرح الأسئلة وخلقها، وينبّه الكبار إلى نحلة السؤال التي أماتوها روتينا يوميا في الحياة، فهو يسعى لاستخراج السؤال لا لتقديم الأجوبة الطازجة، والكتاب الحقيقي هو ذاك الذي يملأ الوجود بالأسئلة أكثر من ذاك الذي يقدم أجوبة جاهزة. ورؤوس الأطفال دوما مليئة بالأسئلة خاصة إن وجدت بيئة ملائمة لها لتنمو فيهم بذرة السؤال شيئا فشيئا. ولعل فيهم من قد يغريه قول لـنجيب محفوظ يقول فيه:
” تحية لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة”
على سبيل المثال لا الحصر، جُلُّ روايات الكاتب النرويجي الرائع جوستاين غاردر كتبها بشخصيات أطفال مع مرشد لهم ومحفز لتساؤلاتهم يبث فيهم روح الدهشة والبصيرة، ففي رواية “عالم صوفي“، قدم لنا تاريخا شاملا للفلسفة- الغربية خاصة- بداية من أول سؤال “من أنت ؟ من أين أتى العالم؟”، من فلاسفة الطبيعة السباقين إلى داروين ونيتشه وهيوم وغيرهم.
وذلك من خلال رسائل الأستاذ ألبرتو كناغ إلى الصغيرة صوفي آمندسون، فهو كان يرى بأن:
“الفيلسوف طفل صغير لا تزال له القدرة على الدهشة”
“الفلسفة هي بحث عن الحقيقة”
والحقيقة لا تنالها الأيادي المقيدة ولا العقول الخاملة.
أما في رواية “مرحبا هل من أحد هناك” دار الحوار بين “جو” الصغير و الكائن الفضائي “ميكا” حول الكون والنشأة والارتقاء والتطور والرؤى المتغيرة للحياة والعادة وخلق الفوارق فيها، إذ يقول على لسان “ميكا”:
“ليس هناك شيء عادي في هذا الكون لأن كل ما في هذا الكون جزء من سر الوجود، حتى أنا وأنت جزء من هذا السر بل إننا ذلك السر الذي لا يمكن حل شيفرته”
فكل طفل يجب أن يعلم بأنه نسيج نفسه، مهما اختلفت الأوضاع، فلا شبيه له إن أراد هو ذلك.
وفي كتابه الصغير“أسئلة وتساؤلات” الذي هو عبارة عن مجموعة من تساؤلات حول الوجود التي قد تتبادر إلى ذهن أي واحد منا طفلا كان أو بالغا كـ“من أين أتينا؟ وإلى أي مصير سنؤول؟ هل الحياة موجودة فقط على أرضنا أم توجد حياة في كوكب آخر؟ إذا كنت شخصا آخر هل سأكون كما أنا؟ لماذا السماء زرقاء؟ من الذي يخفي الشمس في جيبه كل ليلة؟” تتخللها قصة مصورة توحي بمعاني الحب والصداقة والفراق والحنين، هذه القيم التي ترسم حدودا للحياة.
في الحقيقة “جوستاين” هو رائد أدب الطفل في الفلسفة فهو يضع نصب قلمه مقولة للفيلسوف “غوته”:
“من لم يتعلم دروس الثلاثة آلاف سنة الأخيرة يبقى في العتمة”.
في رواية “الأمير الصغير” لـ “أنطوان سانت إكسبيري” التي كان لها وقع كبير في العالم الأدبي من خلال رمزية الرواية التي قدمها حول الصداقة من ناحية وحول صفات البشر من “التكبر و الجشع و الطمع والغرور و الأنانية و الشهوة والغضب” – الخطايا السبع من خلال الكواكب التي مر بها الأمير الصغير- من ناحية أخرى.
وبيّن الفرق بين الراشدين والأطفال ومأساة الصغار عندما لا يفهمهم الكبار “ذلك أن الراشدين لا يفهمون شيئا لوحدهم أبدا ، وإنه لمن المتعب للصغار أن يواظبوا على تقديم توضيحات لهم بصورة دائمة” وتبقى مقولة الثعلب للأمير الصغير الشهيرة راسخة في الذهن:
“نحن لا نرى جيدا إلا بالقلب، الجوهر لا يرى بالعين المجردة”
حتى أن الكاتب قد أهدى روايته للطفل الذي كانه شخص كان يقدره ويعني له الكثير: “إلى ليون، لما كان ولدا صغيرا”.
أما الكاتب المسرحي الرائع “إريك إيمانويل شميت” فقد قدم في رائعته “أوسكار والسيدة الوردية” فكرة الله والمرض والموت والحب وعلاقة الآباء بأبناءهم المرضى وعلاقة الكادر الطبي بالمرضى الذين لم يبقى لهم أمل بالعيش إضافة إلى أطوار الحياة من الولادة وحتى الموت، كل هذا من وجهة نظر الطفل “أوسكار” من خلال رسائل يرسلها إلى الله بعد اقتراح من “الماما الوردية” يبث له فيها بكل أفكاره التي لم يقلها وتثقل عقله الصغير. ويطلب منه في آخر كل رسالة أمنية “روحانية” كاستنارة أو تشجيع أو صبر.
“_ ولماذا أكتب لله ؟
_ كي لا تشعر بنفسك وحيدا إلى هذا الحد.
_ لا أشعر بالوحدة مع شخص غير موجود من الأساس!
_ إذن اجعله موجودا بالنسبة لك..كل مرة تؤمن فيها به سيصبح وجوده أكبر قليلا .”
هل صادف وأن سرقت شيئا في حياة طفولتك؟ كبيضة من خم دجاج الجيران؟! ضربت قطة كانت تأخذ قيلولة على الجدار؟ وربما سرقت ذات مرة زهرة لتقدمها لصديقتك في المدرسة، وقد تتقاسم لمجتك معها مناصفة بينكما، لا شك أنك تتشابه مع بطل رواية “شجرتي شجرة البرتقال الرائعة” للكاتب “خوسيه ماورو دي فاسكونسيلوس”.
فالطفل زيزا ومن مثل زيزا، الشيطان وقط المزاريب هكذا يلقبونه، كان يضرب لسبب وبلا سبب، يسأل كثيرا ككل الأطفال، خياله جامح وفي قلبه عصفور يغني، ولأن الأزهار ملك لله فهو يسرق كل يوم زهرة ليهديها لمعلمته،عندما لا يجد من يأنس لحديثه وتساؤلاته يتخذ من جذعِ شجرةٍ صديقًا “مينهوينجو”،تعتبر من السير الذاتية الملهمة، حتى أنها تدرس في مناهج المدارس بالبرازيل.
وبعيدا عن كل هذه البراءة ، فكما أن التجربة تكتب على صفحة الطفل بالألوان الزاهية لقوس قزح، فقد تكتب أيضا بالأسود والرمادي، لونا الحرب والبؤس والمعاناة.
ويتضح هذا في رواية “الدفتر الكبير” للكاتبة الهنغارية الغريبة “أغوتا كريستوف”، مع التوأمين الذين كانا شاهدين على كل معالم الحرب والتهجير وانتقالهما من مدينة الطفولة إلى بؤس القرى، ومن حنان الأم إلى قساوة الجدة، وما طبعته على جسديهما الصغيرين وما غيرته في شخصيتيهما حتى صارا جسدين بعقل واحد و شعور واحد، وتجذرت بذور الكراهية والحقد والشر فيهما/فيه حتى لم يعد لمصطلح البراءة والطفولة معنى.
أراد أن يجرِّبا كل شعور ليعرفاه ويتخلصا منه ويريا ردة فعل الناس تجاهه، وذلك بالقيام بتمارين خاصة كتمرين الجسد على الجلد ليصمدا أمام كل ألم، تمرين الروح على الجلد للتخلص من كل كلمة تحيي ذكرى جميلة تألمهما ك “عزيزي؛ حبي ..”، تمرين على التسول والعمى والصمم؛ الصوم والقسوة حتى وصل بهما الأمر إلى القتل أيضا والانتقام.
هذا هو الوجه الثاني للطفل إذا ما وجد البيئة المناسبة له للظهور، حتى أنه كان جليا في كتاباتهما على “الدفتر الكبير”:
“سنكتب: ((نأكل الكثير من البندق))، وليس ((نحب البندق))، لأن الفعل ((أحب))، فعل غير مضبوط، فعل تعوزه الدقة والموضوعية. ((أن نحب البندق))، و((أن نحب أمنا))، صيغتان لا تنطويان على المعنى نفسه. فالصيغة الأولى تقصد مذاقاً رائعاً في الفم، بينما تشير الثانية إلى إحساس. الكلمات التي تصف الأحاسيس تظل مبهمة؛ الأحرى إذن الإعراض عنها، والانصراف إلى وصف الأشياء، ووصف الآدميين ووصف أنفسنا، لنَقُل الانصراف إلى وصف الوقائع وصفاً أميناً”
لا يتسع المقال للشرح في كثير من هذا النوع من الأدب -لعدم إلمامي بكلِّ الأعمال- إلا أنني سأذكر باختصار ودون أن أنسى كلًّا من “أوغي الجميل” من رواية “أعجوبة” لـآر جي بلاسيو ما قدمته حول حياة أي شخص يكون مختلف الخلقة عن غيره والصعوبات التي قد تواجهه في أي لحظة من التحديق ووصولا إلى الإيذاء اللفظي أو الجسدي، و“بلال” في “شيفرة بلال” لأحمد العمري وعن فكرة التحرر من القيود وكسر العادات والرسائل الموجهة لله والمرض والصديق والأم والأب.
و رسائل البراءة والحب والميتم ل “جودي آبوت” بطلة رواية “أبي طويل الساقين” -أو “يا صاحب الظل الطويل” – لـ “جين وابستر” و “ماريا مرغريتا” تلك الطفلة التشيلية التي كانت تبدع في رواية أفلام السينما لكل أهل القرية الذين لم يملكوا حق الدخول لدور السينما وقت الشقاء وقبل ظهور لعنة التلفاز – للكاتب التشيلي “إريان ريبيرا”،
و“عساكر قوس قزح” –لـاسكار بلانجي – لـ“آندريا هيراتا ” وصراعهم من أجل المعرفة والتعلم في أراضي أندونيسيا المنسية.
كما لا يغيب ذكر كتاب الخواطر “صديقي الله” لزياد الرحباني الذي كتبه الصبي الذي كانه في أيام الحرب، ونظرة الطفل للحرب والطفولة والله
” وسألتهم:
_صديقي هل يخاف؟
قالوا:
_ يخاف ألا تحبه.
وقلت:
_أين هو؟
قالوا:
_ في كل مكان ..”
ما دفعني لكتابة هذا المقال هو تلك القصة القصيرة من قلم الرائع “إدواردو غاليانو” من كتابه “أبناء الأيام”، الذي كان عبارة عن رزنامة لأحداث طواها الزمن.
وكان تاريخ “20 ديسمبر” موافقا ليوم الطفولة:
“أطفال يتكلمون”
” اليوم هو يوم الطفولة.
أخرج لأمشى وتصادفني طفلة في الثانية من العمر، أو أكثر قليلا، وفي تلك السن التي نكون جميعنا فيها وثنيين.
الطفلة تمضي متقافزة، تحيي الخضرة:
-مرحبا يا عشب !
– صباح الخير يا عشب !
تتوقف بعد ذلك لتصغي إلى العصافير المغردة على شجرة، وتصفق لها.
وفي ظهيرة هذا اليوم، يأتيني طفل في الثامنة، وربما في التاسعة من العمر، حاملا إلي في بيتي هدية. إنها محفظة ممتلئة برسوم.
الهدية آتية من إحدى مدارس مونتيفيديو، من حي رابية فيكتوريا. ويقدمها إلي الفتى موضحا:
– “هذه الرسوم هي نحن”.
سطر تمرد على الهامش:
كل ما أوردته من عناوين تطغى عليها روايات مترجمة من الأدب العالمي، ترى أين نصيب الأدب العربي من هذا النوع من الأدب؟ أو أن الطفل لا يعنى لنا الكثير!؟
تدقيق لغوي: منال بوخزنة.